الخليفة المعتضد
 
هو أحمد بن الأمير أبي أحمد الموفق الملقب بناصر دين الله واسم أبي أحمد محمد وقيل طلحة بن جعفر المتوكل على الله بن المعتضم بن هارون الرشيد أبو العباس المعتضد بالله ولد في سنة ثنتين وقيل ثلاث وأربيعن ومائتين وأمه أم ولد وكان أسمر نحيف الجسم معتدل القامة قدو خطه الشيب في مقدم لحيته طول وفي رأسه شامة بيضاء بويع له بالخلافة صبيحة يوم الإثنين إحدى عشرة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين واستوزر عبدالله بن وهب بن سليمان وولى القضاء إسماعيل بن إسحاق ويوسف بن يعقوب وابن أبي الشوارب وكان أمر الخلافة قد ضعف في أيام عمه المعتمد فلما ولى المعتضد أقام شعارها ورفع منارها وكان شجاعا فاضلا من رجالات قريش حزما وجرأة وإقداما وحزمة وكذلك كان أبوه وقد أورد ابن الجوزي بإسناده أن المعتضد اجتاز في بعض أسفاره بقرية فيها مقثاة فوقف صاحبها صائحا مستصرخا بالخليفة فاستدعى به فسأله عن أمره فقال إن بعض الجيش أخذوا لي شيئا من القثاء وهم من غلمانك فقال أتعرفهم فقال نعم فعرضهم عليه فعرف منهم ثلاثة فأمر الخليفة بتقييدهم وحبسهم فلما كان الصباح نظر الناس ثلاثة أنفس مصلوبين على جادة الطريق فاستعظم الناس ذلك واستنكروا وعابوا ذلك على الخليفة وقالوا قتل ثلاثة بسبب قثاء أخذوه فلما كان بعد قليل أمر الخواص وهو مسامره أن ينكر عليه ذلك ويتلطف في مخاطبته في ذلك وألأمراء حضور فدخل عليه ليلة وقد عزم على ذلك ففهم الخليفة ما في نفسه من كلام يريد أن يبديه فقال له إني أعرف أن في نفسك كلاما فما هو فقال يا أمير المؤمنين وأنا آمن قال نعم قلت له فإن الناس ينكرون عليك تسرعك في سفك الدماء فقال والله ما سفكت دما حراما منذ وليت الخلافة إلا بحقه فقلت له فعلام قتلت أحمد بن الطيب وقد كان خادمك ولم يظهر له خيانة فقال ويحك إنه دعاني إلى الالحاد والكفر بالله فيما بيني وبينه فلما دعاني إلى ذلك قلت له يا هذا أنا ابن عم صاحب الشريعة وأنا منتصب في منصبه فأكفر حتى أكون من غير قبيلته فقتلته على الكفر والزندقة فقلت له فما بال الثلاثة الذين
قتلتهم على القثاء فقال والله ما كان هؤلاء الذين أخذوا القثاء وإنما كانوا لصوصا قد قتلوا وأخذوا المال فوجب قتلهم فبعثت فجئت بهم من السجن فقتلتهم وأريت الناس أنهم الذين أخذوا القثاء وأردت بذلك أن أرهب الجيش لئلا يفسدوا في الأرض ويتعدوا على الناس ويكفوا عن الأذى ثم أمر بإخراج أولئك الذين أخذوا القثاء فأطلقهم بعد ما استتابهم وخلع عليهم وردهم إلى أرزاقهم قال ابن الجوزي خرج المعتضد يوما فعسكر بباب الشماسية ونهى أن يأخذ أحد من بستان أحد شيئا فأتى بأسود قد أخذ عذقا من بسر فتأمله طويلا ثم أمر بضرب عنقه ثم إلتفت إلى الأمراء فقال العامة ينكرون هذا ويقولون إن رسول الله ص قال لا قطع في ثمر ولا كثر
