الوجه السادس
أن مباني الإسلام الخمس المأمور بها وإن كان ضرر تركها لا يتعدى صاحبها فإنه يقتل بتركها في الجملة عند جماهير العلماء ويكفر أيضا عند كثير منهم أو أكثر السلف وأما فعل المنهي عنه الذي لا يتعدى ضرره صاحبه فإنه لا يقتل به عند أحد من الأئمة ولا يكفر به إلا إذا ناقض الإيمان لفوات الإيمان وكونه مرتدا أو زنديقا. وذلك أن من الأئمة من يقتله ويكفره بترك كل واحدة من الخمس لأن الإسلام بني عليها وهو قول طائفة من السلف ورواية عن أحمد اختارها بعض أصحابه. ومنهم من لا يقتله ولا يكفره إلا بترك الصلاة والزكاة وهي رواية أخرى عن أحمد كما دل عليه ظاهر القرآن في براءة وحديث ابن عمر وغيره ولأنهما منتظمان لحق الحق وحق الخلق كانتظام الشهادتين للربوبية والرسالة ولا بدل لهما من غير جنسهما بخلاف الصيام والحج. ومنهم من يقتله بهما ويكفره بالصلاة وبالزكاة إذا قاتل الإمام عليها كرواية عن أحمد. ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره إلا بالصلاة كرواية عن أحمد. ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره كرواية عن أحمد. ومنهم من لا يقتله إلا بالصلاة ولا يكفره كالمشهور من مذهب الشافعي لإمكان الاستيفاء منه. وتكفير تارك الصلاة هو المشهور المأثور عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين. ومورد النزاع هو فيمن أقر بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها وأما من لم يقر بوجوبها فهو كافر باتفاقهم وليس الأمر كما يفهم من إطلاق بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: أنه إن جحد وجوبها كفر وإن لم يجحد وجوبها فهو مورد النزاع بل هنا ثلاثة أقسام:
أحدها: إن جحد وجوبها فهو كافر بالاتفاق.
والثاني: أن لا يجحد وجوبها لكنه ممتنع من التزام فعلها كبرا أو حسدا أو بغضا لله ورسوله فيقول: اعلم أن الله أوجبها على المسلمين والرسول صادق في تبليغ القرآن ولكنه ممتنع عن التزام الفعل استكبارا أو حسدا للرسول أو عصبية لدينه أو بغضا لما جاء به الرسول فهذا أيضا كافر بالاتفاق فإن إبليس لما ترك السجود المأمور به لم يكن جاحدا للإيجاب فإن الله تعالى باشره بالخطاب وإنما أبى واستكبر وكان من الكافرين. وكذلك أبو طالب كان مصدقا للرسول فيما بلغه لكنه ترك اتباعه حمية لدينه وخوفا من عار الانقياد واستكبارا عن أن تعلو أسته رأسه فهذا ينبغي أن يتفطن له ومن أطلق من الفقهاء أنه لا يكفر إلا من يجحد وجوبها فيكون الجحد عنده متناولا للتكذيب بالإيجاب ومتناولا للامتناع عن الإقرار والالتزام كما قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] وإلا فمتى لم يقر ويلتزم فعلها قتل وكفر بالاتفاق.
والثالث: أن يكون مقرا ملتزما، لكن تركها كسلا وتهاونا، أو اشتغالا بأغراض له عنها فهذا مورد النزاع كمن عليه دين وهو مقر بوجوبه ملتزم لأدائه لكنه يمطل بخلا أو تهاونا. وهنا قسم رابع وهو: أن يتركها ولا يقر بوجوبها، ولا يجحد وجوبها، لكنه مقر بالإسلام من حيث الجملة فهل هذا من موارد النزاع، أو من موارد الإجماع ؟ ولعل كلام كثير من السلف متناول لهذا وهو المعرض عنها لا مقرا ولا منكرا.
وإنما هو متكلم بالإسلام فهذا فيه نظر فإن قلنا. يكفر بالاتفاق، فيكون اعتقاد وجوب هذه الواجبات على التعيين من الإيمان لا يكفي فيها الاعتقاد العام، كما في الخبريات من أحوال الجنة والنار والفرق بينهما أن الأفعال المأمور بها المطلوب فيها الفعل لا يكفي فيها الاعتقاد العام بل لا بد من اعتقاد خاص، بخلاف الأمور الخبرية، فإن الإيمان المجمل بما جاء به الرسول من صفات الرب وأمر المعاد يكفي فيه ما لم ينقض الجملة بالتفصيل ولهذا اكتفوا في هذه العقائد بالجمل وكرهوا فيها التفصيل المفضي إلى القتال والفتنة بخلاف الشرائع المأمور بها، فإنه لا يكتفي فيها بالجمل، بل لا بد من تفصيلها علما وعملا. وأما القاتل والزاني والمحارب فهؤلاء إنما يقتلون لعدوانهم على الخلق لما في ذلك من الفساد المتعدي ومن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه حد الله ولا يكفر أحد منهم. وأيضا فالمرتد يقتل لكفره بعد إيمانه: وإن لم يكن محاربا. فثبت أن الكفر والقتل لترك المأمور به أعظم منه لفعل المنهي عنه. وهذا الوجه قوي على مذهب الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد وجمهور السلف ودلائله من الكتاب والسنة متنوعة وأما على مذهب أبي حنيفة فقد يعارض بما قد يقال: إنه لا يوجب قتل أحد على ترك واجب أصلا حتى الإيمان، فإنه لا يقتل إلا المحارب لوجود الحراب منه وهو فعل المنهي عنه ويسوي بين الكفر الأصلي والطارئ فلا يقتل المرتد لعدم الحراب منه ولا يقتل من ترك الصلاة أو الزكاة إلا إذا كان في طائفة ممتنعة فيقاتلهم لوجود الحراب كما يقاتل البغاة وأما المنهي عنه فيقتل القاتل والزاني المحصن والمحارب إذا قتل فيكون الجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الاعتبار عند النزاع بالرد إلى الله وإلى الرسول والكتاب والسنة دال على ما ذكرناه من أن المرتد يقتل بالاتفاق وإن لم يكن من أهل القتال إذا كان أعمى أو زمنا أو راهبا والأسير يجوز قتله بعد أسره وإن كان حرابه قد انقضى.
الثاني: أن ما وجب فيه القتل إنما وجب على سبيل القصاص الذي يعتبر فيه المماثلة، فإن النفس بالنفس، كما تجب المقاصة في الأموال، فجزاء سيئة سيئة مثلها في النفوس والأموال والأعراض والأبشار، لكن إن لم يضر إلا المقتول كان قتله صائرا إلى أولياء المقتول، لأن الحق لهم كحق المظلوم في المال وإن قتله لأخذ المال كان قتله واجبا، لأجل المصلحة العامة التي هي حد الله كما يجب قطع يد السارق لأجل حفظ الأموال، ورد المال المسروق حق لصاحبه إن شاء أخذه وإن شاء تركه فخرجت هذه الصور عن النقض لم يبق ما يوجب القتل عنده بلا مماثلة إلا الزنا وهو من نوع العدوان أيضا ووقوع القتل به نادر، لخفائه وصعوبة الحجة عليه.
الثالث: أن العقوبة في الدنيا لا تدل على كبر الذنب وصغره، فإن الدنيا ليست دار الجزاء وإنما دار الجزاء هي الآخرة ولكن شرع من العقوبات في الدنيا ما يمنع الفساد والعدوان كما قال تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] وقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} [البقرة: 30]. فهذان السببان اللذان ذكرتهما الملائكة هما اللذان كتب الله على بني إسرائيل القتل بهما، ولهذا يقر كفار أهل الذمة بالجزية مع أن ذنبهم في ترك الإيمان أعظم باتفاق المسلمين من ذنب من نقتله من زان وقاتل. فأبو حنيفة رأى أن الكفر مطلقا إنما يقاتل صاحبه لمحاربته فمن لا حراب فيه لا يقاتل ولهذا يأخذ الجزية من غير أهل الكتاب العرب وإن كانوا وثنيين. وقد وافقه على ذلك مالك وأحمد في أحد قوليه ومع هذا يجوز القتل تعزيرا وسياسة في مواضع. وأما الشافعي فعنده نفس الكفر هو المبيح للدم إلا أن النساء والصبيان تركوا لكونهم مالا للمسلمين فيقتل المرتد لوجود الكفر وامتناع سببها عنده من الكفر بلا منفعة. وأما أحمد فالمبيح عنده أنواع أما الكافر الأصلي فالمبيح عنده هو وجود الضرر منه أو عدم النفع فيه أما الأول فالمحاربة بيد أو لسان فلا يقتل من لا محاربة فيه بحال من النساء والصبيان، والرهبان والعميان، والزمنى ونحوهم كما هو مذهب الجمهور.
وأما المرتد فالمبيح عنده هو الكفر بعد الإيمان وهو نوع خاص من الكفر، فإنه لو لم يقتل ذلك لكان الداخل في الدين يخرج منه فقتله حفظ لأهل الدين وللدين فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه بخلاف من لم يدخل فيه، فإنه إن كان كتابيا أو مشبها له فقد وجد إحدى غايتي القتال في حقه وإن كان وثنيا: فإن أخذت منه الجزية فهو كذلك وإن لم تؤخذ منه ففي جواز استرقاقه نزاع فمتى جاز استرقاقه كان ذلك كأخذ الجزية منه ومتى لم يمكن استرقاقه ولا أخذ الجزية منه بقي كافرا لا منفعة في حياته لنفسه - لأنه يزداد إثما - ولا للمؤمنين، فيكون قتله خيرا من إبقائه. وأما تارك الصلاة والزكاة: فإذا قتل كان عنده من قسم المرتدين لأنه بالإسلام ملتزم لهذه الأفعال فإذا لم يفعلها فقد ترك ما التزمه أو لأنها عنده من الغاية التي يمتد القتال إليها كالشهادتين فإنه لو تكلم بإحداهما وترك الأخرى لقتل لكن قد يفرق بينهما وأما إذا لم ويفرق في المرتد بين الردة المجردة فيقتل إلا أن يتوب وبين الردة المغلظة فيقتل بلا استتابة. فهذه مآخذ فقهية نبهنا بها على بعض أسباب القتل وقد تبين أنهم لا يتنازعون أن ترك المأمور به في الآخرة أعظم وأما في الدنيا فقد ذكرنا ما تقدم .
أن مباني الإسلام الخمس المأمور بها وإن كان ضرر تركها لا يتعدى صاحبها فإنه يقتل بتركها في الجملة عند جماهير العلماء ويكفر أيضا عند كثير منهم أو أكثر السلف وأما فعل المنهي عنه الذي لا يتعدى ضرره صاحبه فإنه لا يقتل به عند أحد من الأئمة ولا يكفر به إلا إذا ناقض الإيمان لفوات الإيمان وكونه مرتدا أو زنديقا. وذلك أن من الأئمة من يقتله ويكفره بترك كل واحدة من الخمس لأن الإسلام بني عليها وهو قول طائفة من السلف ورواية عن أحمد اختارها بعض أصحابه. ومنهم من لا يقتله ولا يكفره إلا بترك الصلاة والزكاة وهي رواية أخرى عن أحمد كما دل عليه ظاهر القرآن في براءة وحديث ابن عمر وغيره ولأنهما منتظمان لحق الحق وحق الخلق كانتظام الشهادتين للربوبية والرسالة ولا بدل لهما من غير جنسهما بخلاف الصيام والحج. ومنهم من يقتله بهما ويكفره بالصلاة وبالزكاة إذا قاتل الإمام عليها كرواية عن أحمد. ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره إلا بالصلاة كرواية عن أحمد. ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره كرواية عن أحمد. ومنهم من لا يقتله إلا بالصلاة ولا يكفره كالمشهور من مذهب الشافعي لإمكان الاستيفاء منه. وتكفير تارك الصلاة هو المشهور المأثور عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين. ومورد النزاع هو فيمن أقر بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها وأما من لم يقر بوجوبها فهو كافر باتفاقهم وليس الأمر كما يفهم من إطلاق بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: أنه إن جحد وجوبها كفر وإن لم يجحد وجوبها فهو مورد النزاع بل هنا ثلاثة أقسام:
أحدها: إن جحد وجوبها فهو كافر بالاتفاق.
