مهلك أبي مسلم الخراساني
 
في هذه السنة أيضا لما فرغ أبو مسلم من الحج سبق الناس بمرحلة فجاءه خبر السفاح في الطريق فكتب إلى أبي جعفر يعزيه في أخيه ولم يهنئه بالخلافة ولا رجع إليه فغضب المنصور من ذلك مع ما كان قد أضمر له من السوء إذا أفضيت إليه الخلافه وقيل أن المنصور هو الذي كان قد تقدم بين يدي الحج بمرحلة وانه لما جاء خبر موت أخيه كتب إلى أبي مسلم يستعجله في السير كما قدمناه فقال لأبي أيوب أكتب له كتابا غليظا فلما بلغه الكتاب أرسل يهنئه بالخلافه وانقمع من ذلك وقال بعض الأمراء للمنصور إنا نرى أن لا تجامعه في الطريق فان معه من الجنود من لا يخالفه وهم له أهيب وعلى طاعته أحرص وليس معك أحد فأخذ المنصور برأيه ثم كان من أمره مبايعته لأبي جعفر ما ذكرنا ثم بعث إلى عمه عبدالله فكسره كما تقدم وقد بعث في غبون ذلك الحسن بن قحطبه لأبي أيوب كاتب رسائل المنصور يشافهه ويخبره بأن أبا مسلم متهم عند أبي جعفر فانه اذا جاءه كتاب منه يقرأه ثم يلوي شدقيه ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر ويضحكان استهزاء فقال أيوب إن تهمة أبي مسلم عندنا أظهر من هذا ولما بعث أبو جعفر مولاه أبا الخطيب يقطين ليحتاط على ما أصيب من معسكر عبدالله من الأموال والجواهر الثمينه وغيرها غضب أبو مسلم فشتم أبا جعفر وهم بأبي الخصيب حتى قيل له إنه رسول فتركه ورجع فلما قدم أخبر المنصور بما كان وبما هم به أبو مسلم من قتله فغضب المنصور وخشي أن يذهب أبو مسلم إلى
خراسان فيشق عليه تحصيله بعد ذلك وأن تحدث حوادث فكتب إليه مع يقطين إني قد وليتك الشام ومصر وهما خير من خراسان فابعث إلى مصر من شئت وأقم أنت بالشام لتكون أقرب إلى أمير المؤمنين إذا اراد لقاءك كنت منه قريبا فغضب أبو مسلم وقال قد ولاني الشام ومصر ولى ولاية خراسان فإذا ذهب اليها واستخلف على الشام ومصر فكتب إلى المنصور بذلك فقلق المنصور من ذلك كثيرا ورجع أبا مسلم من الشام قاصدا خراسان وهو عازم على مخالفة المنصور فخرج المنصور من الانبار إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم بالمسيرة إليه فكتب إليه أبو مسلم وهو على الزاب عازم على الدخول إلى خراسان أنه لم يبق لأمير المؤمنين عدو إلا مكنه الله منه وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء فنحن نافرون من قربك حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت حريون بالسمع والطاعة غير انها من بعيد حيث يقارنها السلامه فإن ارضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك وان أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقصت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسي عن مقامات الذل والإهانه فلما وصل الكتاب إلى المنصور وكتب إلى أبي مسلم قد فهمت كتابك وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة إلى ملوكهم الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم وإنما راحتهم في تبدد نظام الجماعة فلم سويت نفسك بهم وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سمع ولا طاعة وقد حمل أمير المؤمنين عيسى بن موسى اليك رسالة ليسكن اليها قلبك إن أصغيت اليها واسأله أن يحول بين الشيطان ونزعاته وبينك فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده من هذا ولا أقرب من طبه من الباب الذي فتحته عليك ويقال إن أبا مسلم كتب إلى المنصور أما بعد فإني أتخذت رجلا إماما ودليلا على ما أفترض الله على خلقه وكان في محلة العلم نازلا وفي قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه طمعا في قليل قد تعافاه الله إلى خلقه وكان كالذي دلى بغرور وأمرني أن أجرد السيف وأرفع المرحمه ولا أقبل المعذره ولا أقيل العثرة ففعلت توطيدا لسلطانكم حتى عرفكم الله من كان يجهلكم وأطاعكم من كان عدوكم وأظهركم الله بي بعد الأخفاء والحقارة والذل ثم استنقذني الله بالتوبه فان يعف عني فقديما عرف به ونسب إليه وان يعاقبني فيما قدمت يداي وما الله بظلام للعبيد وذكره المدني عن شيوخه
وبعث المنصور إليه جرير بن يزيد بن عبدالله البجلي وقد كان أوحد أهل زمانه في جماعة من الأمراء وأمره أن يكلم أبا مسلم باللين كلاما يقدر عليه وأن يكون في جملة ما يكلمه به
أنه يريد رفع قدرك وعلو منزلتك والإطلاقات لك فان جاء بهذا فذاك وان أبى فقل هو بريء من العباس إن شققت العصا على وجهك ليدركنك بنفسه وليقاتلنك دون غيره ولو خضت البحر الخضم لخاضه خلفك حتى يدركك فيقتلك أو يموت قبل ذلك ولا تقل له هذا حتى تيأس من رجوعه بالتي هي أحسن فلما قدم عليه أمراء المنصور بحلوان دخلوا عليه ولا موه فيما هم به من منابذة أمير المؤمنين وما هو فيه من مخالفته ورغبوه الرجوع إلى الطاعة فشاور ذوي الرأي من أمرائه فكلهم نهاه عن الرجوع إليه واشاروا بأن يقيم في الري فتكون خراسان تحت حكمه وجنوده طوعا له فان استقام له الخليفة والإ كان في عزو منعه من الجند فعند ذلك أرسل أبو مسلم إلى أمراء المنصور فقال لهم ارجعوا إلى صاحبكم فلست أتقاه فلما استيأسوا منه قالوا ذلك الكلام الذي كان المنصور أمرهم به فلما سمع ذلك كسره جدا وقال قوموا عني الساعة
وكان أبو مسلم قد استخلف على خراسان أبا داود ابراهيم بن خالد فكتب إليه المنصور في غيبة أبي مسلم حين أتهم إن ولاية خراسان لك ما بقيت فقد وليتكها وعزلت عنها أبا مسلم فعند ذلك كتب أبو داود إلى أبي مسلم حين بلغه ما عليه من منابذة الخليفة أنه ليس يليق بنا منابذة خلفاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجع إلى إمامك سامعا مطيعا والسلام فزاده ذلك كسرا أيضا فبعث اليهم أبو مسلم إني سأبعث إليه أبا اسحاق وهو ممن أثق به فبعث أبا اسحاق إلى المنصور فأكرمه ووعده بنيابة العراق إن هو رده فلما رجع إليه أبو إسحاق قال له ما وراءك قال رأيتهم معظمين لك يعرفون قدرك فعزه ذلك وعزم على الذهاب إلى الخليفة فاستشار أميرا يقال له نيزك فنهاه فصمم على الذهاب فلما رآه نيزك عازما علىالذهاب تمثل بقول الشاعر
ما للرجال مع القضاء محالة * ذهب القضاء بحيلة الأقوام
