ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين ومائة
 
فيها أخذ الرشيد لولده عبد الله المأمون ولاية العهد من بعد أخيه محمد الامين بن زبيدة وذلك بالرقة بعد مرجعه من الحج وضم ابنه المأمون إلى جعفر بن يحي البرمكي وبعثه إلى بغداد ومعه جماعة من أهل الرشيد خدمة له وولاه خراسان وما يتصل بها وسماه المأمون وفيها رجع يحي بن خالد البرمكي من مجاورته بمكة إلى بغداد وفيها غزا الصائمة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح فبلغ مدينة أصحاب الكهف وفيها سملت الروم عينى ملكهم قسطنطين بن اليون وملكوا عليهم أمه رينى وتقلب أغسطه وحج بالناس موسى بن عيسى بن العباس
وفيها توفي من الأعيان إسماعيل بن عياش الحمصى أحد المشاهير من أئمة الشاميين وفيه كلام ومروان بن أبي حفصة الشاعر المشهور المشكور كان يمدح الخلفاء والبرامكة
ومعن بن زائدة حصل من الأموال شئيا كثيرا جدا وكان مع ذلك من أبخل الناس لا يكاد يأكل اللحم من بخله ولا يشعل في بيته سراجا ولا يلبس من الثياب الا الكرباسي والفرو الغليظ وكان رفيقه
سلم الخاسر إذا ركب إلى دار الخلافة يأتي على بردون وعليه حلة تساوى ألف دينار والطيب ينفح من ثيابه ويأتي هو في شر حالة وأسوئها وخرج يوما إلى المهدي فقالت امرأة من أهله إن أطلق لك الخليفة شيئا فاجعل لى منه شيئا فقال إن أعطاني مائة ألف درهم فلك درهم فأعطاه ستين ألفا فأعطاها أربعة دوانيق توفي ببغداد في هذه السنة ودفن في مقبرة نصر بن مالك
والقاضي ابو يوسف
واسمه يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حسنة وهي أمه وأبوه بحير بن معاوية استصغر يوم أحد وأبو يوسف كان أكبر أصحاب أبي حنيفة روى الحديث عن الأعمش وهمام ابن عروة ومحمد بن إسحاق ويحى بن سعيد وغيرهم وعنه محمد بن الحسن وأحمد بن حنبل ويحي ابن معين قال على بن الجعد سمعته يقول توفي أبي وأنا صغير فأسلمتنى أمى إلى قصار فكنت أمر على حلقة أبي حنيفة فأجلس فيها فكانت أمي تتبعنى فتأخذ بيدى من الحلقة وتذهب بى إلى القصار ثم كنت أخالفها في ذلك وأذهب إلى أبي حنيفة فلما طال ذلك عليها قالت لأبي حنيفة إن هذا صبي يتيم ليس له شئ إلا ما أطعمه من مغزلى وإنك قد أفسدته علي فقال لها اسكتى يا رعناء ها هو ذا يتعلم العلم وسيأكل الفالوذج بدهن الفستق في صحون الفيروزج فقالت له إنك شيخ قد خرفت قال أبو يوسف فلما وليت القضاء وكان أول من ولاه القضاء الهادي وهو أول من لقب قاضي القضاة وكان يقال له قاضي قضاة الدنيا لأنه كان يستنيب في سائر الأقاليم التي يحكم فيها الخليفة قال أبو يوسف فبينا أنا ذات يوم عند الرشيد إذ أتى بفالوذج في صحن فيروزج فقال لي كل من هذا فانه لا يصنع لنا في كل وقت وقلت وما هذا يا أمير المؤمنين فقال هذا الفالوذج قال فتبسمت فقال مالك تتبسم فقلت لاشئ أبقى الله أمير المؤمنين فقال لتخبرنى فقصصت عليه القصة فقال إن العلم ينفع ويرفع في الدنيا والآخرة ثم قال رحم الله أبا حنيفة فلقد