والثاني: أن لا يجحد وجوبها لكنه ممتنع من التزام فعلها كبرا أو حسدا أو بغضا لله ورسوله فيقول: اعلم أن الله أوجبها على المسلمين والرسول صادق في تبليغ القرآن ولكنه ممتنع عن التزام الفعل استكبارا أو حسدا للرسول أو عصبية لدينه أو بغضا لما جاء به الرسول فهذا أيضا كافر بالاتفاق فإن إبليس لما ترك السجود المأمور به لم يكن جاحدا للإيجاب فإن الله تعالى باشره بالخطاب وإنما أبى واستكبر وكان من الكافرين. وكذلك أبو طالب كان مصدقا للرسول فيما بلغه لكنه ترك اتباعه حمية لدينه وخوفا من عار الانقياد واستكبارا عن أن تعلو أسته رأسه فهذا ينبغي أن يتفطن له ومن أطلق من الفقهاء أنه لا يكفر إلا من يجحد وجوبها فيكون الجحد عنده متناولا للتكذيب بالإيجاب ومتناولا للامتناع عن الإقرار والالتزام كما قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] وإلا فمتى لم يقر ويلتزم فعلها قتل وكفر بالاتفاق.
والثالث: أن يكون مقرا ملتزما، لكن تركها كسلا وتهاونا، أو اشتغالا بأغراض له عنها فهذا مورد النزاع كمن عليه دين وهو مقر بوجوبه ملتزم لأدائه لكنه يمطل بخلا أو تهاونا. وهنا قسم رابع وهو: أن يتركها ولا يقر بوجوبها، ولا يجحد وجوبها، لكنه مقر بالإسلام من حيث الجملة فهل هذا من موارد النزاع، أو من موارد الإجماع ؟ ولعل كلام كثير من السلف متناول لهذا وهو المعرض عنها لا مقرا ولا منكرا.
وإنما هو متكلم بالإسلام فهذا فيه نظر فإن قلنا. يكفر بالاتفاق، فيكون اعتقاد وجوب هذه الواجبات على التعيين من الإيمان لا يكفي فيها الاعتقاد العام، كما في الخبريات من أحوال الجنة والنار والفرق بينهما أن الأفعال المأمور بها المطلوب فيها الفعل لا يكفي فيها الاعتقاد العام بل لا بد من اعتقاد خاص، بخلاف الأمور الخبرية، فإن الإيمان المجمل بما جاء به الرسول من صفات الرب وأمر المعاد يكفي فيه ما لم ينقض الجملة بالتفصيل ولهذا اكتفوا في هذه العقائد بالجمل وكرهوا فيها التفصيل المفضي إلى القتال والفتنة بخلاف الشرائع المأمور بها، فإنه لا يكتفي فيها بالجمل، بل لا بد من تفصيلها علما وعملا. وأما القاتل والزاني والمحارب فهؤلاء إنما يقتلون لعدوانهم على الخلق لما في ذلك من الفساد المتعدي ومن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه حد الله ولا يكفر أحد منهم. وأيضا فالمرتد يقتل لكفره بعد إيمانه: وإن لم يكن محاربا. فثبت أن الكفر والقتل لترك المأمور به أعظم منه لفعل المنهي عنه. وهذا الوجه قوي على مذهب الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد وجمهور السلف ودلائله من الكتاب والسنة متنوعة وأما على مذهب أبي حنيفة فقد يعارض بما قد يقال: إنه لا يوجب قتل أحد على ترك واجب أصلا حتى الإيمان، فإنه لا يقتل إلا المحارب لوجود الحراب منه وهو فعل المنهي عنه ويسوي بين الكفر الأصلي والطارئ فلا يقتل المرتد لعدم الحراب منه ولا يقتل من ترك الصلاة أو الزكاة إلا إذا كان في طائفة ممتنعة فيقاتلهم لوجود الحراب كما يقاتل البغاة وأما المنهي عنه فيقتل القاتل والزاني المحصن والمحارب إذا قتل فيكون الجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الاعتبار عند النزاع بالرد إلى الله وإلى الرسول والكتاب والسنة دال على ما ذكرناه من أن المرتد يقتل بالاتفاق وإن لم يكن من أهل القتال إذا كان أعمى أو زمنا أو راهبا والأسير يجوز قتله بعد أسره وإن كان حرابه قد انقضى.
