فصــل: وهو أن المؤمن لابد أن يقوم بقلبه من معرفة الله والمحبة له
 
/ فصــل
وهو أن المؤمن لابد أن يقوم بقلبه من معرفة الله والمحبة له، ما يوجب أن يكون للمعروف المحبوب في قلبه من الآثار ما يشبه الحلول من بعض الوجوه، لا أنه حلول ذات المعروف المحبوب، لكن هو الإيمان به ومعرفة أسمائه وصفاته‏.‏
قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ‏}‏الآية ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏، قال أُبَيّ بن كعب‏:‏ مثل نوره في قلب المؤمن فهذه هي الأنوار التي تحصل في قلوب المؤمنين‏.‏
وقد قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ إنه الكفر بذلك، فإن من كفر بالإقرار الذي هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله والإسلام له، المتضمن للاعتقاد والانقياد لإيجاب الواجبات، وتحريم المحرمات، وإباحة المباحات، فهو كافر، إذ المقصود لنا من إنزال الكتب وإرسال الرسل هو حصول الإيمان لنا، فمن كفر بهذا فهو كافر بذاك، وهذا قد يسمى المثل والمثال؛ لأنه قد يقال‏:‏ إن العلم مثال المعلوم في العالم، وكذلك الحب يكون فيه تمثيل المحبوب في المحب‏.‏
ثم من الناس من يدعي أن كل علم وكل حب ففيه هذا المثال، كما يقوله قوم من المتفلسفة، ومنهم من ينكر حصول شيء من هذا المثال في شيء من العلم والحب‏.‏
والتحقيق‏:‏ أنه قد يحصل تمثل وتخيل لبعض العالمين والمحبين، حتى/ يتخيل صورة المحبوب، وقد لا يحصل تخيل حسي، وليس هذا المثل من جنس الحقيقة أصلا، وإنما لما كان العلم مطابقا للمعلوم وموافقا له، غير مخالف له، كان بين المطابِق والمطَابَق، والموافِق والموافَق نوع تناسب وتشابه، ونوع ما من أنواع التمثيل، فإن المثل يضرب للشيء لمشاركته إياه من بعض الوجوه، وهنا قطعا اشتراك ما واشتباه ما‏.‏
وقد قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏ أنه هذا، وفي حديث مأثور‏:‏ ‏(‏ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن النقي التقي الوادع اللين‏)‏، ويقال‏:‏ القلب بيت الرب، وهذا هو نصيب العباد من ربهم، وحظهم من الإيمان به، كما جاء عن بعض السلف أنه قال‏:‏ إذا أحب أحدكم أن يعلم كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله من قلبه، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه‏.‏
وروى مرفوعا من حديث أيوب بن عبد الله بن خالد بن صفوان، عن جابر بن عبد الله، رواه أبو يعلى الموصلي، وابن أبي الدنيا في كتاب الذكر، ولهذا قال أبناء يعقوب‏:‏ ‏{‏نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏، فإن ألوهية الله متفاوتة في قلوبهم على درجات عظيمة تزيد وتنقص، ويتفاوتون فيها تفاوتًا لا ينضبط طرفاه، حتى قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حق شخصين‏:‏ ‏(‏هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا‏)‏‏.‏ فصار واحد/ من الآدميين خيرًا من ملء الأرض من بني جنسه، وهذا تباين عظيم لا يحصل مثله في سائر الحيوان‏.‏
وإلى هذا المعنى أشار من قال‏:‏ ‏(‏ما سبقكم أبو بكر بفضل صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وَقَرَ في قلبه‏)‏، وهو اليقين والإيمان ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وزنتُ بالأمة فرجَحْتُ، ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح، ثم وزن عمر بالأمة فرجح، ثم رفع الميزان‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عنه الصديق‏:‏ ‏(‏أيها الناس، سلوا الله اليقين والعافية، فلم يعط أحد بعد اليقين خيرًا من العافية‏)‏ رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه‏.‏ وقال رقبة بن مصقلة للشعبي‏:‏ رزقك الله اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعتمد في الدين إلا عليه‏.‏
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد عن ‏[‏سيار، وحدثنا جعفر عن عمران القصير‏]‏ قال‏:‏ قال موسى‏:‏ ‏(‏يارب، أين أجدك‏؟‏ قال‏:‏ يا موسي، عند المُنْكَسِرةِ قلوبُهُم من أجلي، أقترب إليها كل يوم شبرًا، ولولا ذلك لاحترقت قلوبهم‏)‏
وقد يتوسع في العبارة عن هذا المعنى، حتى يقال‏:‏ ما في قلبي إلا الله، ما عندي إلا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن الله عز وجل‏:‏ ‏(‏أما علمت أن عبدي فلانا مرض‏؟‏ فلو عُدْتَه لوجدتني عنده‏)‏ ويقال‏:‏
ساكن في القلب يعمره ** لست أنساه فأذكره
ويقال‏:‏
/مثالك في عيني، وذكراك في فمي ** ومثواك في قلبي، فأين تغيـــــب‏؟‏
وهذا القدر يقوى قوة عظيمة، حتى يعبر عنه بالتجلي والكشف ونحو ذلك باتفاق العقلاء، ويحصل معه القرب منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد‏)‏، وقال الله ـ تعالى ـ في الحديث القدسي‏:‏ ‏(‏من تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعا‏)‏
لكن هل في تقرب العبد إلى الله حركة إلى اللّه أو إلى بعض الأماكن‏؟‏ اتفقوا على أنه قد تحصل حركة بدن العبد إلى بعض الأمكنة المشرفة، التي يظهر فيها الإيمان بالله من معرفته وذكره وعبادته، كالحج إلى بيته، والقصد إلى مساجده، ومنه قول إبراهيم‏:‏ ‏{‏وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ‏}‏‏[‏الصافات‏:‏ 99‏]‏‏.‏
وأما حركة روحه إلى مثل السموات وغيرها من الأمكنة، فأقر به جمهور أهل الإسلام، وأنكره الصابئة الفلاسفة المشاؤون ومن وافقهم، وحركة روحه أو بدنه إلى الله أقرَّ بها أهل الفطرة، وأهل السنة والجماعة، وأنكرها كثير من أهل الكلام‏.‏
وأما القرب من الله إلى عبده‏:‏ هل هو تابع لتقرب العبد وتقريبه الذي هو علمه أو عمله، أو هناك قرب آخر من الرب‏؟‏
هذا فيه كلام ليس هذا موضعه‏.‏
/ومن لم يثبت إلا الأول، فهم في قرب الرب على قولين‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه تجليه وظهوره له‏.‏
والثاني‏:‏ أنه مع ذلك دنو العبد منه، واقترابه الذي هو بعمله وحركته‏.‏ وللقرب معنى آخر‏:‏ وهو التقارب بمعنى المناسبة، كما يقال‏:‏ هذا يقارب هذا، وليس هذا موضعه‏.‏