ثم قال له احفظ عني واحده قال وما هي قال اذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع من شئت بالخلافة فإن الناس لا يخالفونك وكتب أبو مسلم يعلمه بقدومه عليه قال ابو أيوب كاتب الرسائل فدخلت على المنصور وهو جالس في خباء شعر جالس في مصلاه بعد العصر وبين يديه كتاب فألقاه إلي فإذا هو كتاب أبي مسلم بالقدوم يعلمه عليه ثم قال الخليفة والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه قال أبو أيوب فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون وبت تلك الليلة لا يأتني نوم وأفكر في هذه الواقعة وقلت إن دخل أبو مسلم خائفا ربما يبدو منه شر إلى الخليفة والمصلحة تقتضي أن يدخل آمنا ليتمكن منه الخليفة فلما إصبحت طلبت رجلا من الأمراء وقلت له هل لك أن تتولى مدينة كسكر فإنها مغله في هذه السنة فقال ومن لي بذلك فقلت له فاذهب إلى ابي مسلم فتلقاه في الطريق فاطلب منه أن يوليك تلك البلد فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه ما وراء بابه
ويستريح لنفسه واستأذنت المنصور له أن يذهب إلى أبي مسلم فأذن له وقال له سلم عليه وقل له إنا بالأشواق إليه فسار ذلك الرجل وهو سلمة بن فلان إلى أبي مسلم فأخبره بإشتياق الخليفة إليه فسره ذلك وانشرح وانما هو وغرور ومكر به فلما سمع أبو مسلم بذلك عجل السير إلى منيته فلما قرب من المدائن أمر الخليفة القواد والأمراء أن يتلقوه وكان دخوله على المنصور من آخر ذلك اليوم وقد أشار أبو أيوب على المنصور أن يؤخر قتله في ساعته هذه إلى الغد فقبل ذلك منه فلما دخل أبو مسلم على المنصور من العشى أظهر له الكرامة والتعظيم ثم قال اذهب فأرح نفسك وادخل الحمام فإذا كان الغد فأتني فخرج من عنده وجاءه الناس يسلمون عليه فلما كان الغد طلب الخليفة بعض الأمراء فقال له كيف بلائي عندك فقال والله يا أمير المؤمنين لو أمرتني أن أقتل نفسي لقتلتها قال فكيف بك لو أمرتك بقتل أبي مسلم قال فوجم الساعة ثم قال له أبو أيوب مالك لا تتكلم فقال قوله ضعيفه أقتله ثم اختار له من عيون الحرس أربعه فحرضهم على قتله وقال لهم كونوا من وراء الرواق فإذا صفقت بيدي فاخرجوا عليه فاقتلوه ثم أرسل المنصور إلى ابي مسلم رسلا تترى يتبع بعضهم بعضا فأقبل أبو مسلم فدخل دار الخلافة ثم دخل على الخليفة وهو يبتسم فلما وقف بين يديه جعل المنصور يعاتبه في الذي صنع واحدة واحدة فيعتذر عن ذلك كله ثم قال يا امير المؤمنين أرجو أن تكون نفسك قد طابت علي فقال المنصور أما والله ما زادني هذا الا غيظا عليك ثم ضرب باحدى يديه على الأخرى فخرج عثمان واصحابه فضربوه بالسيوف حتى قتلوه ولفوه في عباءة ثم أمر بإلقائه في دجله وكان آخر العهد به وكان مقتله في يوم الأبعاء لأربع بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة
وكان من جملة ما عاتبه به المنصور ان قال كتبت إلى مرات تبدأ بنفسك وأرسلت تخطب عمتي أمينة وتزعم أنك إبن سليط بن عبدالله بن عباس إلى غير ذلك فقال أبو مسلم يا أمير المؤمنين لايقال لي هذا وقد سعيت في أمركم بما علمه كل احد فقال ويلك لو قامت في ذلك أمة سوداء لأتمه الله لجدنا وحيطتنا ثم قال والله لاقتلنك فقال أستبقي يا أميرالمؤمنين لأعدائك فقال وأي عدو لي أعدى منك ثم أمر بقتله كما تقدم فقال له بعض الأمراء يا أميرالمؤمنين الآن صرت خليفة ويقال إن المنصور أنشد عند ذلك
فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر
وذكر إبن خلكان أن المنصور لما أراد قتل أبي مسلم تحير في أمره هل يستشير احد في ذلك أو يستبد هو به لئلا يشيع وينتشر ثم استشار واحدا من نصحاء أصحابه فقال يا أمير المؤمنين
قال الله تعالى لوكان فيهما آله إلا الله لفسدتا فقال له لقد اودعتها اذنا واعيه ثم عزم على ذلك