ولم يكفه أن يقطع يده حتى قتله وإني لم أقتل هذا على سرقته وإنما هذا الأسود رجل من الزنج كان قد استأمن في حياة أبي وإنه تقاول هو ورجل من المسلمين فضرب المسلم فقطع يده فمات المسلم فأهدر أبي دم الرجل المقتول تأليفا للزنج فآليت على نفسي لئن أنا قدرت عليه لأقتلنه فما قدرت عليه إلا هذه الساعة فقتلته بذلك الرجل وقال أبو بكر الخطيب أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب حدثنا محمد بن نعيم الضبي سمعت أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول سمعت أبا العباس بن سريج يقول سمعت إسماعيل بن اسحاق القاضي يقول دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحداث روم صباح الوجوه فنظرت إليهم فرآني المعتضد وأنا أتأملهم فلما أردت القيام أشار إلي فجلست ساعة فلما خلا قال لي أيها القاضي والله ما حللت سراويلي على حرام قط وروى البيهقي عن الحاكم عن حسان بن محمد عن ابن سريج القاضي إسماعيل إبن إسحاق قال دخلت يوما على المعتضد فدفع إلي كتابا فقرأته فإذا فيه الرخص من زلل العماء قد جمعها له بعض الناس فقلت يا أمير المؤمنين إنما جمع هذا زنديق فقال كيف فقلت إن من أباح المتعة لم يبح الغناء ومن اباح الغناء لم يبح إضافته إلى آلات اللهو ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه فأمر بتحريق ذلك الكتاب وروى الخطيب بسنده عن صافي الجرمي الخادم قال انتهى المعتضد وأنا بين يديه إلى منزل شعث وابنه المقتدر جعفر جالس فيه وحوله نحو من عشرة من الوصائف والصبيان من أصحابه في سنه عنده وبين يديه طبق من فضة فيه عنقود عنب وكان العنب إذ ذاك عزيزا وهو يأكل عنبه واحدة ثم يفرق على أصحابه من الصبيان كل واحد عنبة فتركه المعتضد وجلس ناحية في بيت مهوما فقلت له ما لك يا أمير المؤمنين فقال ويحك والله لولا النار والعار لأقتلن هذا الغلام فإن في قتله صلاحا للأمة فقلت أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من ذلك فقال ويحك يا صافي هذا الغلام في غاية السخاء لما أراه يفعل مع الصبيان فإن طباع الصبيان تأبى الكرم وهذا في غاية الكرم وإن الناس من بعدي لا يولون عليهم إلا من
هو من ولدي فسيلي عليهم المكتفي ثم لا تطول أيامه لعلته التي به وهي داء الخنازير ثم يموت فيلي الناس جعفر هذا الغلام فيذهب جميع أموال بيت المال إلى الحظايا لشغفه بهن وقرب عهده من تشببه بهن فتضيع أمور المسلمين وتعطل الثغور وتكثر الفتن والهرج والخوارج والشرور قال صافي والله لقد شاهدت ما قاله سواء بسواء وروى ابن الجوزي عن بعض خدم المعتضد قال كان المعتضد يوما نائما وقت القائلة ونحن حول سريره فاستيقظ مذعورا ثم صرح بنا فجئنا إليه فقال ويحكم اذهبوا إلى دجلة فأول سفينة تجدوها فارغة منحدرة فأتوني بملاحها واحتفظوا بالسفينة فذهبنا سراعا فوجدنا ملاحا في سميرية فاغرة منحدرا فأتينا به الخليفة فلما رأى الملاح الخليفة كاد أن يتلف فصاح به الخليفة صيحة عظيمة فكادت روح الملاح تخرج فقال له الخليفة ويحك يا ملعون اصدقني عن قصتك مع المرأة التي قتلتها اليوم والا ضربت عنقك قال فتلعثم ثم قال نعم يا أمير المؤمنين كنت اليوم سحرا في مشرعتي الفلانية فنزلت امرأة لم أر مثلها وعليها ثياب فاخرة وحلي كثيرة وجوهر فطمعت فيها واحتلت عليها فشددت فاها