ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين
 
فيها وقعت مفاداة الأسارى المسلمين الذين كانوا في أيدي الروم على يدي الأمير خاقان الخادم وذلك في المحرم من هذة السنة وكان عدة الأساري أربعة وثلثمائة واثنين وستين أسيرا
وفيها كان مقتل أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله وأكرم مثواه
وكان سبب ذلك أن هذا الرجل وهو أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي وكان جده مالك ابن الهيثم من أكبر الدعاة إلى دولة بني العباس الذين قتلوا ولده هذا وكان أحمد بن نصر هذا له وجاهة ورياسة وكان أبوه نصر بن مالك يغشاه أهل الحديث وقد بايعه العامة في سنة إحدى ومائتين على القيام بالأمر والنهي حين كثرت الشطار والدعار في غيبة المأمون عن بغداد كما تقدم ذلك وبه تعرف سويقة نصر ببغداد وكان أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن يدعو إليه ليلا ونهارا سرا وجهارا اعتمادا على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المامون من
غير دليل ولا برهان ولاحجة ولا بيان ولا سنة ولا قرآن فقام أحمد بن نصر هذا يدعو إلى الله وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن النكر والقول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق في أشياء كثيرة دعا الناس إليها فاجتمع عليه جماعة من أهل بغداد والتف عليه من الألوف أعداد وانتصب للدعوة إلى أحمد بن نصر هذا رجلان وهما أبو هارون السراج يدعو أهل الجانب الشرقي وآخر يقال له طالب يدعو أهل الجانب الغربي فاجتمع عليه من الخلائق ألوف كثيرة وجماعات غزيرة فلما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السير على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخروج على السلطان لبدعته ودعوته إلى القول بخلق القرآن ولما هو عليه وأمراؤه وحاشيته من المعاصي والفواحش وغيرها فتواعدوا على أنهم في الليلة الثالثة من شعبان وهي ليلة الجمعة يضرب طبل في الليل فيجتمع الذين بايعوا في مكان اتفقوا عليه وأنفق طالب وأبو هارون في أصحابه دينارا دينارا وكان من جملة من أعطوه رجلان من بني أشرس وكانا يتعاطيان الشراب فلما كانت ليلة الخميس شربا في قوم من أصحابهم واعتقدا أن تلك الليلة هي ليلة الوعد وكان ذلك قبله بليلة فقاما يضربان على طبل في الليل ليجتمع إليهما الناس فلم يجئ أحد وانخرم النظام وسمع الحرس في الليل فأعلموا نائب السلطنة وهو محمد بن إبراهيم بن مصعب وكان نائبا لأخيه إسحاق بن إبراهيم لغيبته عن بغداد فأصبح الناس متخبطين واجتهد نائب السلطنة على إحضار ذينك الرجلين فأحضرا فعاقبهما فأقرا على أحمد بن نصر فطلبه وأخذ خادما له فاستقره فأقر بما أقر به الرجلان فجمع جماعة من رؤس أصحاب أحمد بن نصر معه وأرسل بهم إلى الخليفة بسر من رأى وذلك في آخر شعبان فأحضر له جماعة من الأعيان وحضر القاضي أحمد بن أبي داؤد المعتزلي وأحضر أحمد بن نصر ولم يظهر منه على أحمد بن نصر ولم يظهر منه على احمد ابن نصر عتب فلما أوقف أحمد بن نصر بين يدي الواثق لم يعاتبه على شيء مما كان منه في مبايعته العوام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره بل أعرض عن ذلك كله وقال له ما تقول في القرآن فقال هو كلام الله قال أمخلوق هو قال هو كلام الله وكان أحمد بن نصر قد استقتل وباع نفسه وحضر وقد تحنط وتنور وشد على عورته ما يسترها فقال له فما تقول في ربك أتراه يوم القيامة فقال يا أمير المؤمنين قد جاء القرآن والأخبار بذلك قال الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فنحن على الخبر زاد الخطيب قال الواثق ويحك أيرى كما يرى المحدود المتجسم ويحويه مكان ويحصره الناظر أنا أكفر برب هذه صفته قلت
وما قاله الواثق لا يجوز ولا يلزم ولا يرد به هذا الخبر الصحيح والله أعلم ثم قال أحمد بن