كان ينظر بعين عقله ما لا ينظر بعين رأسه وكان أبو حنيفة يقول عن أبي يوسف إنه أعلم أصحابه وقال المزنى كان أبو يوسف أتبعهم للحديث وقال ابن المدينى كان صدوقا وقال ابن معين كان ثقة وقال أبو زرعة كان سليما من التجهم وقال بشار الخفاف سمعت أبا يوسف يقول من قال القرآن مخلوق فحرام كلامه وفرض مباينته ولا يجوز السلام ولا رده عليه ومن كلامه الذى ينبغي كتابته بماء الذهب قوله من طلب المال بالكيما أفلس ومن تتبع غرائب الحديث كذب ومن طلب العلم بالكلام تزندق ولما تناظر هو ومالك بالمدينة بحضرة الرشيد في مسألة الصاع وزكاة الخضروات احتج مالك بما استدعى به من تلك الصيعان المنقولة عن آبائهم وأسلافهم وبأنه لم يكن الخضروات يخرج فيها شئ في زمن الخلفاء الراشدين فقال
أبو يوسف لو رأى صاحبى ما رأيت لرجع كما رجعت وهذا انصاف منه
وقد كان يحضر في مجلس حكمه العلماء على طبقاتهم حتى إن أحمد بن حنبل كان شابا وكان يحضر مجلسه في أثناء الناس فيتناظرون ويتباحثون وهو مع ذلك يحكم ويصنف أيضا وقال وليت هذا الحكم وأرجو الله أن لا يسألنى عن جور ولا ميل إلى أحد إلا يوما واحدا جاءني رجل فذكر أن له بستانا وأنه في يد أمير المؤمنين فدخلت إلى أمير المؤمنين فأعلمته فقال البستان لى اشتراه لى المهدي فقلت إن رأى أمير المؤمنين أن يحضره لأسمع دعواه فأحضره فادعى بالبستان فقلت ما تقول يا أمير المؤمنين فقال هو بستاني فقلت للرجل قد سمعت ما أجاب فقال الرجل يحلف فقلت أتحلف يا أمير المؤمنين فقال لا فقلت سأعرض عليك اليمين ثلاثا فان حلفت وإلا حكمت عليك يا أمير المؤمنين فعرضتها عليه ثلاثا فامتنع فحكمت بالبستان للمدعى قال فكنت في أثناء الخصومة أو دأن ينفصل ولم يمكنى أن أجلس الرجل مع الخليفة وبعث القاضي أبو يوسف في تسليم البستان إلى الرجل
وروى المعافي بن زكريا الجريرى عن محمد بن أبي الأزهر عن حماد بن أبي إسحاق عن أبيه عن بشر بن الوليد عن أبي يوسف قال بينا أنا ذات ليلة قد نمت في الفراش إذا رسول الخليفة يطرق الباب فخرجت منزعجا فقال أمير المؤمنين يدعوك فذهبت فإذا هو جالس ومعه عيسى ابن جعفر فقال لي الرشيد إن هذا قد طلبت منه جارية يهبنيها فلن يفعل أو يبعنيها وإني أشهدك إن لم يجبنى إلى ذلك قتلته فقلت لعيسى لم لم تفعل فقال إني حالف بالطلاق والعتاق وصدقة مالى كله أن لا أبيعها ولا أهبها فقال لى الرشيد فهل له من مخلص فقلت نعم يبيعك نصفها ويهبك نصفها فوهبه النصف وباعه النصف بمائة ألف دينار فقبل منه ذلك وأحضرت الجارية فلما رآها الرشيد قال هل لى من سبيل عليها الليلة قلت إنها مملوكة ولا بد من استبرائها إلا أن تعتقها وتتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ قال فأعتقها وتزوجها منه بعشرين ألف دينار وأمر لى بمائتي ألف درهم وعشرين تختا من ثياب وأرسلت إلى الجارية بعشرة آلاف دينار
