ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائة
 
فيها كان مهلك البرامكة علىة يدى الرشيد قتل جعفر بن يحي بن خالد الرمكي ودمر ديارهم واندرست آثارهم وذهب صغارهم وكبارهم وقد اختلف في سبب ذلك علىأقوال ذكره ابن جرير وغيره قيل إن الرشيد كان قد سلم يحي بن عبد الله بن حسن إلى جعفر البرمكي ليسجنه عنده فما زال يحي يترفق له حتى أطلقه فم الفضل بن الربيع ذلك إلى الرشيد فقال له اللرشيد ويلك لا تدخل بينى وبين جعفر فلعله أطلقه عن أمرى وأنا لا أشعر ثم سأل الرشيد جعفرا عن ذلك فصدقه فتغيظ عليه وحلف ليقتلنه وكره البرامكة ثم قتلهم وقلاهم بعد ماكانوا أحظى الناس عنده وأحبهم إليه وكانت أم جعفر والفضل أم الرشيد من الرضاعة وقد جعلهم الرشيد من الرفعة في الدنيا وكثرة المال بسبب ذلك شيئا كثيرا لم يحصل لمن قبلهم من الوزراء ولا لمن بعدهم من الأكابر والوؤساء بحيث إن جعفرا بنى دارا غرم عليها عشرين ألف ألف درهم وكان ذلك من جملة ما نقمه عليه الرشيد ويقال إنما قتلهم الرشيد لأنه كان لا يمر ببلد ولا إقليم ولا قرية ولا مزرعة ولا بستان إلا قيل هذا لجعفر ويقال إن البرامكة كانوا يريدون إبطال خلافة الرشيد وإظهار الزندقة وقيل إنما قتلهم بسبب العباسة ومن العلماء من أنكر ذلك وإن كان ابن جرير قد ذكره
وذكر ابن الجوزي أن الرشيد سئل عن سبب قتله البرامكة فقال لو أعلم أن قميصي يعلم ذلك لأحرقته وقد كان جعفر يدخل على الرشيد بغير إذن حتى كان يدخل عليه وهو في الفراش مع حظاياه وهذه وجاهة ومنزلة علية وكان عنده من أحظى العشراء على الشراب المسكر فإن الرشيد كان يستعمل في أواخر أيام خلافته المسكر وكان أحب أهله إليه العباسة بنت المهدي وكان يحضرها معه وجعفر البرمكي حاضرا أيضا معه فزوجه بها ليحل النظر إليها واشترط عليه أن لا يطأها وكان الرشيد ربما قام وتركهما وهما ثملان من الشراب فربما واقعها جعفر فحبلت منه فولدت ولدا وبعثته مع بعض جواريها إلى مكة وكان يربى بها
وذكر ابن خلكان أن الرشيد لم زوج أخته العباسة من جعفر أحبها حبا شديدا فراودته عن نفسه فامتنع أشد الامتناع خوفا من الرشيد فاحتالت عليه وكانت أمه تهدى له في كله ليلة جمعة جارية حسناء بكرا فقالت لأمه أدخلينى عليه بصفة جارية فهابت ذلك فتهددتها حتى فعلت ذلك فلما دخلت عليه لم يتحقق وجهها فواقعها فقالت له كيف رأيت خديعة بنات الملوك وحملت من تلك الليلة فدخل على أمه فقال بعتينى والله برخيص ثم إن والده يحيى بن خالد جعل يضيق على عيال الرشيد في النفقة حتى شكت زبيدة ذلك إلى الرشيد مرات ثم أفشت له سر العباسة فاستشاط غيظا ولما أخبرته أن الوالد قد أرسلت به إلى مكة حج عام ذلك حتى تحقق الأمر ويقال
إن بعض الجواري نمت عليها إلى الرشيد وأخبرته بما وقع وأن الولد بمكة وعنده جوار وأموال وحلى كثيرة فلم يصدق حتى حج في السنة الخالية ثم كشف الأمر عن الحال فإذا هو كما ذكر وقد حج في هذه السنة التي حج فيها الرشيد يحيى بن خالد فجعل يدعو عند الكعبة اللهم إن كان يرضيك عنى سلب جميع مالى وولدى وأهلى فافعل ذلك وأبق على منهم الفضل ثم خرج فلما كان عند باب المسجد رجع فقال اللهم والفضل معهم فإني راض برضاك عنى ولا تستثن منهم أحدا
فلما قفل الرشيد من الحج صار إلى الحيرة ثم ركب في السفن إلى الغمر من أرض الأنبار فلما كانت ليلة السبت سلخ المحرم من هذه السنة أرسل مسرورا الخادم ومعه حماد بن سالم أبو عصمة في جماعة من الجند فأطافوا بجعفر بن يحي ليلا فدخل عليه مسرور الخادم وعنده بختيشوع المتطبب وأبو ركانة الأعمى المغنى الكلوذاني وهو في أمره وسروره وأبو ركانة يغنيه
