خلع المهتدي بالله وولاية المعتمد أحمد بن المتوكل
 
لما بلغ موسى بن بغا أن مساور الشاري قد عاث بتلك الناحية فسادا ركب إليه في جيش كثيف ومعه مفلح وبايكباك التركي فاقتتلوا هم ومساور الخارجي ولم يظفروا به بل هرب منهم وأعجزهم وكان قد فعل قبل مجيئهم الأفاعيل المنكرة فرجعوا ولم يقدروا عليه ثم إن الخليفة أراد أن يخالف بين كلمة الأتراك فكتب إلى بايكباك أن يتسلم الجيش من موسى بن بغا ويكون هو الأمير على الناس وأن يقبل بهم إلى سامرا فلما وصل إليه الكتاب أقرأه موسى بن بغا فاشتد غضبه على المهتدي واتفقا عليه وقصدا إليه إلى سامرا وتركا ما كانا فيه فلما بلغ المهتدي ذلك استخدم من فوره جندا من المغاربة والفراغنة والأشروسية والأرزكشية والأتراك أيضا وركب في جيش كثيف فما سمعوا به رجع موسى بن بغا إلى طريق خراسان وأظهر بايكباك السمع والطاعة فدخل في ثاني عشر رجب إلى الخليفة سامعا مطيعا فلما أوقف بين يديه وحوله الأمراء والسادة من بني هاشم شاورهم في قتله فقال له صالح بن علي بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور يا أمير المؤمنين لم يبلغ أحد من الخلفاء في الشجاعة ما بلغت وقد كان أبو مسلم الخراساني شرا من هذا وأكثر جندا ولما قتله المنصور سكنت الفتنة وخمد صوت أصحابه فأمر عند ذلك بضرب عنق بايكباك ثم ألقى رأسه إلى الأتراك فلما رأوا ذلك أعظموه وأصبحوا من الغد مجتمعين على أخي بايكباك طغوتيا فخرج إليهم الخليفة فيمن معه فلما التقوا خامرات الأتراك الذين مع الخليفة إلى أصحابهم وصاروا إلبا واحدا على الخليفة فحمل الخليفة فقتل منهم نحوا من أربعة آلاف ثم حملوا عليه فهزموه ومن معه فانهزم الخليفة وبيده السيف صلتا وهو ينادي يا أيها الناس انضروا خليفتكم فدخل دار أحمد بن جميل صاحب المعونة فوضع فيها سلاحه ولبس البياض وأراد أن يذهب فيختفي فعاجله أحمد بن خاقان منها فأخذه قبل أن يذهب ورماه بسهم وطعن في خاصرته به وحمل على دابة وخلفة سائس وعليه قميص وسراويل حتى أدخلوه دار أحمد بن خاقان فجعل من هناك يصفعونه ويبزقون في وجهه وأخذ خطه بستمائة ألف دينار
وسلموه إلى رجل فلم يزل يجأ خصيتيه ويطؤهما حتى مات رحمه الله وذلك يوم الخميس لثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب وكانت خلافته أقل من سنة بخمسة أيام وكان مولده في سنة تسع عشرة وقيل خمس عشرة ومائتين وكان أسمر رقيقا أحنى حسن اللحية يكنى أبا عبدالله وصلى عليه جعفر بن عبدالواحد ودفن بمقبرة المنتصر بن المتوكل قال الخطيب وكان من أحسن الخلفاء مذهبا وأجودهم طريقة وأكثرهم ورعا وعبادة وزهادة قال وروى حديثا واحدا قال حدثني علي بن هشام بن طراح عن محمد بن الحسن الفقيه عن ابن أبي ليلى وهو داود بن علي عن أبيه عن ابن عباس قال قال العباس يا رسول الله ما لنا في هذا الأمر قال لي النبوة ولكم الخلافة بكم يفتح هذا الأمر وبكم يختم وقال للعباس من أحبك نالته شفاعتي ومن أبغضك لا نالته شفاعتي وروى الخطيب أن رجلا استعان المهتدي على خصمه فحكم بينهما بالعدل فأنشأ الرجل يقول
حكمتموه فقضى بينكم * أبلج مثل القمر الزاهر
لا يقبل الرشوة في حكمه * ولا يبالي غبن الخاسر
فقال له المهتدي أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك ولست أغتر بما قلت وأما أنا فإني ما جلست مجلسي هذا حتى قرأت ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين قال فبكى الناس حوله فما رؤي أكثر باكيا من ذلك اليوم وقال بعضهم سرد المهتدي الصوم من حين تولى إلى حين قتل رحمه الله وكان يحب الاقتداء بما سلكه عمر بن عبدالعزيز الأموي في خلافته من الورع والتقشف وكثرة العبادة وشدة الاحتياط ولو عاش ووجد ناصرا لسار سيرته ما أمكنه وكان من عزمه أن يبيد الأتراك الذين أهانوا الخلفاء وأذلوهم وانتهكوا منصب الخلافة وقال أحمد بن سعيد الأموي كنا جلوسا بمكة وعندي جماعة ونحن نبحث في النحو وأشعار العرب إذ وقف علينا رجل نظنه مجنونا فأنشأ يقول
أما تستحيون الله يا معدن النحو * شغلتم بذا والناس في أعظم الشغل
وإمامكم أضحى قتيلا مجندلا * وقد أصبح الاسلام مفترق الشمل
وأنتم على الأشعار والنحو عكفا * تصيحون بالأصوات في أحسن السبل
قال فنظر وأرخنا ذلك اليوم فإذا المهتدي بالله قد قتل في ذلك اليوم وهو يوم الإثنين لأربع عشرة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين