رفعه: "يعرفني الله نفسه، فأسجد له سجدة يرضى بها عني، ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني". قوله: "فيدعني ما شاء الله" زاد مسلم: "أن يدعني" وكذا في رواية هشام، وفي حديث عبادة بن الصامت "فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا شاكرا له" وفي رواية معبد بن هلال "فأقوم بين يديه فيلهمني محامد لا أقدر عليها الآن فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا" وفي حديث أبي بكر الصديق "فينطلق إليه جبريل فيخر ساجدا قدر جمعة". قوله: "ثم يقال لي ارفع رأسك" في رواية مسلم: "فيقال يا محمد" وكذا في أكثر الروايات. وفي رواية النضر ابن أنس "فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد فقل له ارفع رأسك" فعلى هذا فالمعنى يقول لي على لسان جبريل. قوله: "وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع" في رواية مسلم بغير واو، وسقط من أكثر الروايات "وقل يسمع" ووقع في حديث أبي بكر "فيرفع رأسه فإذا نظر إلى ربه خر ساجدا قدر جمعة" وفي حديث سلمان "فينادى يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع وادع تجب". قوله: "فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمني" وفي رواية هشام "يعلمنيه" وفي رواية ثابت "بمحامد لم يحمده بها أحد قبلي، ولا يحمده بها أحد بعدي" وفي حديث سلمان "فيفتح الله له من الثناء والتحميد والتمجيد ما لم يفتح لأحد من الخلائق" وكأنه صلى الله عليه وسلم يلهم التحميد قبل سجوده وبعده، وفيه: "ويكون في كل مكان ما يليق به" وقد ورد ما لعله يفسر به بعض ذلك لا جميعه، ففي النسائي ومصنف عبد الرزاق ومعجم الطبراني من حديث حذيفة رفعه قال: "يجمع الناس في صعيد واحد فيقال: يا محمد، فأقول: لبيك وسعديك والخير في يديك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك تباركت وتعاليت سبحانك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك" زاد عبد الرزاق "سبحانك رب البيت" فذلك قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قال ابن منده في كتاب الإيمان: هذا حديث مجمع على صحة إسناده وثقة رواته. قوله: "ثم أشفع" في رواية معبد بن هلال "فأقول رب أمتي أمتي أمتي" وفي حديث أبي هريرة نحوه. قوله: "فيحد لي حدا" يبين لي في كل طور من أطوار الشفاعة حدا أقف عنده فلا أتعداه، مثل أن يقول شفعتك فيمن أخل بالجماعة ثم فيمن أخل بالصلاة ثم فيمن شرب الخمر ثم فيمن زنى وعلى هذا الأسلوب، كذا حكاه الطيبي، والذي يدل عليه سياق الأخبار أن المراد به تفضيل مراتب المخرجين في الأعمال الصالحة كما وقع عند أحمد عن يحيى القطان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في هذا الحديث بعينه وسأنبه عليه في آخره، وكما تقدم في رواية هشام عن قتادة عن أنس في كتاب الإيمان بلفظ: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة" وفي رواية ثابت عند أحمد "فأقول: "أي رب أمتي أمتي، فيقول: أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة" ثم ذكر نحو ما تقدم وقال: "مثقال ذرة" ثم قال: "مثقال حبة من خردل" ولم يذكر بقية الحديث. ووقع في طريق النضر بن أنس قال: "فشفعت في أمتي أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانا واحدا، فما زلت أتردد على ربي لا أقوم منه مقاما إلا شفعت" وفي حديث سلمان "فيشفع في كل من كان في قلبه مثقال حبة من حنطة ثم شعيرة ثم حبة من خردل فذلك المقام المحمود" وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من هذا في شرح الحديث الثالث عشر، ويأتي مبسوطا في شرح حديث الباب الذي يليه. قوله: "ثم أخرجهم من النار" قال الداودي: كأن راوي هذا الحديث ركب شيئا على غير أصله وذلك أن في أول الحديث ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار، يعني وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف والمرور على الصراط وسقوط من يسقط في تلك الحالة في النار، ثم
(11/437)
يقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج. وهو إشكال قوي، وقد أجاب عنه عياض وتبعه النووي وغيره بأنه قد وقع في حديث حذيفة المقرون بحديث أبي هريرة بعد قوله: "فيأتون محمدا فيقوم ويؤذن له" أي في الشفاعة "وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبي الصراط يمينا وشمالا فيمر أولكم كالبرق" الحديث. قال عياض: فبهذا يتصل الكلام، لأن الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها هي الإراحة من كرب الموقف، ثم تجيء الشفاعة في الإخراج، وقد وقع في حديث أبي هريرة -يعني الآتي في الباب الذي يليه بعد ذكر الجمع في الموقف- الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، فكان الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء والإراحة من كرب الموقف، قال: وبهذا تجتمع متون الأحاديث وتترتب معانيها. قلت: فكأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وسيأتي بقيته في شرح حديث الباب الذي يليه وفيه: "حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا وفي جانبي الصراط كلاليب مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج ومكدوش في النار" فظهر منه أنه صلى الله عليه وسلم أول ما يشفع ليقضي بين الخلق، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك، وقد وقع ذلك صريحا في حديث ابن عمر اختصر في سياقه الحديث الذي ساقه أنس وأبو هريرة مطولا. وقد تقدم في كتاب الزكاة من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه بلفظ: "إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم" ووقع في حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى "ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تمر أمتي على الصراط وهو منصوب بين ظهراني جهنم فيمرون" وفي حديث ابن عباس من رواية عبد الله بن الحارث عنه عند أحمد "فيقول عز وجل: يا محمد ما تريد أن أصنع في أمتك؟ فأقول: "يا رب عجل حسابهم" وفي رواية عن ابن عباس عند أحمد وأبي يعلى "فأقول أنا لها، حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذا أراد الله أن يفرغ من خلقه نادى مناد: أين محمد وأمته" الحديث وسيأتي بيان ما يقع في الموقف قبل نصب الصراط في شرح حديث الباب الذي يليه. وتعرض الطيبي للجواب عن الإشكال بطريق آخر فقال: يجوز أن يراد بالنار الحبس والكرب والشدة التي كان أهل الموقف فيها من دنو الشمس إلى رءوسهم وكربهم بحرها وسفعها حتى ألجمهم العرق، وأن يراد بالخروج منها خلاصهم من تلك الحالة التي كانوا فيها. قلت: وهو احتمال بعيد، إلا أن يقال إنه يقع إخراجان وقع ذكر أحدهما في حديث الباب على اختلاف طرقه والمراد به الخلاص من كرب الموقف، والثاني في حديث الباب الذي يليه ويكون قوله فيه: "فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه" بعد تمام الخلاص من الموقف ونصب الصراط والإذن في المرور عليه، ويقع الإخراج الثاني لمن يسقط في النار حال المرور فيتحدا، وقد أشرت إلى الاحتمال المذكور في شرح حديث العرق في "باب قوله تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون" والعلم عند الله تعالى. وأجاب القرطبي عن أصل الإشكال بأن في قوله آخر حديث أبي زرعة عن أبي هريرة بعد قوله صلى الله عليه وسلم فأقول "يا رب أمتي أمتي "فيقال أدخل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب" قال: في هذا ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيما طلب من تعجيل الحساب، فإنه لما أذن له في إدخال من لا حساب عليه دل على تأخير من عليه حساب