قال فلما مات دفنه وطلبت الحضور عند الخليفة فلما أوقفت بين يديه قال ما حاجتك قلت هذا الخاتم دفعه إلى رجل وأمرنى أن أدفعه إليك وأوصاني بكلام أقوله لك فلما نظر الخاتم عرفه فقال ويحك وأين صاحب هذا الخاتم قال فقلت مات يا أمير المؤمنين ثم ذكرت الكلام الذى أوصاني به وذكرت له أنه يعمل بالفاعل في كل جمعة يوما بدرهم وأربع دوانيق أو بدرهم ودانق يتقوت به سائر الجمعة ثم يقبل على العبادة قال فلما سمع هذا الكلام قام فضرب بنفسه الأرض وجعل يتمرغ ويتقلب ظهرا لبطن ويقول والله لقد نصحتنى يابنى ثم بكى ثم رفع رأسه إلى الرجل وقال أتعرف قبره قلت نعم أنا دفنته قال إذا كان العشى فائتنى فقال فأتيته فذهب إلى قبره فلم يزل يبكى عنده حتى أصبح ثم أمر لذلك الرجل بعشرة آلاف درهم وكتب له ولعياله رزقا وفيها مات
فلا تبعد فكل فتى سيأتي * عليه الموت يطرق أو يغادي
فقال الخادم له يا أبا الفضل هذا الموت قد طرقك أجب أمير المؤمنين فقام إليه يقبل قدميه ويدخل عليه أن يمكنه فيدخل إلى أهله فيوصى إليهم ويودعهم فقال أما الدخول فلا سبيل إليه ولكن أوص فأوصى وأعتق جميع مماليكه أو جماعة منهم وجاءت رسل الرشيد تستحثه فأخرج إخراجا عنيفا فجعلوا يقودونه حتى أتوا به المنزل الذى فيه الرشيد فحبسه وقيده بقيد حمار وأعلموا الرشيد بما كان يفعل فأمر بضرب عنقه فجاء السياف إلى جعفر فقال إن أمير المؤمنين قد أمرني أن آتيه برأسك فقال يا أبا هاشم لعل أمير المؤمنين سكران فإذا صحا عاتبك في فعاوده فرجع إلى الرشيد فقال إنه يقول لعلك مشغول فقال يا ماص بظر أمه ائتنى برأسه فكرر عليه جعفر المقالة فقال الرشيد في الثالثة برئت من المهدى إن لم تأتنى برأسه لأبعثن من يأتينى برأسك ورأسه فرجع إلى جعفر فحز رأسه وأتى به إلى الرشيد فألقاه بين يديه وأرسل الرشيد من ليلته البرد بالاحتياط على البرامكة جميعهم ببغداد وغيرها ومن كان منهم بسبيل فأخذوا كلهم عن آخرهم فلم يفلت منهم أحد وحبس يحي بن خالد في منزله وحبس الفضل بن يحي في منزل آخر وأخذ جميع ما كانوا يملكونه من الدنيا وبعث الرشيد برأس جعفر وجثته فنصب الرأس عند الجسرالأعلى وشقت الجثة باثنتين فنصب نصفها الواحد عند الجسر الأسفل والأخر عند الجسر الآخر ثم أحرقت بعد ذلك ونوديى في بغداد أن لا أمان للبرامكة ولا لمن آواهم إلا محمد بن يحي بن خالد فإنه مستثنى منهم لنصحه للخليفة وأتى الرشيد بأنس بن أبي شيخ كان يتهم بالزندقة وكان مصاحبا لجعفر فدار بينه وبين الرشيد كلام ثم أخرج الرشيد من تحت فراشه سيفا وأمر بضرب عنقه به وجعل يتمثل ببيت قيل في قتل أنس قبل ذلك
تلمظ السيف من شوق إلى أنس * فالسيف يلحظ والأقدار تنتظر
فضربت عنق أنس فسبق السيف الدم فقال الرشيد رحم الله عبد الله بن مصعب فقال الناس إن السيف كان للزبير بن العوام ثم شحنت السجون بالبرامكة واستلبت أموالهم كلها وزالت عنهم النعمة وقد كان الرشيد في اليوم الذى قتل جعفرا في آخره هو وإياه راكبين في الصيد في أوله وقد خلا به دون ولاة العهود وطيبه في ذلك بالغالية بيده فلما كان وقت المغرب ودعه الرشيد وضمه إليه وقال لولا أن الليلة ليلة خلوتي بالنساء ما فارقتك فاذهب إلى منزلك واشرب واطرب وطب عيشا حتى تكون على مثل حالى فأكون أنا وأنت في اللذة سواء فقال والله يا أمير المؤمنين لا أشتهى