وغرقتها وأخذت جميع ما كان عليها من الحلي والقماش وخشيت أن أرجع به إلى منزلي فيشتهر خبرها فأردت الذهاب به إلى واسط فلقيني هؤلاء الخدم فأخذوني فقال وأين حليها فقال في صدر السفينة تحت البواري فأمر الخليفة عند ذلك بإحضار الحلي قجيء به فإذا هو حلي كثير يساوي أموالا كثيرة فأمر الخليفة بتغريق الملاح في المكان الذي غرق فيه المرأة وأمر أن ينادى على أهل المرأة ليحضروا حتى يتسلموا مال المرأة فنادى بذلك ثلاثة أيام في أسواق بغداد وأزقتها فحضروا بعد ثلاثة أيام فدفع إليهم ما كان من الحلي وغيره مما كان للمرأة ولم يذهب منه شيء فقال له خدمه يا أمير المؤمنين من أين علمت هذا قال رأيت في نومي تلك الساعة شيخا أبيض الرأس واللحية والثياب وهو ينادي يا أحمد يا أحمد خذ أول ملاح ينحدر الساعة فاقبض عليه وقرره عن خبر المرأة التي قتلها اليوم وسلبها قأقم عليه الحد وكان ما شاهدتم وقال جعيف السمرقندي الحاجب كنت مع مولاي المعتضد في بعض متصيداته وقد انقطع عن العسكر وليس معه غيري إذ خرج علينا أسد فقصد قصدنا فقال لي المعتضد يا جعيف أفيك خير اليوم قلت لا والله قال ولا أن تمسك فرسي وأنزل أنا فقلت بلى قال فنزل عن فرسه وغرز أطراف ثيابه في منطقته واستل سيفه ورمى بقرابه إلي ثم تقدم إلى الأسد فوثب الأسد عليه فضربه بالسيف فأطار يده فاشتغل الأسد بيده فضربه ثانية على هامته ففلقها فخر الأسد صريعا فدنا منه فمسح سيفه في صوفه ثم أقبل إلى إلي فأغمد سيفه في قرابه ثم ركب فرسه فذهبنا إلى العسكر قال وصحبته إلى أن مات فما سمعته ذكر ذلك لأحد فما أدري من أي شيء أعجب من
من شجاعته أم من عدم احتفاله بذلك حيث لم يذكره لأحد أم من عدم عتبه علي حيث ضننت بنفسي عنه والله ما عاتبني في ذلك قط وروى ابن عساكر عن أبي الحسين النوري أنه اجتاز بزورق فيه خمر مع ملاح فقال ما هذا ولمن هذا فقال له هذه خمر للمعتضد فصعد أبو الحسين إليها فجعل يضرب الدنان بعمود في يده حتى كسرها كلها إلا دنا واحدا تركه واستغاث الملاح فجاءت الشرطة فأخذوا أبا الحسين فأوقفوه بين يدي المعتضد فقال له ما أنت فقال أنا المحتسب فقال ومن ولاك الحسبة فقال الذي ولاك الخلافة يا أمير المؤمنين فأطرق رأسه ثم رفعها فقال ما الذي حملك على ما فعلت فقال شفقة عليك لدفع الضرر عنك فأطرق رأسه ثم رفعه فقال ولأي شيء تركت منها دنا واحدا لم تكسره فقال لأني إنما أقدمت عليها فكسرتها إجلالا لله تعالى فلم أبال أحدا حتى انتهيت إلى هذا الدن دخل نفسي إعجاب من قبيل أني قد أقدمت على مثلك فتركته فقال له المعتضد اذهب فقد أطلقت يدك فغير ما أحببت أن تغيره من المنكر فقال له النوري الآن انتقض عزمي عن التغيير فقال ولم فقال لأني كنت أغير عن الله وأنا الآن أغير عن شرطي فقال سل حاجتك فقال أحب أن تخرجني من بين يديك سالما فأمر فأخرج فصار إلى البصرة فأقام بها مختفيا خشية أن يشق عليه أحد في حاجة عند المعتضد فلما توفي المعتضد رجع إلى بغداد وذكر القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي عن شيخ من التجار قال كان