صفة مقتل الحلاج
 
قال الخطيب البغدادي وغيره كان الحلاج قد قدم آخر قدمة إلى بغداد فصحب الصوفية وانتسب إليهم وكان الوزير إذ ذاك حامد بن العباس فبلغه أن الحلاج قد أضل خلقا من الحشم والحجاب في دار السلطان ومن غلمان نصر القشوري الحاجب وجعل لهم في جملة ما ادعاه أنه يحيي الموتى وأن الجن يخدمونه ويحضرون له ما شاء ويختار ويشتهيه وقال إنه أحيا عدة من الطير وذكر لعلي بن عيسى أن رجلا يقال له محمد بن علي القنائي الكاتب يعبد الحلاج ويدعو الناس إلى
طاعته فطلبه فكبس منزله فأخذه فأقر أنه من أصحاب الحلاج ووجد في منزله أشياء بخط الحلاج مكتوبة بماء الذهب في ورق الحرير مجلدة بأفخر الجلود ووجد عنده سفطا فيه من رجيع الحلاج وعذرته وبوله وأشياء من آثاره وبقية خبز من زاده فطلب الوزير من المقتدر أن يتكلم في أمر الحلاج ففوض أمره إليه فاستدعى بجماعة من أصحاب الحلاج فتهددهم فاعترفوا له أنه قد صح عندهم أنه إله مع الله وأنه يحيي الموتى أنهم كاشفوا الحلاج بذلك ورموه به في وجهه فجحد ذلك وكذبهم وقال أعوذ بالله أن أدعى الربوبية أو النبوة وإنما أنا رجل أعبد الله وأكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير لا أعرف غير ذلك وجعل لا يزيد على الشهادتين والتوحيد ويكثر أن يقول سبحانك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وكانت عليه مدرعة سوداء وفي رجليه ثلاثة عشر قيدا والمدرعة وأصلة إلى ركبتيه والقيود وأصلة إلى ركبتيه أيضا وكان مع ذلك يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة وكان قبل احتياط الوزير حامد بن العباس عليه في حجرة من دار نصر القشوري الحاجب مأذونا لمن يدخل إليه وكان يسمي نفسه تارة بالحسين بن منصور وتارة محمد بن أحمد الفارسي وكان نصر الحاجب هذا قد افتتن به وظن أنه رجل صالح وكان قد أدخله على المقتدر بالله فرقاه من وجع حصل فاتفق زواله عنه وكذلك وقع لوالدة المقتدر السيدة رقاها فزالت عنها فنفق سوقه وحظي في دار السلطان فلما انتشر الكلام فيه سلم إلى الوزير حامد بن العباس فحبسه في قيود كثيرة في رجليه وجمع له الفقهاء فأجمعوا على كفره وزندقته وأنه ساحر ممخرق ورجع عنه رجلان صالحان ممن كان اتبعه أحدهما أبو علي هارون بن عبدالعزيز الأوارجي وألاخر يقال له الدباس فذكرا من فضائحه وما كان يدعو الناس إليه من الكذب والفجور والمخرفة والسحر شيئا كثيرا وكذلك أحضرت زوجة ابنه سليمان فذكرت عنه فضائح كثيرة من ذلك أنه أراد أن يغشاها وهي نائمة فانتبهت فقال قومي إلى الصلاة وإنما كان يريد أن يطأها وأمر ابنتها بالسجود له فقالت أو يسجد بشر لبشر فقال نعم إله في السماء وإله في الأرض ثم أمرها أن تأخذ من تحت بارية هنالك ما أرادت فوجدت تحنها دنانير كثيرة مبدورة ولما كان معتقلا في دار حامد بن العباس الوزير دخل عليه بعض الغلمان ومعه طبق فيه طعام ليأكل منه فوجده قد ملأ البيت من سقفه إلى أرضه فذعر ذلك الغلام وفزع فزعا شديدا وألقى ما كان في يده من ذلك الطبق والطعام ورجع محموما فمرض عدة أيام ولما كان آخر مجلس من مجالسه أحضر القاضي أبو عمر محمد بن يوسف وجيء بالحلاج وقد أحضر له كتاب من دور بعض أصحابه وفيه من أراد الحج ولم يتيسر له فليبن في داره بيتا لا يناله شيء من
من النجاسة ولا يمكن أحدا من دخوله فإذا كان في أيام الحج فليصم ثلاثة أيام وليطف به كما يطاف بالكعبة ثم يفعل في داره ما يفعله الحجيج بمكة ثم يستدعي بثلاثين يتيما فيطعمهم من طعامه ويتولى خدمتهم بنفسه ثم يكسوهم قميصا قميصا ويعطي كل واحد منهم سبعة دراهم أو قال ثلاثة دراهم فإذا فعل ذلك قام له مقام الحج وإن من صام ثلاثة أيام لا يفطر إلا في اليوم الرابع على ورقات هندبا أجزأه ذلك عن صيام رمضان ومن صلى في ليلة ركعتين من أول الليل إلى آخره أجزأه ذلك عن الصلاة بعد ذلك وأن من جاور بمقابر الشهداء وبمقابر قريش عشرة أيام يصلي ويدعو ويصوم ثم لا يفطر إلا على شيء من خبز الشعير والملح الجريش أغناه ذلك عن العبادة في بقية عمره فقال له القاضي أبو عمر من أين لك هذا فقال من كتاب الاخلاص للحسن البصري فقال له كذبت يا حلال الدم قد سمعنا كتاب الاخلاص للحسن بمكة ليس فيه شيء من هذا فأقبل الوزير على القاضي فقال له قد قلت يا حلال الدم فاكتب ذلك في هذه الورقة وألح عليه وقدم له الدواة فكتب ذلك في تلك الورقة وكتب من حضر خطوطهم فيها وأنفذها الوزير إلى المقتدر وجعل الحلاج يقول لهم ظهرى حمى ودمي حرام وما يحل لكم أن تتأولوا على ما يبيحه واعتقادي الإسلام ومذهبي السنة وتفضيل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبدالرحمن ابن عوف وأبي عبيدة بن الجراح ولي كتب في السنة موجودة في الوارقين فالله الله في دمي فلا يلتفتون إليه ولا إلى شيء مما يقول وجعل يكرر ذلك وهم يكتبون خطوطهم بما كان من الأمر ورد الحلاج إلى محبسه وتأخر جواب المقتدر ثلاثة أيام حتى ساء ظن الوزير حامد بن العباس فكتب إلى الخليفة يقول له إن أمر الحلاج قد اشتهر ولم يختلف فيه اثنان وقد افتتن كثير من الناس به فجاء الجواب بأن يسلم إلى محمد بن عبدالصمد صاحب الشرطة وليضربه ألف سوط فإن مات والا ضربت عنقه ففرح الوزير بذلك وطلب صاحب الشرطة فسلمه إليه وبعث معه طائفة من غلمانه يصلونه معه إلى محل الشرطة من الجانب الغربي خوفا من أن يستنقذ من أيديهم وذلك بعد عشاء الآخرة في ليلة الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة من هذه السنة وهو راكب على بغل عليه إكاف وحوله جماعة من أعوان السياسة على مثل شكله فاستقر منزله بدار الشرطة في هذه الليلة فذكر أنه بات يصلي تلك الليلة ويدعو دعاء كثيرا قال أبو عبدالرحمن السلمي سمعت أبا بكر الشاشي يقول قال أبو الحديد يعني المصري لما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها الحلاج قام يصلي من الليل فصلى ما شاء الله فلما كان آخر الليل قام قائما فتغطى بكسائه ومد يده نحو القبلة فتكلم بكلام جائز الحفظ فكان مما حفظت منه قوله نحن شواهدك فلو دلتنا عزتك لتبدى ما شئت من شأنك
ومشيئتك وأنت الذي في السماء إله وفي الأرض إله تتجلى لما تشاء مثل تجليك في مشيئتك كأحسن الصورة والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة ثم إني أوعزت إلى شاهدك لأني في ذاتك الهوى كيف أنت إذا مثلت بذاتي عند حلول لذاتي ودعوت إلى ذاتي بذاتي وأبديت حقائقي علومي ومعجزاتي صاعدا في معارجي إلى عروش أزلياتي عند التولي عن برياتي إني احتضرت وقتلت وصلبت وأحرقت واحتملت سافيات الذاريات ولججت في الجاريات وأن ذرة من ينجوج مكان هالوك متجلياتي لأعظم من الراسيات ثم أنشأ يقول
أنعى إليك نفوسا طاح شاهدها * فيما ورا الحيث بل في شاهد القدم
أنعى إليك قلوبا طالما هطلت * سحائب الوحى فيها أبحر الحكم
أنعى إليك لسان الحق منك ومن * أودى وتذكاره في الوهم كالعدم
أنعى اليك بيانا يستكين له * أقوال كل فصيح مقول فهم
أنعى إليك إشارات العقول معا * لم يبق منهن إلا دارس العلم
أنعى وحبك أخلاقا لطائفة * كانت مطاياهم من مكمد الكظم
مضى الجميع فلا عين ولا أثر * مضى عاد وفقدان الأولى إرم
وخلفوا معشرا يحذون لبستهم * أعمى من البهم بل أعمى من النعم
قالوا ولما أخرج الحلاج من المنزل الذي بات فيه ليذهب به إلى القتل أنشد
طلبت المستقر بكل أرض * فلم أر لي بأرض مستقرا
وذقت من الزمان وذاق مني * وجدت مذاقه حلوا ومرا
أطعت مطامعي فاستعبدتني * ولو أني قنعت لعشت حرا
وقيل إنه قالها حين قدم إلى الجذع ليصلب والمشهور الأول فلما أخرجوه للصلب مشى إليه وهو يتبختر في مشيته وفي رجليه ثلاثة عشر قيدا وجعل ينشد ويتمايل
نديمي غير منسوب * إلى شيء من الحيف
سقاني مثل ما يشر * ب قعل الضيف الضيف
فلما دارت الكأس * دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الراح * مع التنين في الصيف