ذلك إلا معك فقال لا انصرف إلى منزلك فانصرف عنه جعفر فما هو إلا أن ذهب من الليل بعضه حتى أوقع به من البأس والنكال ما تقدم ذكره وكان ذلك ليلة السبت آخر ليلة من المحرم وقيل إنها أول ليلة من صفر في هذه السنة كان عمر جعفر إذ ذاك سبعا وثلاثين سنة ولما جاء الخبر إلى أبيه يحي بن خالد بقتله قال قتل الله ابنه ولما قيل له قد خربت دارك قال خرب الله دوره ويقال إن يحي لما نظر إلى دوره وقد هتكت ستورها واستبيحت قصورها وانتهب ما فيها قال هكذا تقوم الساعة وقد كتب إليه بعض أصحابه يعزيه فيما جرى له فكتب إليه جواب التعزية أنا بقضاء الله راض وبإختياره عالم ولا يؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم وما الله بظلام للعبيد وما يغفر الله أكثر ولله الحمد وقد أكثر الشعراء من المراثي في البرامكة فمن ذلك قول الرقاشي وقيل إنها لأبي نواس
الآن استرحنا واستراحت ركابنا * وأمسك من يحدي ومن كان يحتدى
فقل للمطايا قد أمنت من السرى * وطى الفيافي فدفدا بعد فدفد
وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر * ولن تظفري من بعده بمسود
وقل للعطايا بعد فضل تعلطى * وقل للرزايا كل يوم تجددي
ودونك سيفا برمكيا مهندا * أصيب بسيف هاشمي مهند
وقال الرقاشي وقد نظر إلى جعفر وهو على جذاعه * أما والله خوف واش
وعين للخليفة لا تنام * لطفنا حول جذعك واستلمنا
كما للناس بالحجر استلام * فما أبصرت قبلك يا ابن يحي
حساما فله السيف الحسام * على اللذات والدنيا جميعا
ودولة آل برمك السلام
قال فاستدعاه الرشيد فقال له كم كان يعطيك جعفر كل عام قال ألف دينار فأمر له
بألفي دينار وقال الزبير بن بكار عن عمه مصعب الزبيرى قال لما قتل الرشيد جعفرا وقفت امرأة على حمار فاره فقالت بلسان فصيح والله يا جعفر لئن صرت اليوم آية لقد كنت في المكارم غاية ثم أنشأت تقول
ولما رأيت السيف خالط جعفرا * ونادى متاد للخليفة في يحي
بكيت على الدنيا وأيقنت أنما * قصارى الفتى يوما مفارقة الدنيا
وما هي إلا دولة بعد دولة * تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى
إذا أنزلت هذا منازل رفعة * من الملك حطت إلى الغاية القصوى
قال ثم حركت حمارها فذهبت فكأنها كانت ريحا لا أثر لها ولا يعرف أين ذهبت
وذكر ابن الجوزي أن جعفرا كان له جارية يقال لها فتينة مغنية لم يكن لها في الدنيا نظير كان مشتراها عليه بمن معها من الجواري مائة ألف دينار فطلبها منه الرشيد فامتنع من ذلك فلما قتله الرشيد اصطفى تلك الجارية فأحضرها ليلة في مجلس شرابه وعنده جماعة من جلسائه وسماره فأمر من معها أن يغنين فاندفعت كل واحدة تغنى حتى انتهت النوبة إلى فتينة فأمرها بالغناء فأسبلت دمعها وقالت أما بعد السادة فلا فغضب الرشيد غضبا شديدا وأمر بعض الحاضرين أن يأخذها إليه فقد وهبها له ثم لما أراد الانصراف قال له فيما بينه وبينه لا تطأها ففهم أنه إنما يريد بذلك كسرها فلما كان بعد ذلك أحضرها وأظهر أنه قد رضى عنها وأمرها بالغناء فامتنعت وأرسلت دمعها وقالت أما بعد السادة فلا فغضب الرشيد أشد من غضبه في المرة الأولى وقال النطع والسيف وجاء السياف فوقف على رأسها فقال له الرشيد إذا أمرتك ثلاثا وعقدت أصابعى ثلاثا فاضرب ثم قال غن فبكت وقالت أما بعد السادة فلا فقعد أصبعه الخنصر ثم أمرها الثانية فامتنعت فعقد اثنتين فارتعد الحاضرون وأشفقوا غاية الاشفاق وأقبلوا عليها يسألونها أن تغنى لئلا تقتل نفسها وأن تجيب أمير المؤمنين إلى ما يريد ثم أمرها الثالثة فاندفعت تغنى كارهة
