ثم دخلت سنة خمس وثلاثون ومائتين
 
في جمادي الآخرة منها كان هلاك إيتاخ في السجن وذلك أنه رجع من الحج فتلقته هدايا الخليفة فلما اقترب يريد دخول سامرا التي فيها المتوكل بعث إليه إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد عن أمر الخليفة يستدعيه إليها ليتلقاه وجوه الناس وبني هاشم فدخلها في أبهة عظيمة فقبض عليه إسحاق بن إبراهيم وعلى ابنيه مظفر ومنصور وكاتبيه سلمان بن وهب وقدامه بن زياد النصراني فأسلم تحت العقوبة وكان هلاك ايتاخ بالعطش وذلك أنه أكل أكلا كثيرا بعد جوع شديد ثم استقى الماء فلم يسقى حتى مات ليلة الأربعاء لخمس خلون من جمادي الآخرة منها ومكث ولداه في السجن مدة خلافة المتوكل فلما ولى المنتصر ولد المتوكل أخرجهما وفي شوال منها قدم بغا سامرا ومعه محمد بن البعيث وأخواه صقر وخالد ونائبه العلاء ومعهم من رؤس أصحابه نحو مائة وثمانين إنسانا فأدخلوا على الجمال ليراهم الناس فلما أوقف ابن البعيث بين يدي المتوكل أمر بضرب عنقه فأحضر السيف والنطع فجاء السياقون فوقفوا حوله فقال المتوكل ويلك ما دعاك إلى ما فعلت فقال الشقوة يا أمير المؤمنين وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه وأن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك وهو العفو ثم اندفع يقول بديهة
أبى الناس إلا وانك اليوم قاتلي * أمام الهدى والصفح بالمرء أجمل
وهل أنا إلا جبلة من خطيئة * وعفوك من نور النبوة يجبل
فإنك خير السابقين إلى العلى * ولا شك أن خير الفعالين تفعل
فقال المتوكل أن معه لأدبا ثم عفا عنه ويقال شفع فيه المعتز بن المتوكل فشفعه ويقال بل أودع في السجن في قيود فلم يزل فيه حتى هرب بعد ذلك وقد قال حين هرب
كم قضيت أمورا كان أهملها * غيري وقد أخذ الإفلاس بالكظم
لاتعذليني فيما ليس ينفعني * إليك عني جرى المقدور بالقلم
سأتلف المال في عسر في يسر * إن الجواد الذي يعطي على العدم
وفيها أمر المتوكل أهل الذمة أن يتميزوا عن المسلمين في لباسهم وعمائمهم وثيابهم وأن يتطيلسوا بالمصبوغ بالقلي وان يكون على عمائمهم رقاع مخالفة للون ثيابهم من خلفهم ومن بين أيديهم وأن يلزموا بالزنانير الخاصرة لثيابهم كزنانير الفلاحين اليوم وأن يحملوا في رقابهم كرات من خشب كثيرة وان لا يركبوا خيلا ولتكن ركبهم من خشب إلى غير ذلك من الأمور المذلة لهم المهينة لنفوسهم وأن لا يستعملون في شيء من الدواوين التي يكون لهم فيها حكم على مسلم وأمر بتخريب كنائسهم المحدثة وبتضيق منازلهم المتسعة فيؤخذ منها العشر وأن يعمل مما كان متسعا من منازلهم
مسجد وأمر بتسوية قبورهم بالأرض وكتب بذلك إلى سائر الأقاليم والافاق وإلى كل بلد ورستاق
وفيها خرج رجل يقال له محمود بن الفرج النيسابوري وهو ممن كان يتردد إلى خشبة بابك وهو مصلوب فيقعد قريبا منه وذلك بقرب دار الخلافة بسر من رأى فادعى انه نبي وأنه ذو القرنين وقد اتبعه على هذه الضلالة ووافقه على هذه الجهالة جماعة قليلون وهم تسعة وعشرون رجلا وقد نظم لهم كلاما في مصحف له قبحه الله زعم أن جبريل جاءه به من الله فأخذ فرفع أمره إلى المتوكل فأمر فضرب بين يديه بالسياط فاعترف بما نسب إليه وما هو معول عليه وأظهر التوبة من ذلك والرجوع عنه فأمر الخليفة كل واحد من أتباعه التسعة والعشرين أن يصفعه فصفعوه عشر صفعات وعليهم لعنة رب الأرض والسموات ثم إتفق موته في يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي الحجة من هذه السنة
وفي يوم السبت لثلاث بقين من ذي الحجة أخذ المتوكل على الله العهد من بعده لأولاده الثلاثة وهم محمد المنتصر ثم أبو عبد الله المعتز واسمه محمد وقيل الزبير ثم لإبراهيم وسماه المؤيد بالله ولم يل الخلافة هذا وأعطى كل واحد منهم طائفة من البلاد يكون نائبا عليها ويستنيب فيها ويضرب له السكة بها وقد عين ابن جرير لكل واحد منهم من البلدان والأقاليم وعقد لكل واحد منهم لواء أسود للعهد ولواء للعمالة وكتب بينهم كتابا بالرضى منهم ومبايعته لأكثر الأمراء على ذلك وكان مشهودا وفيها في شهر ذي الحجة منها تغير ماء دجلة إلى الصفرة ثلاثة أيام ثم صار في لون ماء الدردى ففزع الناس لذلك وفيها أتى المتوكل بيحيى بن عمر بن زيد بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب من بعض النواحي وكان قد اجتمع إليه قوم من الشيعة فأمر بضربه فضرب ثماني عشرة مقرعة ثم حبس في المطبق وحج بالناس محمد بن داود
قال ابن جرير وفيها توفى إسحاق بن إبراهيم صاحب الجسر يعني نائب بغداد يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة وجعل ابنه محمد مكانه وخلع عليه خمس خلع وقلده سيفا قلت وقد كان نائبا في العراق من زمن المأمون وهو من الدعاة تبعا لسادته وكبرائه إلى القول بخلق القرآن الذي قال الله تعالى فيهم ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل الآية وهو الذي كان يمتحن الناس ويرسلهم إلى المأمون وفيها توفي
إسحاق بن ما هان
الموصلي النديم الأديب النادر الشكل في وقته المجموع من كل فن يعرفه أبناء عصره في الفقه والحديث والجدل والكلام واللغة والشعر ولكن اشتهر بالغناء لأنه لم يكن له في الدنيا
نظير فيه قال المعتصم إن إسحاق إذا غنى يخيل لي أنه قد زيد في ملكي وقال المأمون لولا اشتهاره بالغناء لوليته القضاء عليها من عفته ونزاهته وأمانته وله شعر حسن وديوان كبير وكانت عنده كتب كثيرة من كل فن توفي في هذه السنة وقيل التي قبلها وقيل في التي بعدها وقد ترجمه ابن عساكر ترجمة حافلة وذكر عنه أشياء حسنه وأشعارا رائقة وحكايات مدهشة يطول استقصاؤها فمن غريب ذلك أنه غنى يوم يحيى بن خالد بن برمك فوقع له بألف ألف ووقع ابنه جعفر بمثلها وابنه الفضل بمثلها في حكايات طويلة
وفيها توفي شريح بن يونس وشيبان بن فروخ وعبد الله بن عمر الفواريري وأبو بكر بن أبي شيبة أحد الأعلام وأئمة الإسلام وصاحب المصنف الذي لم يصنف أحد مثله قط لا قبله ولا بعده