الثاني: أن ما وجب فيه القتل إنما وجب على سبيل القصاص الذي يعتبر فيه المماثلة، فإن النفس بالنفس، كما تجب المقاصة في الأموال، فجزاء سيئة سيئة مثلها في النفوس والأموال والأعراض والأبشار، لكن إن لم يضر إلا المقتول كان قتله صائرا إلى أولياء المقتول، لأن الحق لهم كحق المظلوم في المال وإن قتله لأخذ المال كان قتله واجبا، لأجل المصلحة العامة التي هي حد الله كما يجب قطع يد السارق لأجل حفظ الأموال، ورد المال المسروق حق لصاحبه إن شاء أخذه وإن شاء تركه فخرجت هذه الصور عن النقض لم يبق ما يوجب القتل عنده بلا مماثلة إلا الزنا وهو من نوع العدوان أيضا ووقوع القتل به نادر، لخفائه وصعوبة الحجة عليه.
الثالث: أن العقوبة في الدنيا لا تدل على كبر الذنب وصغره، فإن الدنيا ليست دار الجزاء وإنما دار الجزاء هي الآخرة ولكن شرع من العقوبات في الدنيا ما يمنع الفساد والعدوان كما قال تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] وقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} [البقرة: 30]. فهذان السببان اللذان ذكرتهما الملائكة هما اللذان كتب الله على بني إسرائيل القتل بهما، ولهذا يقر كفار أهل الذمة بالجزية مع أن ذنبهم في ترك الإيمان أعظم باتفاق المسلمين من ذنب من نقتله من زان وقاتل. فأبو حنيفة رأى أن الكفر مطلقا إنما يقاتل صاحبه لمحاربته فمن لا حراب فيه لا يقاتل ولهذا يأخذ الجزية من غير أهل الكتاب العرب وإن كانوا وثنيين. وقد وافقه على ذلك مالك وأحمد في أحد قوليه ومع هذا يجوز القتل تعزيرا وسياسة في مواضع. وأما الشافعي فعنده نفس الكفر هو المبيح للدم إلا أن النساء والصبيان تركوا لكونهم مالا للمسلمين فيقتل المرتد لوجود الكفر وامتناع سببها عنده من الكفر بلا منفعة. وأما أحمد فالمبيح عنده أنواع أما الكافر الأصلي فالمبيح عنده هو وجود الضرر منه أو عدم النفع فيه أما الأول فالمحاربة بيد أو لسان فلا يقتل من لا محاربة فيه بحال من النساء والصبيان، والرهبان والعميان، والزمنى ونحوهم كما هو مذهب الجمهور.
وأما المرتد فالمبيح عنده هو الكفر بعد الإيمان وهو نوع خاص من الكفر، فإنه لو لم يقتل ذلك لكان الداخل في الدين يخرج منه فقتله حفظ لأهل الدين وللدين فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه بخلاف من لم يدخل فيه، فإنه إن كان كتابيا أو مشبها له فقد وجد إحدى غايتي القتال في حقه وإن كان وثنيا: فإن أخذت منه الجزية فهو كذلك وإن لم تؤخذ منه ففي جواز استرقاقه نزاع فمتى جاز استرقاقه كان ذلك كأخذ الجزية منه ومتى لم يمكن استرقاقه ولا أخذ الجزية منه بقي كافرا لا منفعة في حياته لنفسه - لأنه يزداد إثما - ولا للمؤمنين، فيكون قتله خيرا من إبقائه. وأما تارك الصلاة والزكاة: فإذا قتل كان عنده من قسم المرتدين لأنه بالإسلام ملتزم لهذه الأفعال فإذا لم يفعلها فقد ترك ما التزمه أو لأنها عنده من الغاية التي يمتد القتال إليها كالشهادتين فإنه لو تكلم بإحداهما وترك الأخرى لقتل لكن قد يفرق بينهما وأما إذا لم ويفرق في المرتد بين الردة المجردة فيقتل إلا أن يتوب وبين الردة المغلظة فيقتل بلا استتابة. فهذه مآخذ فقهية نبهنا بها على بعض أسباب القتل وقد تبين أنهم لا يتنازعون أن ترك المأمور به في الآخرة أعظم وأما في الدنيا فقد ذكرنا ما تقدم .
عدد المشاهدات *:
496436
496436
عدد مرات التنزيل *:
267132
267132
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 18/04/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 18/04/2013