لما رأيت الدنيا قد درست * أيقينت أن النعيم لم يعد
قال فوثب أليها الرشيد وأخذ العود من يدها وأقبل يضرب به وجهها ورأسها حتى تكسر وأقبلت الدماء وتطايرت الجوار من حولها وحملت من بين يديه فماتت بعد ثلاث
وروى أن الرشيد كان يقول لعن الله من أغراني بالبرامكة فما وجدت بعدهم لذة ولا راحة ولا رجاء وددت والله أني شطرت نصف عمرى وملكي وأني تركتهم على حالهم
وحكى ابن خلكان أن جعفرا اشترى جارية من رجل بأربعين ألف دينار فالتفتت إلى بائعها وقالت اذكر العهد الذى بينى وبينك لا تأكل من ثمنى شيئا فبكى سيدها وقال اشهدوا أنها
حرة وأني قد تزوجتها فقال جعفر اشهدوا أن الثمن له أيضا وكتب إلى نائب له أما بعد فقد كثر شاكوك وقل شاكروك فاما أن تعدل وإما تعتزل ومن أحسن ما وقع منه من التلطف في إزالة هم الرشيد وقد دخل عليه منجم يهودي فأخبره أنه سيموت في هذه السنة فحمل الرشيد هما عظيما فدخل عليه جعفر فسأله ما الخبر فأخبره بقول اليهودي فاستدعى جعفر اليهودي فقال له كم بقى لك من العمر فذكر مدة طويلة فقال يا أمير المؤمنين اقتله حتى تعلم كذبه فيما أخبر عن عمره فأمر الرشيد باليهودي فقتل وسرى عن الرشيد الذي كان فيه
وبعد مقتل البرامكة قتل الرشيد إبراهيم بن عثمان بن نهيك وذلك أنه حزن على البرامكة ولاسيما على جعفر كان يكثر البكاء عليهم ثم خرج من حيز البكاء إلى حيز الانتصار لهم والأخذ بثأرهم وكان إذا شرب في منزله يقول لجاريته ائتنى بسيفى فيسله ثم يقول والله لأقتلن قاتله فأكثر أن يقول ذلك فخشى ابنه عثمان أن يطلع الخليفة على ذلك فيهلكهم عن آخرهم ورأى أن أباه لا ينزع عن هذا فذهب إلى الفضل بن الربيع فأعلمه فأخبر الفضل الخليفة فاستدعى به فاستخبره فأخبره فقال من يشهد معك عليه فقال فلان الخادم فجاء به فشهد فقال الرشيد لا يحل قتل أمير كبير بمجرد قول غلام وخصى لعلهما قد تواطآ على ذلك فأحضره الرشيد معه على الشراب ثم خلا به فقال ويحك يا إبراهيم إن عندى سرا أحب أن أطلعك عليه أقلقنى في الليل والنهار قال وما هو قال إني ندمت على قتل البرامكة ووددت أني خرجت من نصف ملكى ونصف عمرى ولم أكن فعلت بهم ما فعلت فإنى لم أجد بعدهم لذة ولا راحة فقال رحمة الله على أبى الفضل يعنى جعفرا وبكى وقال والله ياسيدي لقد أخطأت في قتله فقال له قم لعنك الله ثم حبسه ثم قتله بعد ثلاثة أيام وسلم أهله وولده
وفي هذه السنة غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح بسبب انه بلغه أنه يريد الخلافة واشتد غضبه بسببه على البرامكة الذين هم في الحبوس ثم سجنه فلم يزل في السجن حتى مات الرشيد فأخرجه الأمين وعقد له على نيابة الشام وفيها ثارت العصبية بالشام بين المضرية والنزارية فبعث إليهم الرشيد محمد بن منصور بن زياد فأصلح بينهم
وفيها كانت زلزلة عظيمة بالمصيصة فانهدم بعض سورها ونضب ماؤها ساعة من الليل وفيها بعث الرشيد ولده القاسم على الصائفة وجعله قربانا ووسيلة بين يديه وولاه العواصم فسار إلى بلاد الروم فحاصرهم حتى افتدوا بخلق من الأسارى يطلقونهم ويرجع عنهم ففعل ذلك وفيها نقضت الروم الصلح الذي كان بينهم وبين المسلمين الذى كان عقده الرشيد بينه وبين رنى ملكة الروم الملقبة أغسطه وذلك أن الروم عزلوها عنهم وملكوا عليهم النقفور وكان شجاعا يقال إنه