(11/438)
ليحاسب، ووقع في حديث الصور الطويل عند أبي يعلى "فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول الله: وقد شفعتك فيهم وأذنت لهم في دخول الجنة" قلت: وفيه إشعار بأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن، ثم ينادي المنادي: ليتبع كل أمة من كانت تعبد، فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين فيسقطون في النار أيضا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط ويوقف بعض من نجا عند القنطرة للمقاصصة بينهم ثم يدخلون الجنة، وسيأتي تفصيل ذلك واضحا في شرح حديث الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. ثم وقفت في تفسير يحيى بن سلام البصري نزيل مصر ثم إفريقية - وهو في طبقة يزيد بن هارون، وقد ضعفه الدار قطني. وقال أبو حاتم الرازي صدوق. وقال أبو زرعة ربما وهم. وقال ابن عدي يكتب حديثه مع ضعفه - فنقل فيه عن الكلبي قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بقيت زمرة من آخر زمر الجنة إذا خرج المؤمنون من الصراط بأعمالهم فيقول آخر زمرة من زمر النار لهم وقد بلغت النار منهم كل مبلغ: أما نحن فقد أخذنا بما في قلوبنا من الشك والتكذيب، فما نفعكم أنتم توحيدكم؟ قال فيصرخون عند ذلك يدعون ربهم، فيسمعهم أهل الجنة فيأتون آدم، فذكر الحديث في إتيانهم الأنبياء المذكورين قبل واحدا واحدا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فينطلق فيأتي رب العزة فيسجد له حتى يأمره أن يرفع رأسه ثم يسأله ما تريد؟ وهو أعلم به، فيقول: رب أناس من عبادك أصحاب ذنوب لم يشركوا بك وأنت أعلم بهم، فعيرهم أهل الشرك بعبادتهم إياك، فيقول وعزتي لأخرجنهم فيخرجهم قد احترقوا، فينضح عليهم من الماء حتى ينبتوا ثم يدخلون الجنة فيسمون الجهنميين، فيغبطه عند ذلك الأولون والآخرون، فذلك قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قلت: فهذا لو ثبت لرفع الإشكال لكن الكلبي ضعيف، ومع ذلك لم يسنده، ثم هو مخالف لصريح الأحاديث الصحيحة أن سؤال المؤمنين الأنبياء واحدا بعد واحد إنما يقع في الموقف قبل دخول المؤمنين الجنة والله أعلم. وقد تمسك بعض المبتدعة من المرجئة بالاحتمال المذكور في دعواه أن أحدا من الموحدين لا يدخل النار أصلا، وإنما المراد بما جاء من أن النار تسفعهم أو تلفحهم، وما جاء في الإخراج من النار جميعه محمول على ما يقع لهم من الكرب في الموقف، وهو تمسك باطل، وأقوى ما يرد به عليه ما تقدم في الزكاة من حديث أبي هريرة في قصة مانع الزكاة واللفظ لمسلم: "ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها منها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" الحديث بطوله وفيه ذكر الذهب والفضة والبقر والغنم، وهو دال على تعذيب من شاء الله من العصاة بالنار حقيقة زيادة على كرب الموقف. وورد في سبب إخراج بقية الموحدين من النار ما تقدم أن الكفار يقولون لهم: ما أغنى عنكم قول لا إله إلا الله وأنتم معنا، فيغضب الله لهم فيخرجهم. وهو مما يرد به على المبتدعة المذكورين. وسأذكره في شرح حديث الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. قوله: "ثم أعود فأقع ساجدا مثله في الثالثة أو الرابعة" في رواية هشام "فأحد لهم حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع ثانيا فأستأذن" إلى أن قال: "ثم أحد لهم حدا ثالثا فأدخلهم الجنة ثم أرجع" هكذا في أكثر الروايات. ووقع عند أحمد من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة "ثم أعود الرابعة فأقول: يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن" ولم
(11/439)
يشك بل جزم بأن هذا القول يقع في الرابعة. ووقع في رواية معبد بن هلال عن أنس أن الحسن حدث معبدا بعد ذلك بقوله: "فأقوم الرابعة" وفيه قول الله له "ليس ذلك لك" وأن الله يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وإن لم يعمل خيرا قط. فعلى هذا فقوله: "حبسه القرآن" يتناول الكفار وبعض العصاة ممن ورد في القرآن في حقه التخليد، ثم يخرج العصاة في القبضة وتبقى الكفار، ويكون المراد بالتخليد في حق العصاة المذكورين البقاء في النار بعد إخراج من تقدمهم. قوله: "حتى ما يبقى" في رواية الكشميهني: "ما بقي" وفي رواية هشام بعد الثالثة "حتى أرجع فأقول". قوله: "إلا من حبسه القرآن، وكان قتادة يقول عند هذا: أي وجب عليه الخلود" في رواية همام "إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود" كذا أبهم قائل "أي وجب" وتبين من رواية أبي عوانة أنه قتادة أحد رواته. ووقع في رواية هشام وسعيد "فأقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود" وسقط من رواية سعيد عند مسلم: "ووجب عليه الخلود" وعنده من رواية هشام مثل ما ذكرت من رواية همام، فتعين أن قوله: "ووجب عليه الخلود" في رواية هشام مدرج في المرفوع لما تبين من رواية أبي عوانة أنها من قول قتادة فسر به قوله: "من حبسه القرآن" أي من أخبر القرآن بأنه يخلد في النار. ووقع في رواية همام بعد قوله أي وجب عليه الخلود "وهو المقام المحمود الذي وعده الله" وفي رواية شيبان" إلا من حبسه القرآن، يقول: وجب عليه الخلود. وقال: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} وفي رواية سعيد عند أحمد بعد قوله إلا من حبسه القرآن "قال فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فيخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة" الحدث وهو الذي فصله هشام من الحديث وسبق سياقه في كتاب الإيمان مفردا، ووقع في رواية معبد بن هلال بعد روايته عن أنس من روايته عن الحسن البصري عن أنس قال: "ثم أقوم الرابعة فأقول أي رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول لي ليس ذلك لك" فذكر بقية الحديث في إخراجهم، وقد تمسك به بعض المبتدعة في دعواهم أن من دخل النار من العصاة لا يخرج منها لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} وأجاب أهل السنة بأنها نزلت في الكفار، وعلى تسليم أنها في أعم من ذلك فقد ثبت تخصيص الموحدين بالإخراج، ولعل التأييد في حق من يتأخر بعد شفاعة الشافعين حتى يخرجوا بقبضة أرحم الراحمين كما سيأتي بيانه في شرح حديث الباب الذي يليه، فيكون التأييد مؤقتا. وقال عياض: استدل بهذا الحديث من جوز الخطايا على الأنبياء كقول كل من ذكر فيه ما ذكر، وأجاب عن أصل المسألة بأنه لا خلاف في عصمتهم من الكفر بعد النبوة وكذا قبلها على الصحيح، وكذا القول في الكبيرة على التفصيل المذكور، ويلتحق بها ما يزري بفاعله من الصغائر، وكذا القول في كل ما يقدح في الإبلاغ من جهة القول، واختلفوا في الفعل فمنعه بعضهم حتى في النسيان، وأجاز الجمهور السهو لكن لا يحصل التمادي، واختلفوا فيما عدا ذلك كله من الصغائر فذهب جماعة من أهل النظر إلى عصمتهم منها مطلقا، وأولوا الأحاديث والآيات الواردة في ذلك بضروب من التأويل، ومن جملة ذلك أن الصادر عنهم إما أن يكون بتأويل من بعضهم أو بسهو أو بإذن، لكن خشوا أن لا يكون ذلك موافقا لمقامهم فأشفقوا من المؤاخذة أو المعاتبة، قال: وهذا أرجح المقالات، وليس هو مذهب المعتزلة وإن قالوا بعصمتهم مطلقا لأن منزعهم في ذلك التكفير بالذنوب مطلقا ولا يجوز على النبي الكفر، ومنزعنا أن أمة النبي مأمورة بالاقتداء به في أفعاله فلو جاز منه وقوع المعصية للزم الأمر بالشيء
