63- الرابع: عن أنس- رضي الله عنه- قال: ((إنكم لتعملون أعمالا هي أدقُّ في أعينكم من الشَّعْرِ، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات)) (295) رواه البخاري وقال: ((الموبقات)) المهلكات.
 
أنس بن مالك- رضي الله عنه- من المعمَّرين، فبقي بعد النبي صلى الله عليه وسلم حوالي تسعين سنة. فتغيَّرت الأمور في عهده- رضي الله عنه- واختلفت أحوال الناس، وصاروا يتهاونون في بعض الأمور العظيمة في عهد الصحابة رضي الله عنهم. مثل صلاة الجماعة، فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - لا يتخلَّف أحد عنها إلا منافق أو مريض معذور، ولكن الناس تهاونوا بها ولم يكونوا على ما كان عليه الصحابة- رضي الله عنهم - في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. بل إن الناس في عهدنا صاروا يتهاونون بالصلاة نفسها لا بصلاة الجماعة فقط، فلا يصلُّون، أو يصلُّون ويتركون، أو يوخِّرون الصلاة عن وقتها، كل هذه أعمال يسيرة عند بعض الناس، لكنها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة- رضي الله عنهم - كانت تُعَدُّ من الموبقات. وكذلك أيضا الغش في عهد النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: ((من غشَّ فليس مني)) (296). لكن انظر إلى الناس اليوم تجد أن الغش عندهم أهون من كثير من الأشياء، بل إن بعضهم - والعياذ بالله- يعد الغش من الشطارة في البيع والشراء والعقود، ويرى أن هذا من باب الحذق والذكاء- والدهاء نسأل الله العافية- مع أن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من الإنسان الذي يغش الناس. ومن ذلك الكذب: والكذب من الأشياء العظيمة في عهد الصحابة- رضي الله عنهم - فيرونه من الموبقات، لكن كثيرا من الناس يَعُدُّه أمرا هيِّنا، فتجده يكذب ولا يبالي بالكذب، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) (297) .وربما يكذب في أمور أخطر فيجحد ما يجب عليه للناس، أو يدَّعي ما ليس له ويحاكمهم عند القاضي ويحلف على ذلك، فيكون- والعياذ بالله- ممن يلقى الله وهو عليه غضبان. إلى غير ذلك من المسائل الكثيرة التي يعدها الصحابة من المهلكات، ولكن الناس اختلفوا فصارت في أعينهم أدقَّ من الشعر، وذلك لأنه كلما قوي الإيمان عَظُمَتِ المعصية عند الإنسان، وكلما ضعف الإيمان خفَّت المعصية في قلب الإنسان ورآها أمرًا هينا، يتهاون ويتكاسل عن الواجب ولا يبالي، لأنه ضعيف الإيمان.


(295) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق،باب ما يتقى من محفرات الذنوب، رقم(6492).
(296) أخرجه مسلم،كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه و سلم((من غشنا فليس منا)) رقم(102).
(297) تقدم تخريجه ص(293) .

الموضوع السابق


62- الثالث: عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كنتُ خَلْفَ النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: ((يا غلام، إني أُعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم: أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيء،لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفَّت الصحف)) (291) . رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرَّف إلى الله في الرخاء يَعرِفُكَ في الشدَّة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن لِيُصيبك، وما أصابك لم يكن لِيُخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يُسرا)).