لي على بعض الأمراء مال كثير فماطلني ومنعني حقي وجعل كلما جئت أطالبه حجبني عنه ويأمر غلمانه يؤذونني فاشتكيت عليه إلى الوزير فلم بفد ذلك شيئا وإلى أولياء الأمر من الدولة فلم يقطعوا منه شيئا وما زاده ذلك إلا منعا وجحودا فأيست من المال الذي عليه ودخلني هم من جهته فبينما أنا كذلك وأنا حائر إلى من أشتكي إذ قال لي رجل ألا تأتي فلانا الخياط إمام مسجد هناك فقلت وما عسى أن يصنع خياط مع هذا الظالم وأعيان الدولة لم يقطعوا فيه فقال لي هو أقطع وأخوف عنده من جميع من اشتكيت إليه فاذهب إليه لعلك أن تجد عنده فرجا قال فقصدته غير محتفل في أمره فذكرت له حاجتي ومالي وما لقيت من هذا الظالم فقام معي فحين عاينه الأمير قام إليه وأكرمه واحترمه وبادر إلى قضاء حقي الذي عليه فأعطانيه كاملا من غير أن يكون منه إلى الأمير كبير أمر غير أنه قال له ادفع إلى هذا الرجل حقه وإلا أذنت فتغير لون الأمير ودفع إلى حقي قال التاجر فعجبت من ذلك الخياط مع رثاثة حاله وضعف بنيته كيف أنطاع ذلك الأمير له ثم إني عرضت عليه شيئا من المال فلم يقبل مني شيئا وقال لو أردت هذا لكان لي من الأموال ما لا
يحصى فسألته عن خبره وذكرت له تعجبي منه وألححت عليه فقال إن سبب ذلك أنه كان عندنا في جوارنا أمير تركي من أعالي الدولة وهو شاب حسن فمر به ذات يوم امرأة حسناء قد خرجت من الحمام وعليها ثياب مرتفة ذات قيمة فقام إليها وهو سكران فتعلق بها يريدها على نفسها ليدخلها منزله وهي تأبى عليه وتصيح بأعلى صوتها يا مسلمين أنا امرأة ذات زوج وهذا الرجل يريدني على نفسي ويدخلني منزله وقد حلف زوجي بالطلاق أن لا أبيت في غير منزله ومتى بت ها هنا طلقت منه ولحقني بسبب ذلك عار لا تدحضه الأيام ولا تغسله المدامع قال الخياط فقمت إليه فأنكرت عليه وأردت خلاص المرأة من يديه فضربني بدبوس في يده فشج رأسي وغلب المرأة على فسها وأدخلها منزله قهرا فرجعت أنا فغسلت الدم عنى وعصبت رأسي وصليت بالناس العشاء ثم قلت للجماعة إن هذا قد فعل ما قد علمتم فقوموا معي إليه لننكر عليه ونخلص المرأة منه فقام الناس معي فهجمنا عليه داره فثار إلينا في جماعة من غلمانه بأيديهم العصي والدبابيس يضربون الناس وقصدني هو من بينهم فضربني ضربا شديدا مبرحا حتى أدماني وأخرجنا من منزله ونحن في غاية الإهانة فرجعت إلى منزلي وأنا لا أهتدي إلى الطريق من شدة الوجع وكثرة الدماء فنمت على فراشي فلم يأخذني نوم وتحيرت ماذا أصنع حتى أنقذ المرأة من يده في الليل لترجع فتبيت في منزلها حتى لا يقع على زوجها الطلاق فألهمت أن أؤذن الصبح في أثناء الليل لكي يظن أن الصبح قد طلع فيخرجها من منزله فتذهب إلى منزل زوجها فصعدت المنارة وجعلت أنظر إلى باب داره وأنا أتكلم على عادتي قبل الأذان هل أرى المرأة قد خرجت ثم أذنت فلم تخرج ثم صممت على أنه إن لم تخرج أقمت الصلاة حتى يتحقق الصباح فبينا أنا أنظر هل تخرج المرأة أم لا إذ امتلأت الطريق فرسانا ورجالة وهم يقولون أين الذي أذن هذه الساعة فقلت ها أنا ذا وأنا أريد أن يعينوني عليه فقال انزل فنزلت