(11/440)
الواحد والنهي عنه في حالة واحدة وهو باطل. ثم قال عياض: وجميع ما ذكر في حديث الباب لا يخرج عما قلناه لأن أكل آدم من الشجرة كان عن سهو، وطلب نوح نجاة ولده كان عن تأويل، ومقالات إبراهيم كانت معاريض وأراد بها الخير، وقتيل موسى كان كافرا كما تقدم بسط ذلك والله أعلم. وفيه جواز إطلاق الغضب على الله والمراد به ما يظهر من انتقامه ممن عصاه، وما يشاهده أهل الموقف من الأهوال التي لم يكن مثالها ولا يكون، كذا قرره النووي. وقال غيره المراد بالغضب لازمه وهو إرادة إيصال السوء للبعض، وقول آدم ومن بعده "نفسي نفسي نفسي" أي نفسي هي التي تستحق أن يشفع لها، لأن المبتدأ والخبر إذا كانا متحدين فالمراد به بعض اللوازم، ويحتمل أن يكون أحدهما محذوفا. وفيه تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق لأن الرسل والأنبياء والملائكة أفضل ممن سواهم، وقد ظهر فضله في هذا المقام عليهم، قال القرطبي: ولو لم يكن في ذلك إلا الفرق بين من يقول نفسي نفسي وبين من يقول أمتي أمتي لكان كافيا، وفيه تفضيل الأنبياء المذكورين فيه على من لم يذكر فيه لتأهلهم لذلك المقام العظيم دون من سواهم، وقد قيل إنما اختص المذكورون بذلك لمزايا أخرى لا تتعلق بالتفضيل، فآدم لكونه والد الجميع، ونوح لكونه الأب الثاني، وإبراهيم للأمر باتباع ملته، وموسى لأنه أكثر الأنبياء تبعا وعيسى لأنه أولى الناس بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث الصحيح. ويحتمل أن يكونوا اختصوا بذلك لأنهم أصحاب شرائع عمل بها من بين من ذكر أولا ومن بعده. وفي الحديث من الفوائد غير ما ذكر أن من طلب من كبير أمرا مهما أن يقدم بين يدي سؤاله وصف المسئول بأحسن صفاته وأشرف مزاياه ليكون ذلك أدعى لإجابته لسؤاله، وفيه أن المسئول إذا لم يقدر على تحصيل ما سئل يعتذر بما يقبل منه ويدل على من يظن أنه يكمل في القيام بذلك فالدال على الخير كفاعله، وأنه يثنى على المدلول عليه بأوصافه المقتضية لأهليته ويكون أدعى لقبول عذره في الامتناع، وفيه استعمال ظرف المكان في الزمان لقوله لست هناكم لأن هنا ظرف مكان فاستعملت في ظرف الزمان لأن المعنى لست في ذلك المقام، كذا قاله بعض الأئمة وفيه نظر، وإنما هو ظرف مكان على بابه لكنه المعنوي لا الحسي، مع أنه يمكن حمله على الحسي لما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم يباشر السؤال بعد أن يستأذن في دخول الجنة، وعلى قول من يفسر المقام المحمود بالقعود على العرش يتحقق ذلك أيضا. وفيه العمل بالعام قبل البحث عن المخصص أخذا من قصة نوح في طلبه نجاة ابنه، وقد يتمسك به من يرى بعكسه. وفيه أن الناس يوم القيامة يستصحبون حالهم في الدنيا من التوسل إلى الله تعالى في حوائجهم بأنبيائهم، والباعث على ذلك الإلهام كما تقدم في صدر الحديث. وفيه أنهم يستشير بعضهم بعضا ويجمعون على الشيء المطلوب وأنهم يغطى عنهم بعض ما علموه في الدنيا لأن في السائلين من سمع هذا الحديث ومع ذلك فلا يستحضر أحد منهم أن ذلك المقام يختص به نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ لو استحضروا ذلك لسألوه من أول وهلة ولما احتاجوا إلى التردد من نبي إلى نبي، ولعل الله تعالى أنساهم ذلك للحكمة التي تترب عليه من إظهار فضل نبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم تقريره. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان والحسن بن ذكوان هو أبو سلمة البصري تكلم فيه أحمد وابن معين وغيرهما لكنه ليس له في البخاري سوى هذا الحديث من رواية يحيى القطان عنه مع تعنته في الرجال، ومع ذلك فهو متابعة، وفي طبقته الحسين بن ذكوان وهو بضم الحاء وفتح السين وآخره نون بصري أيضا يعرف بالمعلم وبالمكتب وهو أوثق من أبي سلمة، وتقدم شرح حديث الباب في الحادي عشر. الحديث
(11/441)
التاسع عشر حديث أنس في قصة أم حارثة، تقدم في الخامس من وجه آخر عن حميد عنه. فيه: "ولقاب قوس أحدكم" تقدم شرحه وفيه: "ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة أطلعت إلى الأرض". قوله: "لأضاءت ما بينهما" وقع في حديث سعيد بن عامر الجمحي عند البراز بلفظ: "تشرف على الأرض لذهب ضوء الشمس والقمر". قوله: "ولملأت ما بينهما ريحا" أي طيبة، وفي حديث سعيد بن عامر المذكور "لملأت الأرض ريح مسك" وفي حديث أبي سعيد عند أحمد وصححه ابن حبان: "وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب". قوله: "ولنصيفها" بفتح النون وكسر الصاد المهملة بعدها تحتانية ثم فاء، فسر في الحديث بالخمار بكسر المعجمة وتخفيف الميم، وهذا التفسير من قتيبة فقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن إسماعيل بن جعفر بدونه. وقال الأزهري: النصيف الخمار، ويقال أيضا للخادم. قلت: والمراد هنا الأول جزما. وقد وقع في رواية الطبراني "ولتاجها على رأسها" وحكى أبو عبيد الهروي أن النصيف المعجر بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم وهو ما تلويه المرأة على رأسها. وقال الأزهري: هو كالعصابة تلفها المرأة على استدارة رأسها، واعتجر الرجل بعمامته لفها على رأسه ورد طرفها على وجهه وشيئا منها تحت ذقنه، وقيل المعجر ثوب تلبسه المرأة أصغر من الرداء، ووقع في حديث ابن عباس عند ابن أبي الدنيا "ولو أخرجت نصيفها لكانت الشمس عند حسنها مثل الفتيلة من الشمس لا ضوء لها، ولو أطلعت وجهها لأضاء حسنها ما بين السماء والأرض، ولو أخرجت كفها لافتتن الخلائق بحسنها". حديث أبي هريرة من طريق الأعرج عنه. قوله: "لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار" وقع عند ابن ماجه بسند صحيح من طريق آخر عن أبي هريرة أن ذلك يقع عند المسألة في القبر وفيه: "فيفرج له فرجه قبل النار فينظر إليها فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله" وفي حديث أنس الماضي في أواخر الجنائز "فيقال انظر إلى مقعدك من النار" زاد أبو داود في روايته: "هذا بيتك كان في النار، ولكن الله عصمك ورحمك" وفي حديث أبي سعيد "كان هذا منزلك لو كفرت بربك". قوله: "لو أساء ليزداد شكرا" أي لو كان عمل عملا سيئا وهو الكفر فصار من أهل النار، وقوله: "ليزداد شكرا" أي فرحا ورضا، فعبر عنه بلازمه، لأن الراضي بالشيء يشكر من فعل له ذلك. قوله: "ولا يدخل النار أحد" قدم في رواية الكشميهني الفاعل على المفعول، وقوله: "إلا أري" بضم الهمزة وكسر الراء. قوله: "لو أحسن" أي لو عمل عملا حسنا وهو الإسلام. قوله: "ليكون عليه حسرة" أي للزيادة في تعذيبه، ووقع عند ابن ماجه أيضا وأحمد بسند صحيح عن أبي هريرة بلفظ: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار. فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله" وذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} وقال جمهور المفسرين في قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي} صدقنا وعده وأورثنا الأرض" الآية: المراد أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو دخلوا الجنة، وهو موافق لهذا الحديث، وقيل المراد أرض الدنيا لأنها صارت خبزة فأكلوها كما تقدم. وقال القرطبي: يحتمل أن يسمى الحصول في الجنة وراثة من حيث اختصاصهم بذلك دون غيرهم، فهو إرث بطريق الاستعارة والله أعلم. قوله: "عن عمرو" هو ابن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، وقد وقع لنا هذا الحديث في نسخة إسماعيل بن جعفر حدثنا عمرو بن أبي عمرو، وأخرجه أبو نعيم من طريق علي ابن حجر عن إسماعيل، وكذا تقدم في العلم من رواية سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو، وقد تقدم أن اسم أبي عمرو والد عمرو
