البيعة لموسى الهادي
 
ذكرنا أن المهدي الح على عيسى بن موسى أن يخلع نفسه وهو مع كل ذلك يمتنع وهو مقيم بالكوفة فبعث إليه المهدي أحد القواد الكبار وهو أبو هريرة محمد بن فروخ في ألف من أصحابه لاحضاره إليه وأمر كل واحد منهم أن يحمل طبلا فاذا واجهوا الكوفة عند إضاءة الفجر ضرب كل واحد منهم على طبله ففعلوا ذلك فارتجت الكوفة وخاف عيسى بن موسى فلما انتهوا إليه دعوه إلى حضرة الخليفة فأظهر أنه يشتكى فلم يقبلوا ذلك منه بل أخذوه معهم فدخلوا به على الخليفة في يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم من هذه السنة فاجتمع عليه وجوه بني هاشم والقضاة والاعيان وسألوه في ذلك وهو يمتنع ثم لم يزل الناس به بالرغبة والرهبة حتى أجاب يوم الجمعة لأربع مضين من المحرم بعد العصر وبويع لولدي المهدي موسى بن هارون الرشيد صباحه يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم وجلس المهدي في قبة عظيمة في إيوان الخلافة ودخل الأمراء فبايعوه ثم نهض فصعد المنبر وجلس ابنه موسى الهادي تحته وقام عيسى بن موسى في أول درجة وخطب المهدي فأعلم الناس بما وقع من خلع عيسى بن موسى نفسه وأنه قد حلل الناس من الايمان التي له في أعناقهم وجعل ذلك إلى موسى الهادي فصدق عيسى ين موسى ذلك وبايع المهدي علي ذلك ثم نهض الناس فبايعوا الخليفة على حسب مراتبهم وأسنانهم وكتب على عيسى بن موسى مكتوبا مؤكدا بالايمان البالغة من الطلاق والعتاق وأشهد عليه جماعة الأمراء والوزراء وأعيان بني هاشم وغيرهم وأعطاه ما ذكرنا من الاموال وغيرها .
وفيها دخل عبدالملك بن شهاب المسمعي مدينة بإربد من الهند في جحفل كبير فحاصرها.
ونصبوا عليها المجانيق ورموها بالنفط فأحرقوا منها طائفة وهلك بشر كثير من أهلها وفتحوها عنوة وأرادوا الأنصراف فلم يمكنهم ذلك لاعتلاء البحر فأقاموا هنالك فأصابهم داء في أفواههم يقال له حمام قر فمات منهم ألف نفس منهم الربيع بن صبيح فلما أمكنهم المسير ركبوا في البحر فهاجت عليهم ريح فغرق طائفة أيضا ووصل بقيتهم إلى البصرة ومعهم سبي كثير فيهم بنت ملكهم وفيها حكم المهدي بإلحاق ولد أبي بكر الثقفي إلى ولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع نسبهم من ثقيف وكتب بذلك كتاباإلى والي البصرة وقطع نسبه من زياد ومن نسب نافع ففي ذلك يقول بعض الشعراء وهو خالد النجار
إن زياد ونافعا وأبا * بكره عندي من أعجب العجب
ذا قرشي كما يقول وذا * مولى وهذا بزعمه عربي
وقد ذكر إبن جرير أن نائب البصرة لم ينفذ ذلك .
وفي هذه السنة حج بالناس المهدي واستخلف على بغداد ابنه موسى الهادي واستصحب معه ابنه هارون الرشيد وخلقا من الأمراء منهم يعقوب بن داود على منزلته ومكانته وكان الحسن ابن إبراهيم قد هرب من الخادم فلحق بأرض الحجاز فاستأمن له يعقوب بن داود فأحسن المهدي صلته وأجزل جائزته وفرق المهدي في أهل مكة مالا كثيرا جدا كان قد قدم معه بثلاثين ألف ألف درهم ومائة الف ثوب وجاء من مصر ثلثمائة ألف دينار ومن اليمن مائتا الف دينار فأعطاها كلها في أهل مكة والمدينة وشكت الحجبة الى المهدي أنهم يخافون على الكعبة أن تنهدم من كثرة ما عليها من الكساوى فأمر بتجريدها فلما انتهوا إلى كساوي هشام بن عبدالملك وجدها من ديباج ثخين فأمر بإزالتها وبقيت كساوى الخلفاء قبله وبعده فلما جردها طلاها بالخلوف وكساها كسوة حسنة جدا ويقال إنه استفتى مالكا في إعادة الكعبة إلى ما كانت عليه من بناية ابن الزبير فقال مالك دعها فإني أخشى أن يتخذها الملوك ملعبة فتركها على ماهي .
وحمل له محمد بم سليمان نائب البصرة الثلج إلى مكة وكان أول خليفة حمل إليه الثلج اليها زاده معاوية بن أبي سفيان فقال له مالك إنه يخشى أن ينكسر خشبه العتيق إذا زعزع فتركه وتزوج من المدينة رقية بنت عمرو العثمانية وأنتخب من أهلها خمسمائة من أعيانها ليكونوا حوله حرسا بالعراق وأنصارا وأجرى عليهم أرزاقا غير أعطياتهم وأقطعهم أقطاعا معروفة بهم .
وفيها توفي الربيع بن صبيح وسفيان بن حسين أحد أصحاب الزهري وشعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الازدي أبو بسطام ثم انتقلا إلى البصرة رأى شعبة الحسن وابن سيرين وروى عن أمم التابعين وحدث عنه خلق من مشايخه وأقرانه وأئمة الاسلام وهو شيخ المحدثين الملقب فيهم بأمير المؤمنين قاله الثوري وقال يحيى بن معين هو إمام المتقين وكان في غاية الزهد والورع والتقشف والحفظ وحسن الطريقة وقال الشافعي لولاه ما عرف الحديث بالعراق وقال الامام أحمد كان أمة وحده في هذا الشأن ولم يكن في زمانه مثله وقال محمد بن سعد كان ثقة مأمونا حجة صاحب حديث وقال وكيع إني لأرجو أن يرفع الله لشعبة في الجنة درجات ندبة عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال صالح بن محمد بن حرزة كان شعبة أول من تكلم في الرجال وتبعه يحيى القطان ثم أحمد وابن معين وقال ابن المهدي ما رأيت أعقل من مالك ولا أشد تقشفا من شعبة ولا أنصح للأمة من ابن المبارك ولا أحفظ للحديث من الثوري وقال مسلم بن إبراهيم ما دخلت على شعبة في وقت صلاة إلا ورأيته يصلي وكان أبا الفقراء وأما لهم وقال النضر ابن شميل ما رأيت أرحم بمسكين منه كان إذا رأى مسكينا لا يزال ينظر إليه حتى يغيب عنه وقال غيره ما رأيت أعبد منه لقد عبدالله حتى لص جلده بعظمة وقال يحيى القطان ما رأيت أرق للمسكين منه كان يدخل المسكين في منزله فيعطيه ماأمكنه قال محمد بن سعد وغيره مات في أول سنة ستين ومائة في البصرة عن ثمان وسبعين سنة .