نصر للواثق وحدثني سفيان بحديث يرفعه إن قلب ابن آدم بأصبعين من أصابع الله يقلبه كيف شاء وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقال له إسحاق بن إبراهيم ويحك انظر ما تقول فقال أنت أمرتني بذلك فأشفق إسحاق من ذلك وقال أنا أمرتك قال نعم أنت أمرتني أن أنصح له فقال الواثق لمن حوله ما تقولون في هذا الرجل فأكثروا القول فيه فقال عبد الرحمن بن إسحاق وكان قاضيا على الجانب الغربي فعزل وكان موادا لأحمد بن نصر قبل ذلك يا أمير المؤمنين هو حلال الدم وقال أبو عبد الله الأرمني صاحب أحمد بن أبي داؤد اسقني دمه يا أمير المؤمنين فقال الواثق لابد أن يأتي ما تريد وقال ابن أبي دؤاد هو كافر يستتاب لعل به عاهة أو نقص عقل فقال الواثق إذا رأيتموني قمت إليه فلا يقومن أحد معي فإني أحتسب خطاى ثم نهض إليه بالصمصامة وقد كانت سيفا لعمرو بن معد يكرب الزبيدي أهديت لموسى الهادي في أيام خلافته وكانت صفيحة مسحورة في أسفلها مسمورة بمسامير فلما انتهي إليه ضربه بها على عاتقه وهو مربوط بحبل قد أوقف على نطع ثم ضربه أخرى على رأسه ثم طعنه بالصمصامة في بطنه فسقط صريعا رحمه الله على النطع ميتا فانا لله وإنا إليه راجعون رحمه الله وعفا عنه ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضرب عنقه وحز رأسه وحمل معترضا حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك الخرمي فصلب فيها وفي رجليه زوج قيود وعليه سراويل وقميص وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أياما وفي الغربي اياما وعنده الحرس في الليل والنهار زفي أذنه رقعة مكتوب فيها هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر الخزاعي ممن قتل على يدي عبد الله هارون الامام الواثق بالله أمير المؤمنين بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن ونفي التشبيه وعرض عليه التوبة ومكنه من الرجوع إلى الحق فأبى إلا المعاندة والتصريح فالحمد لله الذي عجله إلى ناره وأليم عقابه بالكفر فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه ولعنه
ثم أمر الواثق بتتبع رؤس أصحابه فأخذ منهم نحوا من تسع وعشرين رجلا فأودعوا في السجون وسموا الظلمة ومنعوا أن يزورهم أحد وقيدوا بالحديد ولم يجر عليهم شيء من الأرزاق التي كانت تجري على المحبوسين وهذا ظلم عظيم
وقد كان أحمد بن نصر هذا من أكابر العلماء العاملين القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسمع الحديث من حماد بن زيد وسفيان بن عيينة وهاشم بن بشير وكانت عنده مصنفاته كلها وسمع من الامام مالك بن أنس أحاديث جيدة ولم يحدث بكثير من حديثه وحدث عنه أحمد بن إبراهيم الدورقي وأخوه يعقوب بن إبراهيم ويحي بن معين وذكره يوما فترحم عليه وقال قد ختم الله له بالشهادة وكان لا يحدث ويقول إني لست أهلا لذلك وأحسن يحي بن معين الثناء
عليه جدا وذكره الامام أحمد بن حنبل يوما فقال رحمه الله ما كان أسخاه بنفسه لله لقد جاد بنفسه له وقال جعفر بن محمد الصائغ بصرت عيناي وإلا فقئتا وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد ابن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه لا إله إلا الله وقد سمعه بعض الناس وهو مصلوب على الجذع ورأسه يقرأ الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون قال فاقشعر جلدي ورآه بعضهم في النوم فقال له مافعل بك ربك فقال ما كانت إلا غفوة حتى لقيت الله عز وجل فضحك إلى ورأى بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ومعه أبو بكر وعمر قد مروا على الجذع الذي عليه رأس أحمد بن نصر فلما جاوزوه أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه الكريم عنه فقيل له يارسول الله مالك أعرضت عن أحمد بن نصر فقال أعرضت عنه استحياء منه حين قتله رجل يزعم أنه من أهل بيتي
ولم يزل رأسه منصوبا من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان من هذه السنة أعني سنة إحدى وثلاثين ومائتين إلى بعد عيد الفطر بيوم أو يومين من سنة سبع وثلاثين ومائتين فجمع بين رأسه وجثته ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية رحمه الله وذلك بأمر المتوكل على الله الذي ولى الخلافة بعد أخيه الواثق وقد دخل عبد العزيز بن يحي الكتائي صحاب كتاب الحيدة على المتوكل وكان من خيار الخلفاء لأنه أحسن الصنيع لأهل السنة بخلاف أخيه الواثق وأبيه المعتصم وعمه المأمون فإنهم أساؤا إلى أهل السنة وقربوا أهل البدع والضلال من