منه سلالة آل جفنة فخلعوا رنى وسلموا عينيها فكتب نقفور إلى الرشيد من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فان الملكة التي كانت قبلى أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليها وذلك من ضعف النساء وحمقهن فإذا قرأت كتابي هذا فاردد إلى ماحملته إليك من الأموال وافتد نفسك به وإلا فالسيف بيننا وبينك فلما قرأ هارون الرشيد كتابه أخذه الغضب الشديد حتى لم يتمكن أحد أن ينظر إليه ولا يستطيع مخاطبته وأشفق عليه جلساؤه خوفا منه ثم استدعى بدواة وكتب على ظهر الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام ثم شخص من فوره وسار حتى نزل بباب هرقلة ففتحها واصطفى ابنة ملكها وغنم من الأموال شيئا كثيرا وخرب وأحرق فطلب نقفور منه الموادعه على خراج يؤدية إليه في كل سنة فأجابه الرشيد إلى ذلك فلما رجع من غزوته وصار بالرقة نقض الكافر العهد وخان الميثاق وكان البرد قد اشتد جدا فلم يقدر أحد أن يجئ فيخبر الرشيد بذلك لخوفهم على أنفسهم من البرد حتى يخرج فصل الشتاء وحج بالناس فيها عبد الله به عباس بن محمد بن على
ذكر من توفي فيها من الأعيان
جعفر بن يحي بن خالد بن برمك أبو الفضل البرمكى الوزير ابن الوزير ولاه الرشيد الشام وغيرها من البلاد وبعثه إلى دمشق لما ثارت الفتنة العشيران بحوران بين قيس ويمن وكان ذلك أول نار ظهرت بين قيس ويمن في بلاد الاسلام كان خامدا من زمن الجاهلية فأثاروه في هذا الأوان فلما قدم جعفر بجيشة خمدت الشرور وظهر السرور وقيلت في ذلك أشعار حسان قد ذكر ذلك ابن عساكر في ترجمة جعفر من تاريخه منها
لفد أوقدت في الشام نيران فتنة * فهذا أوان الشام تخمد نارها
إذا جاش سوج البحر من ال برمك * عليها خبت شهبانها وشرارها
رماها أمير المومنين بجعفر * وفيه تلافي صدعها وانجبارها
هو الملك المأمول للبر والتقى * وصولاته لا يستطاع خطارها
وهي قصيدة طويلة وكانت له فصاحة وبلاغة وذكاء وكرم زائد كان أبوه قد ضمه إلى القاضي أبي يوسف فتفقه عليه وصار له اختصاص بالرشيد وقد وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة علىألف توقيع ولم يخرج في شئ منها عن موجب الفقة وقد روى الحديث عن أبيه عن عبد الحميد الكاتب عن عبد الملك بن مروان كاتب عثمان عن زيد بن ثابت كاتب الوحي قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذا كتبت بسم الله الرحمن الرحيم فبين السين فيه
رواه الخطيب وابن عساكر من طريق أبي القاسم الكعبي المتكلم واسمه عبد الله بن أحمد البلخي وقد كان كاتبا لمحمد بن زيد عن أبيه عن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن زريق عن الفضل بن سهل ذى الرياستين عن جعفر بن يحي به وقال عمرو بن بحر الجاحظ قال جعفر للرشيد با أمير المؤمنين قال لى أبي يحي إذا أقبلت الدنيا عليك فأعط وإذا أدبرت فأعط فانها لا تبقى وأنشدنى أبي
لا تبخلن لدنيا وهي مقبلة * فليس ينقصها التبذير والسرف
فإن تولت فأحرى أن تجود بها * فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
قال الخطيب ولقد كان جعفر من علو القدر ونفاذ الأمر وعظم المحل وجلالة المنزلة عند الرشيد على حالة انفرد بها ولم يشاركه فيها أحد وكان سمح الأخلاق طلق الوجه ظاهر البشر أما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فأشهر من أن يذكر وكان أيضا من ذوي الفصاحة والمذكورين بالبلاغة