قال يحيى بن معين كنت عند أبي يوسف فجاءته هدية من ثياب ديبقي وطيب وفانيل ندوغير ذلك فذا كرنى رجل في إسناد حديث من أهديت له هدية وعنده قوم جلوس فهم شركاؤه فقال أبو يوسف إنما ذاك في الأقط والتمر والزبيب ولم تكن الهدايا في ذلك الوقت ماترون ياغلام ارفع هذا إلى الخزائن ولم يعطهم منها شئيا وقال بشر بن غياث المريسى سمعت أبا يوسف يقول صحبت أبا حنيفة سبع عشرة سنة ثم انصبت على الدنيا سبع عشرة سنة وما أظن أجلى إلا أن اقترب فما مكث بعد ذلك إلا شهورا حتى مات
وقد مات أبو يوسف في ربيع الأول من هذه السنة عن سبع وستين سنة ومكث في القضاء بعده ولده يوسف وقد كان نائبه على الجانب الشرقي من بغداد ومن زعم من الرواة أن الشافعي اجتمع بأبي يوسف كما يقوله عبد الله بن محمد البلوى الكذاب في الرحلة التي ساقها الشافعي فقد أخطأ في ذلك إنما ورد الشافعي بغداد في أول قدمة قدمها إليها في سنة أربع وثمانين وإنما اجتمع الشافعي بمحمد بن الحسن الشيباني فأحسن إليه وأقبل عليه ولم يكن بينهما شنآن كما يذكره بعض من لا خبره له في هذا الشأن والله أعلم وفيها توفي
يعقوب بن داوود بن طهمان
أبو عبد الله مولى عبد الله بن حازم السلمى استوزره المهدي وحظى عنده جدا وسلم إليه أزمة الأمور ثم لما أمر بقتل ذلك العلوى كما تقدم فأطلقه ونمت عليه تلك الجارية سجنه المهدى في بئر وبنيت عليه قبة ونبت شعره حتى صار مثل شعور الأنعام وعمى ويقال بل غشى بصره ومكث نحوا من خمسة عشر سنة في ذلك البئر لا يرى ضوءا ولا يسمع صوتا إلا في أوقات الصلوات يعلمونه بذلك ويدلى إليه في كل يوم رغيف وكوز ماء فمكث كذلك حتى انقضت أيام المهدي وأيام الهادي وصدر من أيام الرشيد قال يعقوب فأتاني آت في منامي فقال
عسى الكرب الذي أمسيت فيه * يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عان ويأتي أهله النائى الغريب
فلما أصبحت نوديت فظننت أني أعلم بوقت الصلاة ودلى إلى حبل وقيل لى اربط هذا الحبل فو وسطك فأخرجونى فلما نظرت إلى الضياء لم أبصر شيئا وأوقفت بين يدى الخليفة فقيل لي سلم على أمير المؤمنين فظننته المهدى فسلمت عليه بإسمه فقال لست به فقلت الهادي فقال لست به فقلت السلام عليك يا أمير المؤمنين الرشيد فقال نعم ثم قال والله إنه لم يشفع فيك عندى أحد ولكنى البارحة حملت جارية لى صغيرة على عنقي فذكرت حملك إياى على عنقك فرحمت ما أنت فيه من الضيق فأخرجتك ثم أنعم عليه وأحسن إليه فغار منه يحي بن خالد بن برمك وخشى أن يعيده إلى منزلته التى كان عليها أيام المهدى وفهم ذلك يعقوب فاستأذن الرشيد في الذهاب إلى مكة فأذن له فكان بها حتى مات في هذه السنة رحمه الله وقال يخشى يحى أن أرجع إلى الولايات لا والله ما كنت لأفعل أبدا ولو رددت إلى مكاني وفيها توفي يزيد بن زريع أبو معاوية شيخ الامام أحمد بن حنبل في الحديث كان ثقة عالما عابدا ورعا توفي أبوه وكان والى البصرة وترك من المال خمسمائة درهم فلم ياخذ منها يزيد درهما واحدا وكان يعمل الخوص بيده ويقتات منه هو وعياله توفي بالبصرة في هذه السنة وقيل قبل ذلك فالله أعلم