(11/442)
ميسرة. قوله: "من أسعد الناس بشفاعتك" لعل أبا هريرة سأل عن ذلك عند تحديثه صلى الله عليه وسلم بقوله: "وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" وقد تقدم سياقه وبيان ألفاظه في أول كتاب الدعوات، ومن طرقه: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" وتقدم شرح حديث الباب في "باب الحرص على الحديث" من كتاب العلم. وقوله: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه" بكسر القاف وفتح الموحدة أي قال ذلك باختياره، ووقع في رواية أحمد وصححه ابن حبان من طريق أخرى عن أبي هريرة نحو هذا الحديث وفيه: "لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي، وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه" والمراد بهذه الشفاعة المسئول عنها هنا بعض أنواع الشفاعة وهي التي يقول صلى الله عليه وسلم: "أمتي أمتي، فيقال له: أخرج من النار من في قلبه وزن كذا من الإيمان" فأسعد الناس بهذه الشفاعة من يكون إيمانه أكمل ممن دونه، وأما الشفاعة العظمي في الإراحة من كرب الموقف فأسعد الناس بها من يسبق إلى الجنة، وهم الذين يدخلونها بغير حساب، ثم الذين يلونهم وهو من يدخلها بغير عذاب بعد أن يحاسب ويستحق العذاب، ثم من يصيبه لفح من النار ولا يسقط. والحاصل أن في قوله: "أسعد" إشارة إلى اختلاف مراتبهم في السبق إلى الدخول باختلاف مراتبهم في الإخلاص، ولذلك أكده بقوله: "من قلبه" مع أن الإخلاص محله القلب، لكن إسناد الفعل إلى الجارحة أبلغ في التأكيد، وبهذا التقرير يظهر موقع قوله: "أسعد" وأنها على بابها من التفضيل، ولا حاجة إلى قول بعض الشراح الأسعد عنا بمعنى السعيد لكون الكل يشتركون في شرطية الإخلاص، لأنا نقول يشتركون فيه لكن مراتبهم فيه متفاوتة. وقال البيضاوي: يحتمل أن يكون المراد من ليس له عمل يستحق به الرحمة والخلاص، لأن احتياجه إلى الشفاعة أكثر وانتفاعه بها أوفى والله أعلم. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، وعبيدة بفتح أوله هو ابن عمرو، وهذا السند كله كوفيون. قوله: "إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا فيها" قال عياض: جاء نحو هذا في آخر من يجوز على الصراط يعني كما يأتي في آخر الباب الذي يليه قال: فيحتمل أنهما اثنان إما شخصان وإما نوعان أو جنسان، وعبر فيه بالواحد عن الجماعة لاشتراكهم في الحكم الذي كان سبب ذلك، ويحتمل أن يكون الخروج هنا بمعنى الورود وهو الجواز على الصراط فيتحد المعنى إما في شخص واحد أو أكثر. قلت: وقع عند مسلم من رواية أنس عن ابن مسعود ما يقوي الاحتمال الثاني ولفظه: "آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك" وعند الحاكم من طريق مسروق عن ابن مسعود ما يقتضي الجمع. قوله: "حبوا" بمهملة وموحدة أي زحفا وزنه ومعناه. ووقع بلفظ: "زحفا" في رواية الأعمش عن إبراهيم عند مسلم. قوله: "فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا" وفي رواية الأعمش "فيقال له أتذكر الزمان الذي كنت فيه - أي الدنيا - فيقول: نعم، فيقال له: تمن، فيتمنى". قوله: "أتسخر مني أو تضحك مني" وفي رواية الأعمش "أتسخر بي" ولم يشك، وكذا لمسلم من رواية منصور، وله من رواية أنس عن ابن مسعود "أتستهزئ بي وأنت رب العالمين" وقال المازري: هذا مشكل، وتفسير الضحك بالرضا لا يتأتى هنا، ولكن لما كانت عادة المستهزئ أن يضحك من الذي استهزأ به ذكر معه، وأما نسبة السخرية إلى الله تعالى فهي على سبيل المقابلة وإن لم يذكره في الجانب الآخر لفظا لكنه لما ذكر أنه عاهد مرارا وغدر حل فعله
(11/443)
محل المستهزئ وظن أن في قول الله له "ادخل الجنة" وتردده إليها وظنه أنها ملأي نوعا من السخرية به جزاء على فعله فسمي الجزاء على السخرية سخرية، ونقل عياض عن بعضهم أن ألف أتسخر مني ألف النفي كهي في قوله تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} على أحد الأقوال، قال: وهو كلام متدلل علم مكانه من ربه وبسطه له بالإعطاء. وجوز عياض أن الرجل قال ذلك وهو غير ضابط لما قال إذ وله عقله من السرور بما لم يخطر بباله، ويؤيده أنه قال في بعض طرقه عند مسلم لما خلص من النار "لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين" وقال القرطبي في "المفهم" أكثروا في تأويله، وأشبه ما قيل فيه أنه استخفه الفرح وأدهشه فقال ذلك، وقيل قال ذلك لكونه خاف أن يجازى على ما كان منه في الدنيا من التساهل في الطاعات وارتكاب المعاصي كفعل الساخرين، فكأنه قال: أتجازيني على ما كان مني؟ فهو كقوله سخر الله منهم وقوله الله يستهزئ بهم أي ينزل بهم جزاء سخريتهم واستهزائهم وسيأتي بيان الاختلاف في اسم هذا الرجل في آخر شرح حديث الباب الذي يليه. قوله: "ضحك حتى بدت نواجذه" بنون وجيم وذال معجمة جمع ناجذ، تقدم ضبطه في كتاب الصيام. وفي رواية ابن مسعود "فضحك ابن مسعود فقالوا: مم تضحك؟ فقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك رب العالمين حين قال الرجل: أتستهزئ مني؟ قال: لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر" قال البيضاوي: نسبة الضحك إلى الله تعالى مجاز بمعنى الرضا، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته، وضحك ابن مسعود على سبيل التأسي. قوله: "وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة" قال الكرماني: ليس هذا من تتمة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو من كلام الراوي نقلا عن الصحابة أو عن غيرهم من أهل العلم. قلت: قائل" وكان يقال: "هو الراوي كما أشار إليه، وأما قائل المقالة المذكورة فهو النبي صلى الله عليه وسلم، ثبت ذلك في أول حديث أبي سعيد عند مسلم ولفظه: "أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار" وساق القصة. وفي رواية له من حديث المغيرة أن موسى عليه السلام سأل ربه عن ذلك، ولمسلم أيضا من طريق همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقال له تمن فيتمنى ويتمنى فيقال إن لك ما تمنيت ومثله معه". قوله: "عبد الملك" هو ابن عمير، ونوفل جد عبد الله بن الحارث هو ابن الحارث بن عبد المطلب، والعباس هو ابن عبد المطلب وهو عم جد عبد الله بن الحارث الراوي عنه وللحارث بن نوفل ولأبيه صحبة، ويقال إن لعبد الله رؤية، وهو الذي كان يلقب ببة بموحدتين مفتوحتين الثانية ثقيلة ثم هاء تأنيث. قوله: "هل نفعت أبا طالب بشيء"؟ هكذا ثبت في جميع النسخ بحذف الجواب، وهو اختصار من المصنف، وقد رواه مسدد في مسنده بتمامه، وقد تقدم في كتاب الأدب عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة بالسند المذكور هنا بلفظ: "فإنه كان يحوطك ويغضب لك، قال: نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" ووقع في رواية المقدمي عن أبي عوانة عند الإسماعيلي: "الدركة" بزيادة هاء، وقد تقدم شرح ما يتعلق بذلك في شرح الحديث الرابع عشر، ومضى أيضا في قصة أبي طالب في المبعث النبوي لمسدد فيه سند آخر إلى عبد الملك بن عمير المذكور والله أعلم.