وروى ابن عساكر عن مهذب حاجب العباس بن محمد صاحب قطيعة العباس والعباسية أنه أصابته فاقة وضائقة وكان عليه ديون فألح عليه المطالبون وعنده سفط فيه جواهر شراؤه عليه ألف ألف فأتى به جعفرا فعرضه عليه وأخبره بما هو عليه من الثمن وأخبره بإلحاح المطالبين بديونهم وأنه لم يبق له سوى هذا السفط فقال قد اشتريته منك بألف ألف ثم أقبضه المال وقبض السفط منه وكان ذلك ليلا ثم أمر من ذهب بالمال إلى منزله وأجلسه معه في السمر تلك الليلة فلما رجع إلى منزله إذا السفط قد سبقه إلى منزله أيضا قال فلما أصبحت غدوت إلى جعفر لأتشكر له فوجدته مع أخيه الفضل على باب الرشيد يستأذن عليه فقال له جعفر إني قد ذكرت أمرك للفضل وقد أمر لك بألف ألف وما أظنها إلا قد سبقتك إلى منزلك وسأفاوض فيك أمير المؤمنين فلما دخل ذكر له أمره وما لحقه من الديون فأمر له بثلاثمائة ألف دينار
وكان جعفر ليلة في سمره عند بعض أصحابه فجاءت الخنفساء فركبت ثياب الرجل فألقاها عنه جعفر وقال إن الناس يقولون من قصدته الخنفساء يبشر بمال يصيبه فأمر له جعفر بألف دينار ثم عادت الخنفساء فرجعت إلى الرجل فأمر له بألف دينار أخرى
وحج مرة مع الرشيد فلما كانوا بالمدينة قال لرجل من أصحابه انظر جارية أشتريها تكون فائقة في الجمال والغناء والدعابة ففتش الرجل فوجد
جارية
على النعت فطلب سيدها فيها مالا كثيرا على أن يراها جعفر فذهب جعفر إلى منزل سيدها فلما رآها أعجب بها فلما غنته أعجبته أكثر فساومه صاحبها فيها فقال له جعفر قد أحضرنا مالا فإن أعجبك وإلا زدناك فقال لها سيدها إني كنت في نعمة وكنت عندى في غاية السرور وإنه قد انقبض على حالى وإني قد أحببت أن
أبيعك لهذا الملك لكى تكوني عنده كما كنت عندي فقالت له الجارية والله ياسيدي لو ملكت منك كما ملكت منى لم أبعك بالدنيا وما فيها وأين ما كنت عاهدتنى أن لا تبيعنى ولا تأكل من ثمني فقال سيدها لجعفر وأصحابه أشهدكم أنها حرة لوجه الله وأني قد تزوجتها فلما قال ذلك نهض جعفر وقام أصحابه وأمروا الحمال أن يحمل المال فقال جعفر والله لا يتبعنى وقال للرجل قد ملكتك هذا المال فأنفقه على أهلك وذهب وتركه
هذا وقد كان يبخل بالنسبة إلى أخيه الفضل إلا أن الفضل كان أكثر منه مالا وروى ابن عساكر من طريق الدار قطني بسنده أنه لما أصيب جعفر وجدوا له في جرة ألف دينار زنة كل دينار مائة دينار مكتوب على صفحة الدينار جعفر
وأصفر من ضرب دار الملوك * يلوح على وجهه جعفر
يزيد على مائة واحدا * متى تعطه معسرا يوسر
وقال أحمد بن المعلى الرواية كتبت عنان جارية الناطفي لجعفر تطلب منه أن يقول لأبيه يحي أن يشير على الرشيد بشرائها وكتبت إليه هذه الأبيات من شعرها في جعفر
يا لائمي جهلا ألا تقصر * من ذا على حر الهوى يصبر
لا تلحنى إذا شربت الهوى * صرفا فممزوج الهوى سكر
أحاط بي الحب فخلفي له * بحر وقدامي له أبحر
تخفق رايات الهوى بالردى * فوقي وحولي للهوى عسكر
سيان عندي في الهوى لائم * أقل فيه والذي يكثر
أنت المصفى من بنى برمك * يا جعفر الخيرات يا جعفر
لا يبلغ الواصف في وصفه * ما فيك من فضل ولا يعشر
من وفر المال لأغراضه * فجعفر أغراضه أوفر
ديباجة الملك على وجهه * وفي يديه العارض الممطر
سحت علينا منهما ديمة * ينهل منها الذهب الأحمر
لو مسحت كفاه جلمودة * نضر فيها الورق الأخضر
لا يستتم المجد إلا فتى * يصبر للبذل كما يصبر
يهتز تاج الملك من فوقه * فخرا ويزهى تحته المنبر
أشبهه البدر إذا ما بدا * أو غرة في وجهه يزهر
والله ما أدري أبدر الدجى * في وجهه أم وجهه أنور
يستمطر الزوار منك الندى * وأنت بالزوار تستبشر
