الملك الكبير العادل
 
محمود بن سبكتكين أبو القاسم الملقب يمين الدولة وأمين الملة وصاحب بلاد غزنة وما والاها وجيشه يقال لهم السامانية لأن أباه كان قد تملك عليهم وتوفي سنة سبع وثلاثين وثلثمائة فتملك عليهم بعده ولده محمود هذا فسار فيهم وفي سائر رعاياه سيرة عادلة وقام في نصر الإسلام قياما تاما وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها وعظم شأنه واتسعت مملكته وامتدت رعاياه وطالت أيامه لعدله وجهاده وما أعطاه الله إياه وكان يخطب في سائر ممالكه للخليفة القادر بالله وكانت رسل الفاطميين من مصر تفد إليه بالكتب والهدايا لأجل أن يكون من جهتهم فيحرق بهم ويحرق كتبهم وهداياهم وفتح في بلاد الكفار من الهند فتوحات هائلة لم يتفق لغيره من الملوك لا قبله ولا بعده وغنم مغانم كثيرة منهم لا تنحصر ولا تنضبط من الذهب واللآلئ والسبي وكسر من أصنامهم شيئا كثيرا وأخذ من حليتها وقد تقدم ذلك مفصلا متفرقا في السنين المتقدمة من أيامه ومن جملة ما كسر من أصنامهم ضم يقال له سومنان بلغ ما تحصل من حليته من الذهب عشرين ألف ألف دينار وكسر ملك الهند الأكبر الذي يقال له صينال وقهر ملك الترك الأعظم الذي يقال له إيلك الخان وأباد ملك السامانية وقد ملكوا العالم في بلاد سمر قند وما حولها ثم هلكوا وبنى على جيحون جسرا تعجز الملوك والخلفاء عنه غرم عليه الفي ألف دينار وهذا شيء لم يتفق لغيره وكان في جيشه أربعمائة فيل تقاتل وهذا شيء عظيم هائل وجرت له فصول يطول تفصيلها وكان مع هذا في غاية الديانة والصيانة وكراهة المعاصي وأهلها لا يحب منها شيئا ولا يألفه ولا أن يسمع بها ولا يجسر أحدا أن يظهر معصية ولا خمرا في مملكته ولا غير ذلك ولا يحب الملاهي ولا أهلها وكان يحب العلماء والمحدثين ويكرمهم ويجالسهم ويحب أهل الخير والدين والصلاح ويحسن إليهم وكان حنفيا ثم صار شافعيا على يد أبي بكر القفال الصغير على ما ذكره إمام الحرمين وغيره وكان على مذهب الكرامية في الإعتقاد وكان من جملة من يجالسه منهم محمد بن الهيضم وقد جرى بينه وبين أبى بكر فورك مناظرات بين يدى السلطان محمود في مسألة العرش ذكرها ابن الهيضم في مصنف له فمال السلطان محمود إلى قول ابن الهيضم ونقم على ابن فورك كلامه وأمر بطرده وإخراجه لموافقته لرأي الجهمية وكان عادلا جيدا اشتكى إليه رجل أن ابن اخت الملك يهضم عليه في داره وعلى أهله في كل وقت فيخرجه من البيت ويختلي بإمرأته وقد حار في أمره وكلما اشتكاه لأحد من أولي الأمر لا يجسر أحد عليه خوفا وهيبة للملك فلما سمع الملك ذلك غضب غضبا شديدا وقال للرجل ويحك متى جاءك فئتنى فاعلمني ولا تسمعن من أحد منعك من الوصول إلي ولو جاءك في الليل فئتني فاعلمني ثم إن الملك تقدم إلى الحجبة وقال لهم إن هذا الرجل متى جاءني لا يمنعه أحد من الوصول إلي من ليل أو نهار فذهب الرجل مسرورا داعيا فما كان إلا ليلة أو ليلتان حتى هجم عليه ذلك الشاب فأخرجه من البيت واختلى بأهله فذهب باكيا إلى دار الملك فقيل له أن الملك نائم فقال قد تقدم إليكم أن لا أمنع منه ليلا ولا نهارا فنبهوا الملك فخرج معه بنفسه وليس معه أحد حتى جاء إلى منزل الرجل فنظر إلى الغلام وهو مع المرأة في فراش واحد وعندهما شمعة تقد فتقدم الملك فأطفأ الضوء ثم جاء فاحتز رأس الغلام وقال للرجل ويحك ألحقني بشربة ماء فأتاه بها فشرب ثم انطلق الملك ليذهب فقال له الرجل بالله لم أطفأت الشمعة قال ويحك إنه ابن أختي وإني كرهت أن أشاهده حال الذبح فقال ولم طلبت الماء سريعا فقال الملك إني آليت على نفسي منذ أخبرتني أن لا أطعم طعاما ولا أشرب
شرابا حتى أنصرك وأقوم بحقك فكنت عطشانا هذه الأيام كلها حتى كان مما رأيت فدعا له الرجل وانصرف الملك راجعا إلى منزله ولم يشعر بذلك أحد وكان مرض الملك محمود هذا بسوء المزاج اعتراه معه انطلاق البطن سنتين فكان فيهما لا يضطجع على فراش ولا يتكئ على شيء لقوة بأسه وسوء مزاجه وكان يستند على مخاد توضع له ويحضر مجلس الملك ويفصل على عادته بين الناس حتى مات كذلك في يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر من هذه السنة على ثلاثة وستين سنة ملكه منها ثلاث وثلاثون سنة وخلف من الأموال شيئا كثيرا من ذلك سبعون رطلا من جوهر الجوهرة منه لها قيمة عظيمة سامحه الله وقام بالأمر من بعده ولده محمد ثم صار الملك إلى ولده الآخر مسعود بن محمود فأشبه أباه وقد صنف بعض العلماء مصنفا في سيرته وأيامه وفتوحاته وممالكه