(11/444)
(11/437)
يقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج. وهو إشكال قوي، وقد أجاب عنه عياض وتبعه النووي وغيره بأنه قد وقع في حديث حذيفة المقرون بحديث أبي هريرة بعد قوله: "فيأتون محمدا فيقوم ويؤذن له" أي في الشفاعة "وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبي الصراط يمينا وشمالا فيمر أولكم كالبرق" الحديث. قال عياض: فبهذا يتصل الكلام، لأن الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها هي الإراحة من كرب الموقف، ثم تجيء الشفاعة في الإخراج، وقد وقع في حديث أبي هريرة -يعني الآتي في الباب الذي يليه بعد ذكر الجمع في الموقف- الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، فكان الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء والإراحة من كرب الموقف، قال: وبهذا تجتمع متون الأحاديث وتترتب معانيها. قلت: فكأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وسيأتي بقيته في شرح حديث الباب الذي يليه وفيه: "حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا وفي جانبي الصراط كلاليب مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج ومكدوش في النار" فظهر منه أنه صلى الله عليه وسلم أول ما يشفع ليقضي بين الخلق، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك، وقد وقع ذلك صريحا في حديث ابن عمر اختصر في سياقه الحديث الذي ساقه أنس وأبو هريرة مطولا. وقد تقدم في كتاب الزكاة من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه بلفظ: "إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم" ووقع في حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى "ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تمر أمتي على الصراط وهو منصوب بين ظهراني جهنم فيمرون" وفي حديث ابن عباس من رواية عبد الله بن الحارث عنه عند أحمد "فيقول عز وجل: يا محمد ما تريد أن أصنع في أمتك؟ فأقول: "يا رب عجل حسابهم" وفي رواية عن ابن عباس عند أحمد وأبي يعلى "فأقول أنا لها، حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذا أراد الله أن يفرغ من خلقه نادى مناد: أين محمد وأمته" الحديث وسيأتي بيان ما يقع في الموقف قبل نصب الصراط في شرح حديث الباب الذي يليه. وتعرض الطيبي للجواب عن الإشكال بطريق آخر فقال: يجوز أن يراد بالنار الحبس والكرب والشدة التي كان أهل الموقف فيها من دنو الشمس إلى رءوسهم وكربهم بحرها وسفعها حتى ألجمهم العرق، وأن يراد بالخروج منها خلاصهم من تلك الحالة التي كانوا فيها. قلت: وهو احتمال بعيد، إلا أن يقال إنه يقع إخراجان وقع ذكر أحدهما في حديث الباب على اختلاف طرقه والمراد به الخلاص من كرب الموقف، والثاني في حديث الباب الذي يليه ويكون قوله فيه: "فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه" بعد تمام الخلاص من الموقف ونصب الصراط والإذن في المرور عليه، ويقع الإخراج الثاني لمن يسقط في النار حال المرور فيتحدا، وقد أشرت إلى الاحتمال المذكور في شرح حديث العرق في "باب قوله تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون" والعلم عند الله تعالى. وأجاب القرطبي عن أصل الإشكال بأن في قوله آخر حديث أبي زرعة عن أبي هريرة بعد قوله صلى الله عليه وسلم فأقول "يا رب أمتي أمتي "فيقال أدخل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب" قال: في هذا ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيما طلب من تعجيل الحساب، فإنه لما أذن له في إدخال من لا حساب عليه دل على تأخير من عليه حساب
(11/438)
ليحاسب، ووقع في حديث الصور الطويل عند أبي يعلى "فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول الله: وقد شفعتك فيهم وأذنت لهم في دخول الجنة" قلت: وفيه إشعار بأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن، ثم ينادي المنادي: ليتبع كل أمة من كانت تعبد، فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين فيسقطون في النار أيضا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط ويوقف بعض من نجا عند القنطرة للمقاصصة بينهم ثم يدخلون الجنة، وسيأتي تفصيل ذلك واضحا في شرح حديث الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. ثم وقفت في تفسير يحيى بن سلام البصري نزيل مصر ثم إفريقية - وهو في طبقة يزيد بن هارون، وقد ضعفه الدار قطني. وقال أبو حاتم الرازي صدوق. وقال أبو زرعة ربما وهم. وقال ابن عدي يكتب حديثه مع ضعفه - فنقل فيه عن الكلبي قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بقيت زمرة من آخر زمر الجنة إذا خرج المؤمنون من الصراط بأعمالهم فيقول آخر زمرة من زمر النار لهم وقد بلغت النار منهم كل مبلغ: أما نحن فقد أخذنا بما في قلوبنا من الشك والتكذيب، فما نفعكم أنتم توحيدكم؟ قال فيصرخون عند ذلك يدعون ربهم، فيسمعهم أهل الجنة فيأتون آدم، فذكر الحديث في إتيانهم الأنبياء المذكورين قبل واحدا واحدا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فينطلق فيأتي رب العزة فيسجد له حتى يأمره أن يرفع رأسه ثم يسأله ما تريد؟ وهو أعلم به، فيقول: رب أناس من عبادك أصحاب ذنوب لم يشركوا بك وأنت أعلم بهم، فعيرهم أهل الشرك بعبادتهم إياك، فيقول وعزتي لأخرجنهم فيخرجهم قد احترقوا، فينضح عليهم من الماء حتى ينبتوا ثم يدخلون الجنة فيسمون الجهنميين، فيغبطه عند ذلك الأولون والآخرون، فذلك قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قلت: فهذا لو ثبت لرفع الإشكال لكن الكلبي ضعيف، ومع ذلك لم يسنده، ثم هو مخالف لصريح الأحاديث الصحيحة أن سؤال المؤمنين الأنبياء واحدا بعد واحد إنما يقع في الموقف قبل دخول المؤمنين الجنة والله أعلم. وقد تمسك بعض المبتدعة من المرجئة بالاحتمال المذكور في دعواه أن أحدا من الموحدين لا يدخل النار أصلا، وإنما المراد بما جاء من أن النار تسفعهم أو تلفحهم، وما جاء في الإخراج من النار جميعه محمول على ما يقع لهم من الكرب في الموقف، وهو تمسك باطل، وأقوى ما يرد به عليه ما تقدم في الزكاة من حديث أبي هريرة في قصة مانع الزكاة واللفظ لمسلم: "ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها منها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" الحديث بطوله وفيه ذكر الذهب والفضة والبقر والغنم، وهو دال على تعذيب من شاء الله من العصاة بالنار حقيقة زيادة على كرب الموقف. وورد في سبب إخراج بقية الموحدين من النار ما تقدم أن الكفار يقولون لهم: ما أغنى عنكم قول لا إله إلا الله وأنتم معنا، فيغضب الله لهم فيخرجهم. وهو مما يرد به على المبتدعة المذكورين. وسأذكره في شرح حديث الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. قوله: "ثم أعود فأقع ساجدا مثله في الثالثة أو الرابعة" في رواية هشام "فأحد لهم حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع ثانيا فأستأذن" إلى أن قال: "ثم أحد لهم حدا ثالثا فأدخلهم الجنة ثم أرجع" هكذا في أكثر الروايات. ووقع عند أحمد من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة "ثم أعود الرابعة فأقول: يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن" ولم
