ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة
 
فيها في المحرم منها توفي المهدي بن المنصور بمكان يقال له ما سبذان بالحمى وقيل مسموما وقيل عضه فرس فمات
هذه ترجمته
هو محمد بن علي بن عبدالله بن عباس أبو عبدالله المهدي أمير المؤمنين وإنما لقب بالمهدي رجاء أن يكون الموعود به في الاحاديث فلم يكن به وان اشتركا في الاسم فقد افترقا في الفعل ذاك يأتي آخر الزمان عند فساد الدنيا فيملأ الارض عدلا كما ملئت فجورا وظلما وقد قيل إن في أيامه ينزل عيسى بن مريم بدمشق كما سيأتي ذلك في أحاديث الفتن والملاحم وقد جاء في حديث من طريق عثمان بن عفان أن المهدي من بني العباس وجاء موقوفا على ابن عباس وكعب الاحبار ولا يصح وبتقدير صحة ذلك لا يلزم أن يكون على التعيين وقد ورد في حديث أخر أن المهدي من ولد فاطمة فهو يعارض هذا والله أعلم وأم المهدي بن المنصور أم موسى
بنت منصور بن عبدالله الحميري وروى عن أبيه عن جده عبدالله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم رواه عنه يحيى بن حمزة النهشلى قاضي دمشق وذكر أنه صلى خلف المهدي حين قدم دمشق فجهر في السورتين بالبسملة وأسند ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه غير واحد من يحيى بن حمزه ورواه المهدي عن المبارك بن فضاله ورواه عنه أيضا جعفر ابن سليمان الضبعي ومحمد بن عبدالله الرقاشي وأبو سفيان سعيد بن يحيى بن المهدي
وكان مولد المهدي في سنة ست او سبع وعشرين ومائة أو في سنة إحدى وعشرون ومائة ولى الخلافة بعد موت أبيه في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة وعمره إذ ذاك ثلاث وثلاثون سنة ولد بالحميمة من أرض البلقاء وتوفي في المحرم من هذه السنة أعني سنة تسع وستين ومائة عن ثلاث أو ثمان وأربعين سنة وكانت خلافته عشر سنين وشهرا وبعض الشهر وكان أسمرا طويلا جعد الشعر على إحدى عينيه نكته بيضاء قيل على عينه اليمنى وقيل اليسرى قال الربيع الحاجب رأيت المهدي يصلي في ليلة مقمرة في بهولة عليه ثياب حسنة فما أدري هو أحسن أم القمر أم بهوة أم ثيابه فقرأ فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدو في الارض وتقطعوا أرحامكم الآية ثم أمرني فأحضرت رجلا من أقاربه كان مسجونا فأطلقه ولما جاء خبر موت أبيه بمكة كما تقدم كتم الأمر يومين ثم نودي في الناس يوم الخميس الصلاة جامعة فقام فيهم خطيبا فأعلمهم بموت أبيه وقال إن أمير المؤمنين دعى فأجاب فعند الله أحتسب أمير المؤمنين وأستعينه على خلافة المسلمين ثم بايعه الناس بالخلافة يومئذ وقد عزاه أبو دلامة وهنأه في قصيدة له يقول فيها
عيناي واحدة ترى مسرورة * بأميرها جذلا وأخرى تذرف
تبكي وتضحك تارة ويسؤها * ما أنكرت ويسرها ما تعرف
فيسؤها موت الخليفة محرما * ويسرها أن قام هذا الأرأف
ما أن رأيت كما رأيت ولا أرى * شعرا أرجله وآخر ينتف
هلك الخليفة يال أمة أحمد * واتاكم من بعده من يخلف
أهدى لهذا الله فضل خلافة * ولذاك جنات النعيم تزخرف
وقد قال المهدي يوما في خطبة أيها الناس أسروا مثلما تعلنون من طاعتنا تهنكم العافيه وتحمدوا العاقبة واخفظوا جناح الطاعة لمن ينشر معدلته فيكم ويطوي ثوب الاصر عنكم وأهال عليكم السلامة ولين المعيشة من حيث أراه الله مقدما ذلك على فعل من تقدمه والله لأعفين عمري من عقوبتكم ولأحملن نفسي على الاحسان اليكم قال فأشرقت وجوه الناس من حسن كلامه ثم استخرج حواصل أبيه من الذهب والفضة التي كانت لا تحد ولا توصف كثرة ففرقها
