ثم دخلت سنة أربع عشرة وخمسمائة
 
في النصف من ربيع الأول منها كانت وقعة عظيمة بين الأخوين السلطان محمود ومسعود ابني محمد بن ملكشاه عند عقبة اسداباذ فانهزم عسكر مسعود وأسر وزيره الأستاذ أبو إسماعيل وجماعة من أمرائه فأمر السلطان محمود بقتل الوزير أبي إسماعيل فقتل وله نيف وستون سنة وله تصانيف في صناعة الكيمياء ثم أرسل إلى أخيه مسعود الأمان واستقدمه عليه فلما التقيا بكيا واصطلحا وفيها نهب دبيس صاحب الحلة البلاد وركب بنفسه إلى بغداد ونصب خيمته بإزاء دار الخلافة وأظهر ما في نفسه من الضغائن وذكر كيف طيف برأس أبيه في البلاد وتهدد المسترشد فأرسل إليه الخليفة يسكن جأشه ويعده أنه سيصلح بينه وبين السلطان محمود فلما قدم السلطان محمود بغداد أرسل دبيس يستأمن فأمنه وأجراه على عادته ثم إنه نهب جسرالسلطان فركب بنفسه السلطان لقتاله واستصحب معه ألف سفينة ليعبر فيها فهرب دبيس والتجأ إلى إيلغازي فأقام عنده سنة ثم عاد إلى الحلة وأرسل إلى الخليفة والسلطان يعتذر اليهما مما كان منه فلم يقبلا منه وجهز إليه السلطان جيشا فحاصروه وضيقوا عليه قريبا من سنة وهو ممتنع في بلاده لا يقدر الجيش على الوصول إليه وفيها كانت وقعة عظيمة بين الكرج والمسلمين بالقرب من تفليس ومع الكرج كفار الفقجاق فقتلوا من المسلمين خلقا كثيرا وغنموا أموالا جزيلة وأسروا نحوا من أربعة آلاف أسير فإنا لله وإنا إليه راجعون ونهب الكرج تلك النواحي وفعلوا اشياء منكرة وحاصروا تفليس مدة ثم ملكوها عنوة بعد ما أحرقوا القاضي والخطيب حين خرجوا إليهم يطلبون منهم الأمان وقتلوا عامة أهلها وسبوا الذرية واستحوذوا على الأموال فلا حول ولا قوة إلا بالله وفيها أغار جوسكين الفرنجي على خلق من العرب والتركمان فقتلهم وأخذ أموالهم وهذا هو صاحب الرها وفيها تمردت العيارون ببغداد وأخذوا الدور جهارا ليلا ونهارا فحسبنا الله ونعم الوكيل وفيها كان ابتداء ملك محمد بن تومرت ببلاد المغرب كان ابتداء أمر هذا الرجل أنه قدم في حداثة سنه من بلاد المغرب فسكن النظامية ببغداد واشتغل بالعلم فحصل منه جانبا جيدا من الفروع والأصول على الغزالي وغيره وكان يظهر التعبد والزهد والورع وربما كان ينكر على الغزالي حسن ملابسه ولا سيما لما لبس خلع التدريس بالنظامية أظهر الإنكار عليه جدا وكذلك على غيره
ثم إنه حج وعاد إلى بلاده وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقرئ الناس القرآن ويشغلهم في الفقه فطار ذكره في الناس واجتمع به يحيى بن تميم بن المعز بن باديس صاحب بلاد إفريقية فعظمه وأكرمه وسأله الدعاء فاشتهر أيضا بذلك وبعد صيته وليس معه إلا ركوة وعصا ولا يسكن إلا المساجد ثم جعل ينتقل من بلد إلى بلد حتى دخل مراكش ومعه تلميذه عبدالمؤمن بن علي وقد كان توسم النجابة والشهامة فيه فرأى في مراكش من المنكرات أضعاف ما رأى في غيرها من ذلك أن الرجال يتلثمون والنساء يمشين حاسرات عن وجوههن فأخذ في إنكار ذلك حتى أنه اجتازت به في بعض الأيام أخت أمير المسلمين يوسف ملك مراكش وما حولها ومعها نساء مثلها