(11/439)
يشك بل جزم بأن هذا القول يقع في الرابعة. ووقع في رواية معبد بن هلال عن أنس أن الحسن حدث معبدا بعد ذلك بقوله: "فأقوم الرابعة" وفيه قول الله له "ليس ذلك لك" وأن الله يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وإن لم يعمل خيرا قط. فعلى هذا فقوله: "حبسه القرآن" يتناول الكفار وبعض العصاة ممن ورد في القرآن في حقه التخليد، ثم يخرج العصاة في القبضة وتبقى الكفار، ويكون المراد بالتخليد في حق العصاة المذكورين البقاء في النار بعد إخراج من تقدمهم. قوله: "حتى ما يبقى" في رواية الكشميهني: "ما بقي" وفي رواية هشام بعد الثالثة "حتى أرجع فأقول". قوله: "إلا من حبسه القرآن، وكان قتادة يقول عند هذا: أي وجب عليه الخلود" في رواية همام "إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود" كذا أبهم قائل "أي وجب" وتبين من رواية أبي عوانة أنه قتادة أحد رواته. ووقع في رواية هشام وسعيد "فأقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود" وسقط من رواية سعيد عند مسلم: "ووجب عليه الخلود" وعنده من رواية هشام مثل ما ذكرت من رواية همام، فتعين أن قوله: "ووجب عليه الخلود" في رواية هشام مدرج في المرفوع لما تبين من رواية أبي عوانة أنها من قول قتادة فسر به قوله: "من حبسه القرآن" أي من أخبر القرآن بأنه يخلد في النار. ووقع في رواية همام بعد قوله أي وجب عليه الخلود "وهو المقام المحمود الذي وعده الله" وفي رواية شيبان" إلا من حبسه القرآن، يقول: وجب عليه الخلود. وقال: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} وفي رواية سعيد عند أحمد بعد قوله إلا من حبسه القرآن "قال فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فيخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة" الحدث وهو الذي فصله هشام من الحديث وسبق سياقه في كتاب الإيمان مفردا، ووقع في رواية معبد بن هلال بعد روايته عن أنس من روايته عن الحسن البصري عن أنس قال: "ثم أقوم الرابعة فأقول أي رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول لي ليس ذلك لك" فذكر بقية الحديث في إخراجهم، وقد تمسك به بعض المبتدعة في دعواهم أن من دخل النار من العصاة لا يخرج منها لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} وأجاب أهل السنة بأنها نزلت في الكفار، وعلى تسليم أنها في أعم من ذلك فقد ثبت تخصيص الموحدين بالإخراج، ولعل التأييد في حق من يتأخر بعد شفاعة الشافعين حتى يخرجوا بقبضة أرحم الراحمين كما سيأتي بيانه في شرح حديث الباب الذي يليه، فيكون التأييد مؤقتا. وقال عياض: استدل بهذا الحديث من جوز الخطايا على الأنبياء كقول كل من ذكر فيه ما ذكر، وأجاب عن أصل المسألة بأنه لا خلاف في عصمتهم من الكفر بعد النبوة وكذا قبلها على الصحيح، وكذا القول في الكبيرة على التفصيل المذكور، ويلتحق بها ما يزري بفاعله من الصغائر، وكذا القول في كل ما يقدح في الإبلاغ من جهة القول، واختلفوا في الفعل فمنعه بعضهم حتى في النسيان، وأجاز الجمهور السهو لكن لا يحصل التمادي، واختلفوا فيما عدا ذلك كله من الصغائر فذهب جماعة من أهل النظر إلى عصمتهم منها مطلقا، وأولوا الأحاديث والآيات الواردة في ذلك بضروب من التأويل، ومن جملة ذلك أن الصادر عنهم إما أن يكون بتأويل من بعضهم أو بسهو أو بإذن، لكن خشوا أن لا يكون ذلك موافقا لمقامهم فأشفقوا من المؤاخذة أو المعاتبة، قال: وهذا أرجح المقالات، وليس هو مذهب المعتزلة وإن قالوا بعصمتهم مطلقا لأن منزعهم في ذلك التكفير بالذنوب مطلقا ولا يجوز على النبي الكفر، ومنزعنا أن أمة النبي مأمورة بالاقتداء به في أفعاله فلو جاز منه وقوع المعصية للزم الأمر بالشيء
(11/440)
الواحد والنهي عنه في حالة واحدة وهو باطل. ثم قال عياض: وجميع ما ذكر في حديث الباب لا يخرج عما قلناه لأن أكل آدم من الشجرة كان عن سهو، وطلب نوح نجاة ولده كان عن تأويل، ومقالات إبراهيم كانت معاريض وأراد بها الخير، وقتيل موسى كان كافرا كما تقدم بسط ذلك والله أعلم. وفيه جواز إطلاق الغضب على الله والمراد به ما يظهر من انتقامه ممن عصاه، وما يشاهده أهل الموقف من الأهوال التي لم يكن مثالها ولا يكون، كذا قرره النووي. وقال غيره المراد بالغضب لازمه وهو إرادة إيصال السوء للبعض، وقول آدم ومن بعده "نفسي نفسي نفسي" أي نفسي هي التي تستحق أن يشفع لها، لأن المبتدأ والخبر إذا كانا متحدين فالمراد به بعض اللوازم، ويحتمل أن يكون أحدهما محذوفا. وفيه تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق لأن الرسل والأنبياء والملائكة أفضل ممن سواهم، وقد ظهر فضله في هذا المقام عليهم، قال القرطبي: ولو لم يكن في ذلك إلا الفرق بين من يقول نفسي نفسي وبين من يقول أمتي أمتي لكان كافيا، وفيه تفضيل الأنبياء المذكورين فيه على من لم يذكر فيه لتأهلهم لذلك المقام العظيم دون من سواهم، وقد قيل إنما اختص المذكورون بذلك لمزايا أخرى لا تتعلق بالتفضيل، فآدم لكونه والد الجميع، ونوح لكونه الأب الثاني، وإبراهيم للأمر باتباع ملته، وموسى لأنه أكثر الأنبياء تبعا وعيسى لأنه أولى الناس بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث الصحيح. ويحتمل أن يكونوا اختصوا بذلك لأنهم أصحاب شرائع عمل بها من بين من ذكر أولا ومن بعده. وفي الحديث من الفوائد غير ما ذكر أن من طلب من كبير أمرا مهما أن يقدم بين يدي سؤاله وصف المسئول بأحسن صفاته وأشرف مزاياه ليكون ذلك أدعى لإجابته لسؤاله، وفيه أن المسئول إذا لم يقدر على تحصيل ما سئل يعتذر بما يقبل منه ويدل على من يظن أنه يكمل في القيام بذلك فالدال على الخير كفاعله، وأنه