في الناس ولم يعط أهله وموإليه منها شيئا بل اجرى لهم أرزاقا بحسب كفايتهم من بيت المال لكل واحد خمسمائة في الشهر غير الاعطيات وقد كان أبوه حريصا على توفير بيت المال وإنما كان ينفق في السنة الفي درهم من مال السراة وأمر المهدي ببناء مسجد الرصافة وعمل خندق وسور حولهما وبنى مدنا ذكرناها فيما تقدم
وذكرله عن شريك بن عبدالله القاضي أنه لا يرى الصلاة خلفة فأحضره فتكلم معه ثم قال له المهدي في جملة كلامه يا ابن الزانية فقال له شريك مه مه يا أمير المؤمنين فلقد كانت صوامه قوامه فقال له يا زنديق لأقتلنك فضحك شريك فقال يا أمير المؤمنين إن للزنادقة علامات يعرفون بها شربهم القهوات واتخاذهم القينات فأطرق المهدي وخرج شريك من بين يديه وذكروا أنه هاجت ريح شديدة فدخل المهدي بيتا في داره فألزق خده بالتراب وقال اللهم إن كنت انا المطلوب بهذه العقوبة دون الناس فها أنا ذا بين يديك اللهم لا تشمت بي الاعداء من أهل الاديان فلم يزل كذلك حتى نجلت ودخل عليه رجل يوما ومعه نعل فقال هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اهديتها لك فقال هاتها فناوله إياها فقبلها ووضعها على عينيه وأمر له بعشرة الآف درهم فلما انصرف الرجل قال المهدي والله اني لأعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير هذه النعل فضلا عن أن يلبسها ولكن لو رددته لذهب يقول للناس أهديت إليه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها على فتصدقه الناس لأن العامة تميل إلى أمثالها ومن شأنهم نصر الضعيف على القوي إن كان ظالما فاشترينا لسانه بعشرة الآف درهم ورأينا هذا أرجح وأصلح
واشتهر عنه أنه كان يحب اللعب بالحمام والسباق بينها فدخل عليه جماعة من المحدثين فيهم عتاب بن إبراهيم فحدثه بحديث ابي هريرة لا سبق إلا في خف او نعل او حافر وزاد الحديث أو جناح فأمر له بعشرة الآف ولما خرج قال والله إني أعلم أن عتابا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر بالحمام فذبحه ولم يذكر عتابا بعدها وقال الواقدي دخلت على المهدي يوما فحدثته بأحاديث فكتبها عني ثم قام فدخل بيوت نسائه ثم خرج وهو ممتليء غيظا فقلت مالك يا أمير المؤمنين فقال دخلت على الخيزران فقامت ومزقت ثوبي وقالت مارأيت منك خيرا واني والله يا واقدي إنما اشتريتها من نخاس وقد نالت عندي ما نالت وقد بايعت لولديها بأمرة المؤمنين من بعدي فقلت يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
انهن يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام
وقال
خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله وقد خلقت المرأة من ضلع أعوج إن قومته كسرته
وحدثته في هذا الباب بكلام حضرني فأمر لي بألفي دينار فلما وافيت المنزل إذا رسول الخيزران قد لحقني بألفي دينار إلا عشرة دنانير واذا معه أثواب أخر وبعثت تشكرني وتثني على معروفا
وذكر أن المهدي كان قد أهدر دم رجل من أهل الكوفة وجعل لمن جاء به مائة الف فدخل الرجل بغداد متنكرا فلقيه رجل فأخذ بمجامع ثوبه ونادى هذا طلبه أمير المؤمنين وجعل الرجل يريد أن يفلت منه فلا يقدر فبينما هما يتجاذبان وقد اجتمع الناس عليهما إذ مر أمير في موكبه وهو معن بن زائده فقال الرجل يا أبا الوليد خائف مستجير فقال معن ويلك مالك وله فقال هذا طلبه أمير المؤمنين جعل لمن جاء به مائة الف قال معن أما علمت أني قد أجرته أرسله من يدك ثم أمر بعض غلمانه فترجل وأركبه وذهب به إلى منزله وانطلق ذلك الرجل إلى باب الخليفة وأنهى اليهم الخبر فبلغ المهدي فأرسل إلى معن فدخل عليه فسلم ولم يرد عليه السلام وقال يا معن أبلغ من أمرك أن تجير على قال نعم قال ونعم أيضا نعم قد قتلت في دولتكم أربعة الاف مصل فلا يجار لى رجل واحد فأطرق المهدي ثم رفع رأسه إليه وقال وقد أجرنا من أجرت يا معن فقال يا أمير المؤمنين إن الرجل ضعيف فأمر له بثلاثين الفا فقال إن جريمته عظيمة وإن جوائز الخلفاء على قدر جرائم الرعية فأمر له بمائة الف فحملت بين يدي معن إلى ذلك الرجل فقال له معن خذ المال وأدع لأمير المؤمنين وأصلح نيتك في المستقبل