ثم قال يستعجل بها الذي لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ثم لم ينطق بعد ذلك حتى فعل به ما فعل قالوا ثم قدم فضرب ألف سوط ثم قطعت يداه ورجلاه وهو في ذلك كله ساكت ما نطق بكلمة ولم يتغير لونه ويقال إنه جعل يقول مع كل سوط أحد أحد قال أبو عبدالرحمن سمعت عبدالله بن علي يقول سمعت عيسى القصار يقول آخر كلمة تكلم بها الحلاج حين قتل أن قال حسب الواحد إفراد الواحد له فما سمع بهذه الكلمة أحد من المشايخ إلا
رق له واستحسن هذا الكلام منه وقال السلمي سمعت أبا بكر المحاملي يقول سمعت أبا الفاتك البغدادي وكان صاحب الحلاج قال رأيت في النوم بعد ثلاث من قتل الحلاج كأني واقف بين يدي ربي عز وجل وأنا أقول يا رب ما فعل الحسين بن منصور فقال كاشفته بمعنى فدعا الخلق إلى نفسه فأنزلت به ما رأيت ومنهم من قال بل جزع عند القتل جزعا شديدا وبكى بكاء كثيرا فالله أعلم وقال الخطيب ثنا عبدالله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال قال لنا أبو عمر بن حيوية لما أخرج الحسين بن منصور الحلاج ليقتل مضيت في جملة الناس ولم أزل أزاحم حتى رأيته فدنوت منه فقال لأصحابه لا يهولنكم هذا الأمر فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوما ثم قتل فما عاد وذكر الخطيب أنه قال وهو يضرب لمحمد بن عبدالصمد وإلى الشرطة أدع بي إليك فإن عندي نصيحة تعدل فتح القسطنطينية فقال له قد قيل لي إنك ستقول مثل هذا وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل ثم قطعت يداه ورجلاه وحز رأسه وأحرقت جثته وألقى رمادها في دجلة ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر ثم حمل إلى خراسان وطيف به في تلك النواحي وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه إليهم بعد ثلاثين يوما وزعم بعضهم أنه رأى الحلاج من آخر ذلك اليوم وهو راكب على حمار في طريق النهروان فقال لعلك من هؤلاء النفر الذين ظنوا أني أنا هو المضروب المقتول إني لست به وإنما ألقي شبهي على رجل ففعل به ما رأيتم وكانوا بجهلهم يقولون إنما قتل عدو من أعداء الحلاج فذكر هذا لبعض علماء ذلك الزمان فقال إن كان هذا الرأي صادقا فقد تبدى له شيطان على صورة الحلاج ليضل الناس به كما ضلت فرقة النصارى بالمصلوب قال الخطيب واتفق له أن دجلة زادت في هذا العام زيادة كثيرة فقال إنما زادت لأن رماد جثة الحلاج خالطها وللعوام في مثل هذا وأشباهه ضروب من الهذيانات قديما وحديثا ونودي ببغداد أن لا تشتري كتب الحلاج ولا تباع وكان قتله يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة من سنة تسع وثلثمائة ببغداد وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات وحكى اختلاف الناس فيه ونقل عن الغزالي أنه ذكره في مشكاة الأنوار وتأول كلامه وحمله على ما يليق ثم نقل ابن خلكان عن إمام الحرمين أنه كان يذمه ويقول إنه اتفق هو والجنابي وابن المقفع على إفساد عقائد الناس وتفرقوا في البلاد فكان الجنابي في هجر والبحرين وابن المقفع ببلاد الترك ودخل الحلاج العراق فحكم صاحباه عليه بالهلكة لعدم انخداع أهل العراق بالباطل قال ابن خلكان وهذا لا ينتظم فإن ابن المقفع كان قبل الحلاج بدهر في أيام السفاح والمنصور ومات سنة خمسين وأربعين ومائتين أو قبلها ولعل إمام الحرمين أراد ابن المقفع الخراساني الذي ادعى الربوبية وأوتي العمر واسمه عطاء وقد قتل
نفسه بالسم في سنة ثلاث وستين ومائتين ولا يمكن اجتماعه مع الحلاج أيضا وإن أردنا تصحيح كلام إمام الحرمين فنذكر ثلاثة قد اجتمعوا في وقت واحد على إضلال الناس وإفساد العقائد كما ذكر فيكون المراد بذلك الحلاج وهو الحسين بن منصور الذي ذكره وابن السمعاني يعني أبا جعفر محمد ابن علي وأبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي القرمطي الذي قتل الحجاج وأخذ الحجر الأسود وطم زمزم ونهب أستار الكعبة فهؤلاء يمكن اجتماعهم في وقت واحد كما ذكرنا ذلك مبسوطا وذكره ابن خلكان ملخصا وفيها توفي من الأعيان