ورعه وتقشفه وزهده رحمه الله
 

روى البهيقي من طريق المزني عن الشافعي أنه قال للرشيد ان اليمن يحتاج إلى قاض فقال له اختر رجلا نوله اياها فقال الشافعي لأحمد بن حنبل وهو يتردد إليه في جملة من يأخذ عنه ألا تقبل قضاء اليمن فامتنع من ذلك امتناعا شديدا وقال الشافعي اني إنما اختلف اليك لأجل العلم المزهد في الدنيا فتأمرني أن ألي القضاء ولولا العلم لما أكلمك بعد اليوم فاستحى الشافعي منه
وروى أنه كان لا يصلي خلف عمه اسحاق بن حنبل ولا خلف بنيه ولا يكلهم أيضا لأنهم أخذو جائزة السلطان ومكث مرة ثلاثة أيام لا يجد ما يأكله حتى بعث إلى بعض أصحابه فاستقرض منه دقيقا فعرف أهله حاجته إلى الطعام وعجنوا وخبزوا له سريعا فقال ما هذه العجلة كيف خبزتم فقالوا وجدنا تنور بيت صالح مسجورا فخبزنا لك فيه فقال ارفعوا ولم يأكل وأمر بسد بابه إلى دار صالح قال البهيقي لأن صالحا أخذ بجائزة السلطان وهو المتوكل على الله وقال عبدالله ابنه مكث أبي بالعسكر عند الخليفة ستة عشر يوما يأكل فيها الا ربع مد سويقا يفطر بعد كل ثلاث ليال على سفه منه حتى رجع إلى بيته ولم ترجع إليه نفسه الا بعد ستة أشهر وقد رأيت موقية دخلا في حدقتيه قال البهيقي وقد كان الخليفة يبعث إليه المائدة فيها أشياء كثيرة من الانواع وكان أحمد لا يتناول منها شيئا قال وبعث المأمون مرة ذهبا يقسم على أصحاب الحديث فما بقي منهم أحدا إلا أخذ إلا أحمد بن حنبل فإنه أبى
وقال سليمان الشاذ كوني حضرت أحمد وقد رهن سطلا له عند فامى اليمن فلما جاءه بفكاكه اخرج له سطلين فقال خذ متاعك منهما فاشتبه ايهما له فقال انت في حل منه ومن الفكك وتركه وذهب وحكى ابنه عبدالله قال كنا في زمن الواثق في ضبق شديد فيكتب رجل إلى أبي إن عندي أربعة آلاف درهم ورثتها من أبي وليست صدقة ولا زكاة فإن رأيت أن تقبلها فامتنع من ذلك وكرر عليه فأبى فلما كان بعد حين ذكرنا ذلك فقال أبي لوكنا قبلناها كانت ذهبت وأكلناها وعرض عليه بعض التجار عشرة آلاف درهم ربحها من بضاعة جعلها
بإسمه فأبى أن يقبلها وقال نحن في كفاية وجزاك الله عن قصدك خيرا وعرض عليه تاجر آخر ثلاثة آلاف دينار فامتنع من قبولها وقام وتركه ونفذت نفقة أحمد وهو في اليمن فعرص عليه شيخه عبدالرزاق ملء كفه دنانير فقال نحن في كفاية ولم يقبلها وسرقت ثيابه وهو في باليمن فجلس في بيته ورد عليه الباب وفقد أصحابه فجاءوا إليه فسألوه فأخبرهم فعرضوا عليه ذهبا فلم يقبله ولم يأخذ منهم إلا دينارا واحد ليكتب لهم به فكتب لهم بالأجر رحمه الله وقال أبو داود كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة لايذكر فيها شيء من أمر الدنيا وما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط وروى البهيقي أن أحمد سأل عن التوكل فقال هو قطع الاستشراف باليأس من الناس فقيل له هل من حجة على هذا قال نعم إن إبراهيم لما رمي به في النار في المنجنيق عرض له جبريل فقال هل لك من حاجة قال أما إليك فلا قال فسل من لك إليه حاجة فقال أحب الأمرين ألي أحبهما إليه
وعن أبي جعفر محمد بن يعقوب الصفار قال كنا مع أحمد بن حنبل بسر من رأى فقلنا ادع الله لنا فقال اللهم انك تعلم أنك على أكثر مما نحب فاجعلنا على ما تحب دائما ثم سكت فقلنا زدنا فقال اللهم انا نسألك بالقدرة التي قلت للسموات والارض ائتيا طوعا او كرها قالتا أتينا طائعين اللهم وفقنا لمرضاتك اللهم إنا نعود بك من الفقر الا اليك ونعود بك من الذل الا لك اللهم لا تكثر لنا فنطغى ولا تقل علينا ففنسى وهب لنا من رحمتك وسعة رزقك ما يكون بلاغا لنا في دنيانا وغنى من فضلك قال البهيقي وفي حكاية أبي