وقدم المهدي مرة البصرة فخرج ليصلي بالناس فجاء أعرابي فقال يا أمير المؤمنين مر هؤلاء فلينتظروني حتى أتوضأ يعني المؤذنين فأمرهم بإنتظاره ووقف المهدي في المحراب لم يكبر حتى قيل له هذا الاعرابي قد جاء فكبر فتعجب الناس من سماحة أخلاقه وقدم أعرابي ومعه كتاب مختوم فجعل يقول هذا كتاب أمير المؤمنين إلى أين الرجل الذي يقال له الربيع الحاجب فأخذ الكتاب وجاء به إلى الخليفة وأوقف الاعرابي وفتح الكتاب فإذا هو قطعة أديم فيها كتابة ضعيفة والاعرابي يزعم أن هذا خط الخليفة فتبسم المهدي وقال صدق الاعرابي هذا خطي إني خرجت يوما إلى الصيد فضعت عن الجيش وأقبل الليل فتعودت بتعويذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع لي نار من بعيد فقصدتها فإذا هذا الشيخ وامرأته في خباء يوقدان نارا فسلمت عليهما فردا السلام وفرش لي كساء وسقاني من لبن مشوب بماء فما شربت شيئا إلا وهي أطيب منه ونمت نومة على تلك العباءة ما أذكر أني نمت أحلى منها فقام إلى شويهة فذبحها فسمعت امرأته تقول له عمدت إلى مكسبك ومعيشة أولادك فذبحتها هلكت نفسك وعيالك فما التفت اليها واستيقظت فاشتويت من لحم تلك الشويهة وقلت له أعندك شيء أكتب لك فيه كتابا فأتاني بهذه القطعة فكتبت بهذه القطعة فكتبت له بعود من ذلك الرماد خمسمائة الف وإنما أردت خمسين الفا والله لأنفذنها له كلها ولو لم يكن في بيت المال سواها فأمر له بخمسمائة الف فقبضها الاعرابي واستمر مقيما في ذلك الموضع في طريق الحاج من ناحية الانبار فجعل يقري الضيف ومن مر به من الناس فعرف منزله بمنزل مضيف أمير المؤمنين المهدي
وعن سوار صاحب رحبة سوار قال انصرفت يوما من عند المهدي فجئت منزلى فوضع لي الغداء فلم تقبل نفسي عليه فدخلت خلوتي لأنام في القائلة فلم يأخذني نوم فاستدعيت بعض حظاياي لاتلهى بها فلم تنبسط نفسي اليها فنهضت فخرجت من المنزل وركبت بغلتي فما جاوزت الدار إلا قليلا حتى لقيني رجل ومعه الفا درهم فقلت من أين هذه فقال من ملكك الجديد فاستصحبته معي وسرت في أزقة بغداد لأتشاغل عما أنا فيه من الضجر فحانت صلاة العصر عند مسجد في بعض الحارات فنزلت لأصلي فيه فلما قضيت الصلاة إذا برجل أعمى قد أخذ بثيابي فقال إن لى اليك حاجة اليك ف قلت ما حاجتك فقال اني رجل ضرير ولكني لما شممت رائحة طيبك ظننت أنك من أهل النعمة والثروة فأحببت أن أفضي اليك حاجتي فقلت وما هي فقال إن هذا القصر الذي تجاه المسجد كان لأبي فسافر منه إلى خراسان فباعه وأخذني معه وأنا صغير فافترقنا هناك وأصابني أنا الضرر فرجعنا إلى بغداد بعد أن مات أبي فجئت إلى صاحب هذا القصر أطلب منه شيئا اتبلع به لعلي أجتمع بسوار فإنه كان صاحبا لأبي فلعله أن يكون عنده سعة يجود منها علي فقلت ومن أبوك فذكر رجلا كان أصحب الناس الي فقلت إني أنا سوار صاحب ابيك وقد منعني الله يومك هذا النوم والقرار والاكل والراحة حتى أخرجني من منزلي لأجتمع بك وأجلسني بين يديك وأمرت وكيلي فدفع له الألفي الدرهم التي معه وقلت له إذا