فقال أجب أمير المؤمنين فأخذوني وذهبوا بي لا أملك من نفسي شيئا حتى أدخلوني عليه فلما رأيته جالسا في مقام الخلافة ارتعدت من الخوف وفزعت فزعا شديدا فقال ادن فدنوت فقال لي ليسكن روعك وليهدأ قلبك وما زال يلاطفني حتى اطمأننت وذهب خوفي فقال أنت الذي أذنت هذه الساعة قلت نعم يا أمير المؤمنين فقال ما حملك علىأن أذنت هذه الساعة وقد بقي من الليل أكثر مما مضى منه فتغر بذلك الصائم والمسافر والمصلي وغيرهم فقلت يؤمنني أمير المؤمنين حتى أقص عليه خبري فقال أنت آمن فذكرت له القصة قال فغضب غضبا شديدا وأمر بإحضار ذلك الأمير والمراة من ساعته على أي حالة كانا فأحضرا سريعا فبعث بالمراة إلى زوجها مع نسوة من جهته ثقات ومعهن ثقة من جهته أيضا وأمره أن يأمر زوجها بالعفو والصفح عنها والإحسان إليها فإنها مكرهة ومعذورة ثم أقبل على ذلك الشاب
الأمير فقال له كم لك من الرزق وكم عندك من المال وكم عندك من الجوار والزوجات فذكر له شيئا كثيرا فقال له ويحك أما كفاك ما أنعم الله به عليك حتى انتهكت حرمة الله وتعديت حدوده وتجرأت على السلطان وما كفاك ذلك أيضا حتى عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر فضربته وأهنته وأدميته فلم يكن له جواب فأمر به فجعل في رجله قيد وفي عنقه غل ثم أمر به فأدخل في جوالق ثم أمر به فضرب بالدبابيس ضربا شديدا حتى خفت ثم أمر به فألقي في دجلة فكان ذلك آخر العهد به ثم أمر بدرا صاحب الشرطة أن يحتاط على ما في داره من الحواصل والأموال التي كان يتناولها من بيت المال ثم قال لذلك الرجل الصالح الخياط كلما رأيت منكرا صغيرا كان أو كبيرا ولو على هذا وأشار إلى صاحب الشرطة فأعلمني فإن اتفق اجتماعك بي وإلا فعلى ما بيني وبينك الأذان فأذن في أي وقت كان أو في مثل وقتك هذا قال فلهذا لا آمر أحدا من هؤلاء الدولة بشيء إلا امتثلوه ولا أنهاهم عن شيء إلا تركوه خوفا من المعتضد وما احتجت أن أؤذن في مثل تلك الساعة إلى الآن وذكر الوزير عبيد الله بن سليمان بن وهب قال كنت يوما عند المعتضد وخادم واقف على رأسه يذب عنه بمدبة في يده إذ حركها فجاءت في قلنسوة الخليفة فسقطت عن رأسه فأعظمت أنا ذلك جدا وخفت من هول ما وقع ولم يكترث الخليفة لذلك بل أخذ قلنسوته فوضعها على رأسه ثم قال لبعض الخدم مر هذا البائس ليذهب لراحته فإنه قد نعس وزيدوا في عدة من يذب بالنوبة قال الوزير فأخذنا في الثناء على الخليفة والشكر له على حلمه فقال إن هذا البائس لم يتعمد ما وقع منه وإنما نعس وليس العتاب والمعاتبة إلا على المتعمد لا على المخطئ والساهي وقال جعيف السمرقندي الحاجب لما جاء الخبر إلى المعتضد بموت وزيره عبيدالله بن سليمان خر ساجدا طويلا فقيل له يا أمير المؤمنين لقد كان عبيد الله يخدمك وينصح لك فقال إنما سجدت شكرا لله أني لم أعزله ولم أوذه وقد كان ابن سليمان حازم الرأي قويا وأراد أن يولي مكانه أحمد بن محمد بن الفرات فعدل به بدر صاحب الشرطة عنه وأشار عليه بالقاسم بن عبيدالله فسفه رأيه فألح عليه فولاه وبعث إليه يعزيه في أبيه ويهنيه بالوزارة