وكتبت تحت أبياتها حاجتها فركب من فوره إلى أبيه فأدخله على الخليفة فأشار على بشارئها فقال لا والله لا أشتريها وقد قال فيها الشعراء فأكثروا واشتهر أمرها وهي التي يقول فيها أبو نواس
لا يشتريها إلا ابن زانية * أو قلطبان يكون من كانا
وعن ثمامة بن أشرس قال بت ليلة مع جعفر بن يحي بن خالد فانتبه من منامه يبكي مذعورا فقلت ما شأنك قال رأيت شيخا جاء فأخذ بعضادتي هذا الباب وقال
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر
قال فأجبته * بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العوائر
قال ثمامة فلما كانت الليلة القابلة قتله الرشيد ونصب رأسه على الجسر ثم خرج الرشيد فنظر إليه فتأمله ثم أنشأ يقول
تقاضاك دهرك ما أسلفا * وكدر عيشك بعد الصفا
فلا تعجبن فإن الزمان * رهين بتفريق ما ألفا
قال فنظرت إلى جعفر وقلت أما لئن أصبحت اليوم آية فلقد كنت في الكرم والجود غاية قال فنظر إلى كأنه جمل صؤول ثم أنشأ يقول
ما يعجب العالم من جعفر * ما عاينوه فبنا كانا
من جعفر أو من أبوه ومن * كانت بنو برمك لولانا
ثم حول وجه فرسه وانصرف
وقد كان مقتل جعفر ليلة السبت مستهل صفر من سنة سبع وثمانين ومائة وكان عمره سبعا وثلاثين سنة ومكث وزيرا سبع عشرة سنة وقد دخلت عبادة أم جعفر على أناس في يوم عيد أضحى تستمنحهم جلد كبش تدفأ به فسألوها عن ما كانت فيه من النعمة فقالت لقد أصبحت في مثل هذا اليوم وإن على رأسى أربعمائة وصيفة وأقول إن ابنى جعفرا عاق لي وروى الخطيب البغدادي بإسناده أن سفيان بن عيينة لما بلغه قتل الرشيد جعفرا وما أحل بالبرامكة استقبل القبلة وقال اللهم إن جعفرا كان قد كفاني مؤنة الدنيا فاكفه مؤوه الأخره حكاية غريبة
حكاية غريبة
ذكر ابن الجوزي في المنتظم أن المأمون بلغه أن رجلا يأتي كل يوم إلى قبور البرامكة فيبكي عليهم ويندبهم فبعث من جاء به فدخل عليه وقد يئس من الحياة فقال له ويحك ما يحملك عل صنيقك هذا فقال يا أمير المؤمنين إنهم أسدوا إلى معروفا وخيرا كثيرا فقال وما الذي
أسدوه إليك فقال أنا المنذر بن المغيرة من أهل دمشق كنت بدمشق في نعمة عظيمة واسعة فزالت عنى حتي أفضى بي الحال إلى أن بعت داري ثم لم يبق لى شئ فأشار بعض أصحابي على بقصد البرامكة ببغداد فأتيت أهلى وتحملت بعيالي فأتيت بغداد ومعي نيف وعشرون امرأة فأنزلتهن في مسجد مهجور ثم قصدت مسجدا مأهولا أصلى فيه فدخلت مسجدا فيه جماعة لم أر أحسن وجوها منهم فجلست إليهم فجعلت أدبر في نفسي كلاما أطلب به منهم قوتا للعيال الذين معى فيمنعنى من ذلك السؤال الحياء فبينا أنا كذلك إذا بخادم قد أقبل فدعاهم فقاموا كلهم وقمت معهم فدخلوا دارا عظيمة فإذا الوزير يحي بن خالد جالس فيها فجلسوا حوله فعقد عقد ابنته عائشة على ابن عم له ونثروا فلق المسك وبنادق العنبر ثم جاء الخدم إلى كل واحد من الجماعة بصينية من فضة فيها ألف دينار ومعها فتات المسك فأخذها القوم ونهضوا وبقيت أنا جالسا وبين يدي الصينية التي وضعوها لى وأنا أهاب أن آخذها من عظمتها في نفسي فقال لي بعض الحاضرين ألا تأخذها وتذهب فمددت يدي فأخذتها فأفرغت ذهبها في جيبى وأخذت الصينية تحت إبطي وقمت وأنا خائف أن تؤخذ منى فجعلت أتلفت والوزير ينظر إلى وأنا لا أشعر فلما بلغت الستارة أمرهم فردوني فيئست من المال فلما رجعت قال لى ما شأنك خائف فقصصت عليه خبرى فبكى ثم قال لأولاده خذوا هذا فضموه إليكم فجاءني خادم فأخذ منى الصينية والذهب وأقمت عندهم عشرة أيام من ولد إلى ولد وخاطري كله عند