كان الغد فأت منزلي في مكان كذا وكذا وركبت فجئت دار الخلافة وقلت ما أتحف المهدي الليلة في السمر بأغرب من هذا فلما قصصت عليه القصة تعجب من ذلك جدا وأمر لذلك الأعمى بألفي دينار وقال لي هل عليك دين قلت نعم قال كم قلت خمسون الف دينار فسكت وحادثني ساعة ثم قمت من بين يديه فوصلت إلى المنزل إذا الحمالون قد سبقوني بخمسين الف دينار وألفي دينار للأعمى فانتظرت الأعمى أن يجي في ذلك اليوم فتأخر فلما أمسي عدت إلى المهدي فقال قد فكرت في أمرك فوجدتك إذا قضيت دينك لم يبقى معك شيء وقد أمرت لك بخمسين ألف دينار أخرى فلما كان اليوم الثالث جاءني الأعمى فقلت قد رزقني الله بسببك خيرا كثيرا ودفعت له الالفي دينار التي من عند الخليفة وزدته من عندي أيضا
وقفت امرأة المهدي فقالت يا عصبة رسول الله اقض حاجتي فقال المهدي ما سمعتها من أحد غيرها اقضوا حاجتها واعطوها عشرة الآف درهم ودخل ابن الخياط على المهدي فامتدحه فأمر له بخمسين الف درهم ففرقها ابن الخياط وأنشأ يقول
أخذت بكفي كفه ابتغي الغنى * ولم أدر أن الجود من كفه يعدى
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى * أفدت وأعدني فبددت ما عندي
قال فبلغ ذلك المهدي فأعطاه بدل كل درهم دينار وبالجملة فان للمهدي مآثر ومحاسن كثيرة وقد كانت وفاته بما سبذان كان قد خرج اليها ليبعث إلى إبنه الهادي ليحضر إليه من جرجان حتى يخلعه من ولايه العهد ويجعله بعد هارون الرشيد فامتنع الهادي من ذلك فركب المهدي إليه قاصدا إحضاره فلما كان بماسبذان مات بها وكان قد رأى في النوم وهو بقصره ببغداد المسمى بقصر السلامه كأن شيخا وقف بباب القصر ويقال إنه سمع هاتفا يقول
كأني بهذا القصر قد باد أهله * وأوحش منه ربعه ومنازله
وصار عميد التوم بعد بهجة * ملك إلى قبر عليه جنادله
ولم يبق إلا ذكره وحديثه * تنادي عليه معولات حلائله
فما عاش بعدها إلا عشرا حتى مات وروى أنه لما قال له الهاتف
كأني بهذا القصر قد باد أهله * وقد درست أعلامه ومنازله
فأجابه المهدي كذاك أمور الناس يبلى جديدها * وكل فتى يوما ستبلى فعائله
فقال الهاتف تزود من الدنيا فإنك ميت * وإنك مسئول فما أنت قائله
فأجابه المهدي * أقول بأن الله حق شهدته
وذلك قول ليس تحصى فضائله * فقال الهاتف
تزود من الدنيا فإنك راحل * وقد أزف الأمر الذي بك نازل
فأجابه المهدي * متى ذاك خبرني هديت فإنني
سأفعل ما قد قلت لي وأعاجله * فقال الهاتف
تلبث ثلاثا بعد عشرين ليلة * إلى منتهى شهر وما أنت كامله
قالوا فلم يعش بعدها إلا تسعا وعشرين يوما حتى مات رحمه الله تعإلى
وقد ذكر ابن جرير اختلافا في سبب موته فقيل إنه ساق خلف ظبي والكلاب بين يديه فدخل الظبي إلى خربة فدخلت الكلاب وراءه وجاء الفرس فحمل بمشوار فدخل الخربة فكسر ظهره وكانت وفاته بسبب ذلك وقيل أن بعض حظايا بعثت إلى أخرى لبنا مسموما فمر الرسول بالمهدي فأكل منه فمات وقيل بل بعثت اليها بصينيه فيها الكمثرى وفي أعلاها واحدة كبيرة مسمومة وكان المهدي يعجبه الكمثرى فمرت به الجارية ومعها تلك الصينية فأخذ التي في أعلاها فأكلها فمات من ساعته فجعلت الحظية تندبه وتقول واأمير المؤمنينا أردت أن يكون لي وحدي قتلته بيدي وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة أعني سنة تسع وستين ومائة وله من العمر ثلاث وأربعون سنة على المشهور وكانت خلافته عشر سنين وشهرا وكسورا ورثاه الشعراء بمراثي كثيرة قد ذكرها ابن جرير وابن عساكر
وفيها توفي عبيدالله بن زياد ونافع بن عمر الجمحي ونافع بن أبي نعيم القاري.