فما لبث القاسم بن عبيدالله حتى ولي المكتفي الخلافة من بعد أبيه المعتضد وحتى قتل بدرا وكان المعتضد ينظر إلى ما بينهما من العداوة من وراء ستر رقيق وهذه فراسة عظيمة وتوسم قوي ورفع يوما إلى المعتضد قوما يجتمعون على المعصية فاستشار وزيره في أمرهم فقال ينبغي أن يصلب بعضهم ويحرق بعضهم فقال ويحك لقد بردت لهب غضبي عليهم بقسوتك أما علمت أن الرعية وديعة الله عند سلطانها وأنه سائله عنها ولم يقابلهم بما قال الوزير ولهذه النية لما ولى الخلافة كان بيت المال صفرا من المال وكانت الأحوال فاسدة والعرب تعيث في الأرض
فسادا في كل جهة فلم يزل برأيه وتسديده حتى كثرت الأموال وصلحت الأحوال في سائر الأقاليم والآفاق ومن شعره في جارية له توفيت فوجد عليها
يا حبيبا لم يكن يع * دله عندي حبيب
أنت عن عيني بعيد * ومن القلب قريب
ليس لي بعدك في شي * ء من اللهو نصيب
لك من قلبي علي قلبي * وإن غبت رقيب
وحياتي منك مذغب * ت حياة لا تطيب
لو تراني كيف لي بع * دك عول ونحيب
وفؤادي حشوه من * حرق الحزن لهيب
ما أرى نفسي وإن طي * بتها عنك تطيب
ليس دمع لي يعصي * ني وصبري ما يجيب
وقال فيها * لم أبك للدار ولكن لمن
قد كان فيها مرة ساكنا
فخانني الدهر بفقدانه * وكنت من قبل له آمنا
ودعت صبري عنه تودعه * وبان قلبي معه ظاعنا
وكتب إليه ابن المعتز يعزيه ويسليه عن مصيبته فيها
يا إمام الهدى حياتك طالت
فيها وقع تسلم آمد من ابن الشيخ في ربيع الآخر ووصل كتاب هارون بن أحمد بن طولون من مصر إلى المعتضد وهو مخيم بآمد أن يسلم إليه قنسرين والعواصم على أن يقره على إمارة الديار المصرية فأجابه إلى ذلك ثم ترحل عن آمد قاصدا العراق وأمر بهدم سور آمد فهدم البعض ولم يقدر على ذلك فقال ابن المعتز يهنئه بفتح آمد
وعشت أنت سليما
أنت علمتنا على النعم الشك * ر وعند المصائب التسليما
فتسللا عن ما مضى وكأن التي كانت سرورا صارت ثوابا عظيما
قد رضينا بأن نموت وتحيى * إن عندي في ذاك حظا جسيما
من يمت طائعا لمولاه فقد * أعطى فوزا ومات موتا كريما
وقد رثى أبو العباس عبدالله بن المعتز العباسي بن عمر المعتضد بمرثاة حسنة يقول فيها
يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا * وأنت والد سوء تأكل الولدا
أستغفر الله بل ذا كله قدر * رضيت بالله ربا واحدا صمدا
يا ساكن القبر في غيراء مظلة * بالظاهرية مقصى الدار منفردا
أين الجيوش التي قد كنت تشحنها * أين الكنوز التي لم تحصها عددا
أين السرير الذي قد كنت تملؤه * مهابة من رأته عينه ارتعدا
أين القصور شيدتها فعلت * ولاح فيها سنا الابريز فانقدا
قد أتعبوا كل مرقال مذكرة * وجناء تنثر من أشداقها الزبدا
أين الأعادي الألي ذللت صعبهم * أين الليوث التي صيرتها نقدا
أين الوفود على الأبواب عاكفة * ورد القطا صفر ما جال واطردا
أين الرجال قياما في مراتبهم * من راح منهم ولم يطمر فقد سعدا
أين الجياد التي حجلتها بدم * وكن يحملن منك الضيغم الأسدا
أين الرماح التي غذيتها مهجا * مذ مت ما وردت قلبا ولا كبدا
أين السيوف وأين النبل مرسلة * يصبن من شئت من قرب وإن بعدا