راكبات حاسرات عن وجوههن فشرع هو واصحابه في الإنكار عليهن وجعلوا يضربون وجوه الدواب فسقطت أخت الملك عن دابتها فأحضره الملك واحضر الفقهاء فظهر عليهم بالحجة وأخذ يعظ الملك في خاصة نفسه حتى أبكاه ومع هذا نفاه الملك عن بلده فشرع يشنع عليه ويدعو الناس إلى قتاله فاتبعه على ذلك خلق كثير فجهز إليه الملك جيشا كثيفا فهزمهم ابن تومرت فعظم شأنه وارتفع أمره وقويت شوكته وتسمى بالمهدى وسمى جيشه جيش الموحدين وألف كتابا في التوحيد وعقيدة تسمى المرشدة ثم كانت له وقعات مع جيوش صاحب مراكش فقتل منهم في بعض الأيام نحوا من سبعين ألفا وذلك بإشارة أبي عبدالله التومرتي وكان ذكر أنه نزل إليه ملك وعلمه القرآن والموطأ وله بذلك ملائكة يشهدون به في بئر سماه فلما اجتاز به وكان قد أرصد فيه رجالا فلما سألهم عن ذلك والناس حضور معه على ذلك البئر شهدوا له بذلك فأمر حينئذ بطم البئر عليهم فماتوا عن آخرهم ولهذا يقال من أعان ظالما سلط عليه ثم جهز بن تومرت الذي لقب نفسه بالمهدي جيشا عليهم أبو عبدالله التومرتي وعبدالمؤمن لمحاصرة مراكش فخرج إليهم أهلها فاقتتلوا قتالا شديدا وكان في جملة من قتل أبو عبدالله التومرتي هذا الذي زعم أن الملائكة تخاطبه ثم افتقدوه في القتلى فلم يجدوه فقالوا إن الملائكة رفعته وقد كان عبدالمؤمن دفنه والناس في المعركة وقتل ممن معه من أصحاب المهدي خلق كثير وقد كان حين جهز الجيش مريضا مدنفا فلما جاءه الخبر ازداد مرضا إلى مرضه وساءه قتل أبي عبدالله التومرتي وجعل الأمر من بعده لعبدالمؤمن بن علي ولقبه أمير المؤمنين وقد كان شابا حسنا حازما عاقلا ثم مات ابن تومرت وقد أتت عليه إحدى وخمسون سنة ومدة ملكه عشر سنين وحين صار إلى عبدالمؤمن ابن علي الملك أحسن إلى الرعايا وظهرت له سيرة جيدة فأحبه الناس واتسعت ممالكه وكثرت جيوشه ورعيته ونصب العداوة إلى تاشفين صاحب مراكش ولم يزل الحرب بينهما إلى سنة خمس وثلاثين فمات تاشفين فقام ولده من بعده فمات في سنة تسع وثلاثين ليلة سبع وعشرين من رمضان فتولى أخوه إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين فسار إليه عبدالمؤمن فملك تلك النواحي وفتج مدينة مراكش وقتل هنالك أمما لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل قتل ملكها إسحاق وكان صغير السن في سنة ثنتين وأربعين وكان إسحاق هذا آخر ملوك المرابطين وكان ملكهم سبعين سنة والذين ملكوا منهم أربعة علي وولده يوسف وولداه أبو سفيان وإسحاق أبنا علي المذكور فاستوطن عبدالمؤمن مدينة مراكش واستقر ملكه بتلك الناحية وظفر في سنة ثلاث وأربعين بدكالة وهي قبيلة عظيمة نحو مائتي ألف راجل وعشرين ألف فارس مقاتل وهم من الشجعان الابطال فقتل منهم خلقا كثيرا وجما غفيرا وسبى ذراريهم وغنم أموالهم حتى إنه بيعت الجارية الحسناء بدراهم معدودة وكيف تملك بلاد المغرب وما كان يتعاطاه من الأشياء التي توهم أنها أحوال برة وهي محاولات لا تصدر إلا عن فجرة وما قتل من الناس وأزهق من الأنفس وممن توفي فيها من الأعيان :

الموضوع السابق


المبارك بن علي