الفضل التميمي عن أحمد وكان يدعو في السجود اللهم من كان من هذه الامة على غير الحق وهو يظن أنه على الحق فرده إلى الحق ليكون من أهل الحق وكان يقول اللهم إن قبلت عن عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فداء فاجعلني فداء لهم وقال صالح بن أحمد كأن أبي لا يدع أحدا يستقى له الماء للوضوء بل كان يلي ذلك بنفسه فإذا خرج الدلو ملآن قال الحمد لله فقلت يا أبة ما الفائدة بذلك فقال يا بني أما سمعت قول الله عز وجل أرئيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين والأخبار عنه في هذا الباب كثيرة جدا وقد صنف أحمد في الزهد كتابا حافلا عظيما لم يسبق إلى مثله ولم يلحقه أحد فيه والمظنون بل المقطوع به أنه كان يأخذ بما أمكنه منه رحمة الله
وقال اسماعيل بن اسحاق السراج قال لي أحمد بن حنبل هل تستطيع أن تريني الحارث المحاسبي إذا جاء منزلك فقلت نعم وفرحت بذلك ثم ذهبت إلى الحارث فقلت له إني أحب أن تحضر الليلة عندي أنت وأصحابك فقال إنهم كثير فأحضر لهم التمر والكسب فلما كان بين العشاءين جاؤا وكان الامام أحمد قد سبقهم فجلس في غرفة بحيث يراهم ويسمع كلامهم ولا يرونه فلما صلوا العشاء الآخرة لم يصلوا بعدها شيئا بل جاؤا بين يدي الحارث سكوتا
مطرقي الرؤس كأنما على رؤسهما الطير حتى اذا كان قريبا من نصف الليل سأله رجل مسألة فشرع الحارث يتكلم عليها وعلى ما يتعلق بها من الزهد والورع والوعظ فجعل هذا يبكي وهذا يئن وهذا يزعق قال فصعدت الى الامام احمد الى الغرفة فاذا هو يبكي حتى كاد يغشى عليه ثم لم يزالوا كذلك حتى الصباح فلما أرادوا الانصراف قلت كيف رأيت هؤلاء يا ابا عبدالله فقال ما رأيت احدا يتكلم في الزهد مثل هذا الرجل وما رأيت مثل هؤلاء ومع هذا فلا أرى لك أن تجتمع بهم قال البهيقي يحتمل أنه كره له صحبتهم لأن الحارث بن أسد وان كان زاهدا فإنه كان عنده شيء من الكلام وكان أحمد يكره ذلك أو كره له صحبتهم من أجل أنه لايطيق سلوك طريقتهم وما هم عليه من الزهد والورع قلت بل انما كره ذلك لأن في كلامهم من التقشف وشدة السلوك التي يرد بها الشرع والتدقيق والمحاسبة الدقيقة البليغة ما لم بأت بها أمر ولهذا لما وقف أبو زرعة الرازي على كتاب الحارث المسمى بالرعاية قال هذا بدعة ثم قال للرجل الذي جاء بالكتاب عليك بما كان عليه مالك والثوري والأوزاعي والليث ودع عنك هذا فإنه بدعة وقال إبراهيم الحربي سمعت أحمد بن حنبل يقول إن أحببت أن يدوم الله لك على ما تحب فدم له على مايحب وقال الصبر على الفقر مرتبة لاينالها الا الأكابر وقال الفقر أشرف من الغنى فان الصبر عليه مرارة وانزعاجه أعظم حالا من الشكر وقال لا أعدل بفضل الفقر شيئا وكان يقول على العبد أن يقبل الرزق بعد اليأس ولا يقبله إذا تقدمه طمع أو استشراف وكان يحب التقليل من الدنيا لأجل خفة الحساب وقال إبراهيم قال رجل لأحمد هذا العلم تعلمته لله فقال له أحمد هذا شرط شديد ولكن حبب إلى شيء فجمعته وفي رواية أنه قال أما الله فعزيز ولكن حبب إلى شيء فجمعته
وروى البهيقي أن رجلا جاء إلى الامام أحمد فقال إن أمي زمنه مقعده منذ عشرين سنه وقد بعثتني اليك لتدعو لها فكأنه غضب من ذلك وقال نخن أحوج أن تدعو هي لنا من أن ندعو لها ثم دعا الله عز وجل لها فرجع الرجل إلى امه فدق الباب فخرجت إليه على رجليها وقالت قد وهبني الله العافية وروى أن سائلا سأل فأعطاه الامام أحمد قطعة فقام رجل إلى السائل فقال هبني هذه القطعة حتى أعطيك عوضها ما تساوي درهما فأبى فرقاه إلى خمسين درهما وهو يأبى وقال إني أرجو من بركتها ما ترجوه انت من بركتها ثم قال البهيقي رحمه الله