أين المجانيق أمثال السيول إذا * رمين حائط حصن قائم قعدا
أين الفعال التي قد كنت تبدعها * ولا ترى أن عفوا نافعا أبدا
أين الجنان التي تجري جداولها * ويستجيب إليها الطائر الغردا
أين الملاهي وأين الراح تحسبها * ياقوتة كسيت من فضة زردا
أين الوثوب إلى الأعداء مبتغيا * صلاح ملك بني العباس إذ فسدا
ما زلت تقسر منهم كل قسورة * وتحطم العاتي الجبار معتمدا
ثم انقضيت فلا عين ولا أثر * حتى كأنك يوما لم تكن أحدا
لا شيء يبقى سوى خير تقدمه * ما دام ملك لأنسان ولا خلدا
ذكرها ابن عساكر في تاريخه واجتمع ليلة عند المعتضد ندماؤه فلما انقضى السمر وصار إلى حظاياه ونام القوم السمار نبههم من نومهم خادم وقال يقول لكم أمير المؤمنين إنه أصابه أرق بعدكم وقد عمل بيتا أعياه ثانيه فمن عمل ثانيه فله جائزة وهو هذا البيت
ولما انتبهنا للخبال الذي سرى * إذا الدار قفر والمزار بعيد
قال فجلس القوم من فرشهم يفكرون في ثانيه فبدر واحد منهم فقال
فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي * لعل خيالا طارقا سيعود
قال فلما رجع الخادم به إلى المعتضد وقع منه موقعا جيدا وأمر له بجائزة سنية واستعظم المعتضد يوما من بعض الشعراء قول الحسن بن منير المازني البصري
لهفي على من أطار النوم فامتنعا * وزاد قلبي على أوجاعه وجعا
كأنما الشمس من أعطافه طلعت * حسنا أو البدر من أردانه لمعا
في وجه شافع يمحوو إساءته * من القلوب وجيها أين ما شفعا
ولما كان في ربيع الأول من هذه السنة اشتد وجع المعتضد فاجتمع رؤس الأمراء مثل يونس الخادم وغيره إلى الوزير القاسم بن عبيدالله فأشاروا بأن يجتمع الناس لتجديد البيعة للمكتفي بالله علي بن المعتضد بالله ففعل ذلك وتأكدت البيعة وكان في ذلك خير كثير وحين حضرت المعتضد الوفاة أنشد لنفسه
تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى * وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا
ولا تأمنن الدهر إني ائتمنته * فلم يبق لي حالا ولم يرع لي حقا
قتلت صناديد الرجال فلم أدع * عدوا ولم أمهل على خلق خلقا
وأخليت دار الملك من كل نازع * فشردتهم غربا ومزقتهم شرقا
فلما بلغت النجم عزا ورفعة * وصارت رقاب الخلق لي أجمع رقا
رماني الردى سهما فأخمد جمرتي * فها أنا ذا في جفرتي عاجلا ألقى
ولم يغن عني ما جمعت ولم أجدد * لدى ملك إلا حباني حبها رفقا
وأفسدت دنياي وديني سفاهة * فمن ذا الذي مثلي بمصرعه أشقا
فياليت شعري بعد موتي هل أصر * إلى رحمة الله أم في ناره ألقى
وكانت وفاته ليلة الإثنين لثمان بقين من ربيع الأول من هذه السنة ولم يبلغ الخمسين وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوما وخلف من الأولاد الذكور عليا المكتفي وجعفر المقتدر وهارون ومن البنات إحدى عشرة بنتا ويقال سبع عشرة بنتا وترك في بيت المال سبعة عشر ألف ألف دينار وكان يمسك عن صرف الأموال في غير وجهها فلهذا كان بعض الناس يبخله ومن الناس من يجعله من الخلفاء الراشدين المذكورين في الحديث حديث جابر بن سمرة فالله أعلم