يثنى على المدلول عليه بأوصافه المقتضية لأهليته ويكون أدعى لقبول عذره في الامتناع، وفيه استعمال ظرف المكان في الزمان لقوله لست هناكم لأن هنا ظرف مكان فاستعملت في ظرف الزمان لأن المعنى لست في ذلك المقام، كذا قاله بعض الأئمة وفيه نظر، وإنما هو ظرف مكان على بابه لكنه المعنوي لا الحسي، مع أنه يمكن حمله على الحسي لما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم يباشر السؤال بعد أن يستأذن في دخول الجنة، وعلى قول من يفسر المقام المحمود بالقعود على العرش يتحقق ذلك أيضا. وفيه العمل بالعام قبل البحث عن المخصص أخذا من قصة نوح في طلبه نجاة ابنه، وقد يتمسك به من يرى بعكسه. وفيه أن الناس يوم القيامة يستصحبون حالهم في الدنيا من التوسل إلى الله تعالى في حوائجهم بأنبيائهم، والباعث على ذلك الإلهام كما تقدم في صدر الحديث. وفيه أنهم يستشير بعضهم بعضا ويجمعون على الشيء المطلوب وأنهم يغطى عنهم بعض ما علموه في الدنيا لأن في السائلين من سمع هذا الحديث ومع ذلك فلا يستحضر أحد منهم أن ذلك المقام يختص به نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ لو استحضروا ذلك لسألوه من أول وهلة ولما احتاجوا إلى التردد من نبي إلى نبي، ولعل الله تعالى أنساهم ذلك للحكمة التي تترب عليه من إظهار فضل نبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم تقريره. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان والحسن بن ذكوان هو أبو سلمة البصري تكلم فيه أحمد وابن معين وغيرهما لكنه ليس له في البخاري سوى هذا الحديث من رواية يحيى القطان عنه مع تعنته في الرجال، ومع ذلك فهو متابعة، وفي طبقته الحسين بن ذكوان وهو بضم الحاء وفتح السين وآخره نون بصري أيضا يعرف بالمعلم وبالمكتب وهو أوثق من أبي سلمة، وتقدم شرح حديث الباب في الحادي عشر. الحديث
(11/441)
التاسع عشر حديث أنس في قصة أم حارثة، تقدم في الخامس من وجه آخر عن حميد عنه. فيه: "ولقاب قوس أحدكم" تقدم شرحه وفيه: "ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة أطلعت إلى الأرض". قوله: "لأضاءت ما بينهما" وقع في حديث سعيد بن عامر الجمحي عند البراز بلفظ: "تشرف على الأرض لذهب ضوء الشمس والقمر". قوله: "ولملأت ما بينهما ريحا" أي طيبة، وفي حديث سعيد بن عامر المذكور "لملأت الأرض ريح مسك" وفي حديث أبي سعيد عند أحمد وصححه ابن حبان: "وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب". قوله: "ولنصيفها" بفتح النون وكسر الصاد المهملة بعدها تحتانية ثم فاء، فسر في الحديث بالخمار بكسر المعجمة وتخفيف الميم، وهذا التفسير من قتيبة فقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن إسماعيل بن جعفر بدونه. وقال الأزهري: النصيف الخمار، ويقال أيضا للخادم. قلت: والمراد هنا الأول جزما. وقد وقع في رواية الطبراني "ولتاجها على رأسها" وحكى أبو عبيد الهروي أن النصيف المعجر بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم وهو ما تلويه المرأة على رأسها. وقال الأزهري: هو كالعصابة تلفها المرأة على استدارة رأسها، واعتجر الرجل بعمامته لفها على رأسه ورد طرفها على وجهه وشيئا منها تحت ذقنه، وقيل المعجر ثوب تلبسه المرأة أصغر من الرداء، ووقع في حديث ابن عباس عند ابن أبي الدنيا "ولو أخرجت نصيفها لكانت الشمس عند حسنها مثل الفتيلة من الشمس لا ضوء لها، ولو أطلعت وجهها لأضاء حسنها ما بين السماء والأرض، ولو أخرجت كفها لافتتن الخلائق بحسنها". حديث أبي هريرة من طريق الأعرج عنه. قوله: "لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار" وقع عند ابن ماجه بسند صحيح من طريق آخر عن أبي هريرة أن ذلك يقع عند المسألة في القبر وفيه: "فيفرج له فرجه قبل النار فينظر إليها فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله" وفي حديث أنس الماضي في أواخر الجنائز "فيقال انظر إلى مقعدك من النار" زاد أبو داود في روايته: "هذا بيتك كان في النار، ولكن الله عصمك ورحمك" وفي حديث أبي سعيد "كان هذا منزلك لو كفرت بربك". قوله: "لو أساء ليزداد شكرا" أي لو كان عمل عملا سيئا وهو الكفر فصار من أهل النار، وقوله: "ليزداد شكرا" أي فرحا ورضا، فعبر عنه بلازمه، لأن الراضي بالشيء يشكر من فعل له ذلك. قوله: "ولا يدخل النار أحد" قدم في رواية الكشميهني الفاعل على المفعول، وقوله: "إلا أري" بضم الهمزة وكسر الراء. قوله: "لو أحسن" أي لو عمل عملا حسنا وهو الإسلام. قوله: "ليكون عليه حسرة" أي للزيادة في تعذيبه، ووقع عند ابن ماجه أيضا وأحمد بسند صحيح عن أبي هريرة بلفظ: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار. فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله" وذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} وقال جمهور المفسرين في قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي} صدقنا وعده وأورثنا الأرض" الآية: المراد أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو دخلوا الجنة، وهو موافق لهذا الحديث، وقيل المراد أرض الدنيا لأنها صارت خبزة فأكلوها كما تقدم. وقال القرطبي: يحتمل أن يسمى الحصول في الجنة وراثة من حيث اختصاصهم بذلك دون غيرهم، فهو إرث بطريق الاستعارة والله أعلم. قوله: "عن عمرو" هو ابن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، وقد وقع لنا هذا الحديث في نسخة إسماعيل بن جعفر حدثنا عمرو بن أبي عمرو، وأخرجه أبو نعيم من طريق علي ابن حجر عن إسماعيل، وكذا تقدم في العلم من رواية سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو، وقد تقدم أن اسم أبي عمرو والد عمرو
(11/442)