المعتزلة وغيرهم فأمره أن ينزل جثة محمد بن نصر ويدفنه ففعل وقد كان المتوكل يكرم الامام أحمد بن حنبل إكراما زائدا جدا كما سيأتي بيانه في موضعه والمقصود أن عبد العزيز صاحب كتاب الحيدة قال للمتوكل يا أمير المؤمنين ما رأيت أو مارئى أعجب من أمر الواثق قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ إلى أن دفن فوجل المتوكل من كلامه وساءه ما سمع في أخيه الواثق فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر فقال يا أمير المؤمنين أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا ودخل عليه هرثمة فقال له في ذلك فقال قطعني الله إربا إربا إن قتله إلا كافرا ودخل عليه القاضي أحمد بن أبي داؤد فقال له مثل ذلك فقال ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافرا قال المتوكل فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار وأما هرثمة فانه هرب فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه فقطعوه إربا إربا وأما ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده يعني بالفالج ضربه الله قبل موته بأربع سنين وصودر من صلب ماله بمال جزيل جدا كما سيأتي بيانه في موضعه
وروى أبو داود في كتاب المسائل عن أحمد بن إبراهيم الدورقي عن أحمد بن نصر قال سألت سفيان بن عيينة القلوب بين إصبعين من أصابع الله وإن الله يضحك ممن يذكره في الأسواق فقال اروها كما جاءت بلا كيف
وفيها أراد الواثق أن يحج واستعد فذكر له أن الماء بالطريق قليل فترك الحج عامئذ
وفيها تولى جعفر بن دينار نائب اليمن فسار إليها في أربعة آلاف فارس وفيها عدا قوم من العامة على بيت المال فأخذوا منه شيئا من الذهب والفضة فأخذوا وسجنوا وفيها ظهر خارجي ببلاد ربيعة فقاتله نائب الموصل فكسره وانهزم أصحابه وفيها قدم وصف الخادم بجماعة من الاكراد نحو من خمسمائة في القيود كانوا قد أفسدوا في الطرقات وقطعوها فأطلق الخليفة لوصيف الخادم خمسة وسبعين ألف دينار وخلع عليه وفيها قدم خاقان الخادم من بلاد الروم وقد تم الصلح والمفاداة بينه وبين الروم وقدم معه جماعة من رؤس الثغور فأمر الواثق بإمتحانهم بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة وأمر الواثق أيضا بإمتحان الأسارى الذين فودوا من أسر الفرنج بالقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخره فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فودى وإلا ترك في أيدي الكفار وهذه بدعة صلعاء شنعاء عمياء صماء لا مستند لها من كتاب ولا سنة ولا عقل صحيح بل الكتاب والسنة والعقل الصحيح بخلافها كما هو مقرر في موضعه وبالله المستعان
وكان وقوع المفاداة عند نهر يقال له اللامس عند سلوقية بالقرب من طرسوس فبدل كل مسلم أو مسلمة في أيدي الروم أو ذمي أو ذمية كان تحت عقد المسلمين أسير من الروم كان بأيدي المسلمين ممن لم يسلم فنصبوا جسرين على النهر فإذا أرسل الروم مسلما أو مسلمة في جسرهم فانتهى إلى المسلمين كبر وكبر المسلمون ثم يرسل المسلمون أسيرا من الروم على جسرهم فإذا انتهى إليهم تكلم بكلام بشبه التكبير أيضا ولم يزالوا كذلك مدة أربعة أيام بدل كل نفس نفس ثم بعي مع خاقان جماعة من الروم الأسارى فأطقهم للروم حتى يكون له الفضل عليهم
قال ابن جرير وفيها مات الحسن بن الحسين أخو طاهر بطبرستان في شهر رمضان وفيها مات الخطاب بن وجه الفلس وفيها مات أبو عبد الله بن الأعرابي الرواية يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من شعبان وهو ابن ثمانين سنة وفيها ماتت أم أبيها بنت موسى أخت على بن موسى الرضا وفيها مات مخارق المغني وأبو نصر أحمد بن حاتم راوية الأصمعي وعمرو بن أبي عمرو الشيباني ومحمد بن سعدان النحوي قلت وممن توفي فيها أيضا أحمد نصر الخزاعي كما تقدم وإبراهيم
ابن محمد بن عرعرة وأمية بن بسطام وأبو تمام الطائي في قول والمشهور ما تقدم وكامل بن طلحة ومحمد بن سلام الجمحي وأخوه عبد الرحمن ومحمد بن منهال الضرير ومحمد بن منهال أخو حجاج وهارون بن معروف والبويطي صاحب الشافعي مات في السجن مقيدا على القول بخلق القرآن فامتنع من ذلك ويحي بن بكير راوي الموطأ عن مالك