عيالي ولا يمكنني الانصراف فلما انقضت العشرة الأيام جاءني خادم فقال ألا تذهب إلى عيالك فقلت بلى والله فقام يمشى أمامي ولم يعطنى الذهب ولا الصينية فقلت يا ليت هذا كان قبل أن يؤخذ منى الصينية والذهب ياليت عيالي رأوا ذلك فسار يمشى أمامي إلى لم أر أحسن منها فدخلتها فإذا عيالي يتمرغون في الذهب والحرير فيها وقد بعثوا إلى الدار مائة ألف درهم وعشرة آلاف دينار وكتابا فيه تمليك الدار بما فيها وكتابا آخر فيه تمليك قريتين جليلتين فكنت مع البرامكة في أطيب عيش فلما أصيبوا أخذ منى عمرو بن مسعدة العريتين وألزمنى بخارجهما فكلما لحقتني فاقة قصدت دورهم وقبورهم فبكيت عليهم فأمر المأمون برد القريتين فبكى الشيخ بكاء شديدا فقال المأمون مالك ألم استأنف بك جميلا قال بلى ولكن هو من بركة البرامكة فقال له المأمون امض مصاحبا فإن الوفاء مبارك ومراعاة حسن العهد والصحبة من الايمان وفيها توفي
الفضيل بن عياض
أبو على التميمى أحد أئمة العباد الزهاد وهو أحد العلماء والأولياء ولد بخراسان بكورة دينور وقدم الكوفة وهو كبير فسمع بها الأعمش ومنصور بن المعتمر وعطاء بن السائب وحصين بن
عبد الرحمن وغيرهم ثم انتقل إلى مكة فتعبد بها وكان حسن التلاوة كثير الصلاة والصيام وكان سيدا جليلا ثقة من أئمة الرواية رحمه الله ورضى عنه وله مع الرشيد قصة طويلة وقد روينا ذلك مطولا في كيفية دخول الرشيد عليه منزله وما قال له الفضيل بن عياض وعرض عليه الرشيد المال فأبى أن يقبل منه ذلك توفي بمكة في المحرم من هذه السنة وذكروا أنه كان شاطرا يقطع الطريق وكان يتعشق جارية فبينما هو ذات ليلة يتسور عليها جدارا إذ سمع قارئا يقرأ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله فقال بلى وتاب وأقلع عما كان عليه ورجع إلى خربة فبات بها فسمع سفارا يقولون خذوا حذركم إن فضيلا أمامكم يقطع الطريق فأمنهم واستمر على توبته حتى كان منه ما كان من السيادة والعبادة والزهادة ثم صار علما يقتدى به ويهتدى بكلامه وفعاله
قال الفضيل لو أن الدنيا كلها حلال لا أحاسب بها لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه وقال العمل لأجل الناس شرك وترك العمل لأجل الناس رياء والاخلاص أن يعافيك الله منهما وقال له الرشيد يوما ما أزهدك فقال أنت أزهد منى لأني أنا زهدت في الدنيا التي هي أقل من جناح بعوضة وأنت زهدت في الآخرة التي لا قيمة لها فأنا زاهد في الفاني وأنت زاهد في الباقي ومن زهده في درة أزهد ممن زهد في بعرة وقد روي مثل هذا عن أبي حازم أنه قال ذلك لسليمان بن عبد الملك
وقال لو أن دعوة مستجابة لجعلتها للامام لأن به صلاح الرعية فاذا صلح أمنت العباد والبلاد وقال إني لأعصى الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي وامرأتى وفأر بيتى وقال في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا قال يعنى أخلصه وأصوبه إن العمل يجب أن يكون خالصا لله وصوابا على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها توفي
بشر بن المفضل وعبد السلام بن حرب وعبد العزيز بن محمد الدراوردي وعبد العزيز العمى وعلى بن عيسى الأمير ببلاد الروم مع القاسم بن الرشيد في الصائفة ومعتمر بن سليمان وأبو شعيب البراثي الزاهد وكان أول من سكن براثا في كوخ له يتعبد فيه فهويته امرأة من بنات الرؤساء فانخلعت مما كانت فيه من الدنيا والسعادة والحشمة وتزوجته وأقامت معه في كوخه تتعبد حتى ماتا يقال إن اسمها جوهرة