ميسرة. قوله: "من أسعد الناس بشفاعتك" لعل أبا هريرة سأل عن ذلك عند تحديثه صلى الله عليه وسلم بقوله: "وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" وقد تقدم سياقه وبيان ألفاظه في أول كتاب الدعوات، ومن طرقه: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" وتقدم شرح حديث الباب في "باب الحرص على الحديث" من كتاب العلم. وقوله: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه" بكسر القاف وفتح الموحدة أي قال ذلك باختياره، ووقع في رواية أحمد وصححه ابن حبان من طريق أخرى عن أبي هريرة نحو هذا الحديث وفيه: "لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي، وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه" والمراد بهذه الشفاعة المسئول عنها هنا بعض أنواع الشفاعة وهي التي يقول صلى الله عليه وسلم: "أمتي أمتي، فيقال له: أخرج من النار من في قلبه وزن كذا من الإيمان" فأسعد الناس بهذه الشفاعة من يكون إيمانه أكمل ممن دونه، وأما الشفاعة العظمي في الإراحة من كرب الموقف فأسعد الناس بها من يسبق إلى الجنة، وهم الذين يدخلونها بغير حساب، ثم الذين يلونهم وهو من يدخلها بغير عذاب بعد أن يحاسب ويستحق العذاب، ثم من يصيبه لفح من النار ولا يسقط. والحاصل أن في قوله: "أسعد" إشارة إلى اختلاف مراتبهم في السبق إلى الدخول باختلاف مراتبهم في الإخلاص، ولذلك أكده بقوله: "من قلبه" مع أن الإخلاص محله القلب، لكن إسناد الفعل إلى الجارحة أبلغ في التأكيد، وبهذا التقرير يظهر موقع قوله: "أسعد" وأنها على بابها من التفضيل، ولا حاجة إلى قول بعض الشراح الأسعد عنا بمعنى السعيد لكون الكل يشتركون في شرطية الإخلاص، لأنا نقول يشتركون فيه لكن مراتبهم فيه متفاوتة. وقال البيضاوي: يحتمل أن يكون المراد من ليس له عمل يستحق به الرحمة والخلاص، لأن احتياجه إلى الشفاعة أكثر وانتفاعه بها أوفى والله أعلم. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، وعبيدة بفتح أوله هو ابن عمرو، وهذا السند كله كوفيون. قوله: "إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا فيها" قال عياض: جاء نحو هذا في آخر من يجوز على الصراط يعني كما يأتي في آخر الباب الذي يليه قال: فيحتمل أنهما اثنان إما شخصان وإما نوعان أو جنسان، وعبر فيه بالواحد عن الجماعة لاشتراكهم في الحكم الذي كان سبب ذلك، ويحتمل أن يكون الخروج هنا بمعنى الورود وهو الجواز على الصراط فيتحد المعنى إما في شخص واحد أو أكثر. قلت: وقع عند مسلم من رواية أنس عن ابن مسعود ما يقوي الاحتمال الثاني ولفظه: "آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك" وعند الحاكم من طريق مسروق عن ابن مسعود ما يقتضي الجمع. قوله: "حبوا" بمهملة وموحدة أي زحفا وزنه ومعناه. ووقع بلفظ: "زحفا" في رواية الأعمش عن إبراهيم عند مسلم. قوله: "فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا" وفي رواية الأعمش "فيقال له أتذكر الزمان الذي كنت فيه - أي الدنيا - فيقول: نعم، فيقال له: تمن، فيتمنى". قوله: "أتسخر مني أو تضحك مني" وفي رواية الأعمش "أتسخر بي" ولم يشك، وكذا لمسلم من رواية منصور، وله من رواية أنس عن ابن مسعود "أتستهزئ بي وأنت رب العالمين" وقال المازري: هذا مشكل، وتفسير الضحك بالرضا لا يتأتى هنا، ولكن لما كانت عادة المستهزئ أن يضحك من الذي استهزأ به ذكر معه، وأما نسبة السخرية إلى الله تعالى فهي على سبيل المقابلة وإن لم يذكره في الجانب الآخر لفظا لكنه لما ذكر أنه عاهد مرارا وغدر حل فعله
(11/443)
محل المستهزئ وظن أن في قول الله له "ادخل الجنة" وتردده إليها وظنه أنها ملأي نوعا من السخرية به جزاء على فعله فسمي الجزاء على السخرية سخرية، ونقل عياض عن بعضهم أن ألف أتسخر مني ألف النفي كهي في قوله تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} على أحد الأقوال، قال: وهو كلام متدلل علم مكانه من ربه وبسطه له بالإعطاء. وجوز عياض أن الرجل قال ذلك وهو غير ضابط لما قال إذ وله عقله من السرور بما لم يخطر بباله، ويؤيده أنه قال في بعض طرقه عند مسلم لما خلص من النار "لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين" وقال القرطبي في "المفهم" أكثروا في تأويله، وأشبه ما قيل فيه أنه استخفه الفرح وأدهشه فقال ذلك، وقيل قال ذلك لكونه خاف أن يجازى على ما كان منه في الدنيا من التساهل في الطاعات وارتكاب المعاصي كفعل الساخرين، فكأنه قال: أتجازيني على ما كان مني؟ فهو كقوله سخر الله منهم وقوله الله يستهزئ بهم أي ينزل بهم جزاء سخريتهم واستهزائهم وسيأتي بيان الاختلاف في اسم هذا الرجل في آخر شرح حديث الباب الذي يليه. قوله: "ضحك حتى بدت نواجذه" بنون وجيم وذال معجمة جمع ناجذ، تقدم ضبطه في كتاب الصيام. وفي رواية ابن مسعود "فضحك ابن مسعود فقالوا: مم تضحك؟ فقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك رب العالمين حين قال الرجل: أتستهزئ مني؟ قال: لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر" قال البيضاوي: نسبة الضحك إلى الله تعالى مجاز بمعنى الرضا، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته، وضحك ابن مسعود على سبيل التأسي. قوله: "وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة" قال الكرماني: ليس هذا من تتمة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو من كلام الراوي نقلا عن الصحابة أو عن غيرهم من أهل العلم. قلت: قائل" وكان يقال: "هو الراوي كما أشار إليه، وأما قائل المقالة المذكورة فهو النبي صلى الله عليه وسلم، ثبت ذلك في أول حديث أبي سعيد عند مسلم ولفظه: "أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار" وساق القصة. وفي رواية له من حديث المغيرة أن موسى عليه السلام سأل ربه عن ذلك، ولمسلم أيضا من طريق همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقال له تمن فيتمنى ويتمنى فيقال إن لك ما تمنيت ومثله معه". قوله: "عبد الملك" هو ابن عمير، ونوفل جد عبد الله بن الحارث هو ابن الحارث بن عبد المطلب، والعباس هو ابن عبد المطلب وهو عم جد عبد الله بن الحارث الراوي عنه وللحارث بن نوفل ولأبيه صحبة، ويقال إن لعبد الله رؤية، وهو الذي كان يلقب ببة بموحدتين مفتوحتين الثانية ثقيلة ثم هاء تأنيث. قوله: "هل نفعت أبا طالب بشيء"؟ هكذا ثبت في جميع النسخ بحذف الجواب، وهو اختصار من المصنف، وقد رواه مسدد في مسنده بتمامه، وقد تقدم في كتاب الأدب عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة بالسند المذكور هنا بلفظ: "فإنه كان يحوطك ويغضب لك، قال: نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" ووقع في رواية المقدمي عن أبي عوانة عند الإسماعيلي: "الدركة" بزيادة هاء، وقد تقدم شرح ما يتعلق بذلك في شرح الحديث الرابع عشر، ومضى أيضا في قصة أبي طالب في المبعث النبوي لمسدد فيه سند آخر إلى عبد الملك بن عمير المذكور والله أعلم.
(11/444)
عدد المشاهدات *:
491070
491070
عدد مرات التنزيل *:
153131
153131
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 07/11/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 07/11/2013