فصل
 
فلما مات نور الدين في شوال من هذه السنة بويع من بعده بالملك لولده الصالح إسماعيل وكان صغيرا وجعل أتابكه الأمير شمس الدين بن مقدم فاختلف الأمراء وحادت الآراء وظهرت الشرور وكثرت الخمور وقد كانت لا توجد في زمنه ولا أحد يجسر أن يتعاطى شيئا منها ولا من الفواحش وانتشرت الفواحش وظهرت حتى أن ابن أخيه سيف الدين غازي بن مودود صاحب الموصل لما تحقق موته وكان محصورا منه نادى مناديه بالبلد بالمسامحة باللعب واللهو والشراب والمسكر والطرب ومع المنادي دف وقدح ومزمار الشيطان فإنا لله وإنا إليه راجعون وقد كان ابن أخيه هذا وغيره من الملوك والأمراء الذين له حكم عليهم لا يستطيع أحد منهم أن يفعل شيئا من المناكر والفواحش فلما مات مرح أمرهم وعاثوا في الأرض فسادا وتحقق قول الشاعر
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر * ولا تسقني سرا وقد أمكن الجهر
وطمعت الأعداء من كل جانب في المسلمين وعزم الفرنج على قصد دمشق وانتزاعها من أيدي المسلمين فبرز إليهم ابن مقدم الأتابك فواقعهم عند بانياس فضعف عن مقاومتهم فهادنهم مدة ودفع إليهم أموالا جزيلة عجلها لهم ولولا أنه خوفهم بقدوم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لما هادنوه ولما بلغ ذلك صلاح الدين كتب إلى الأمراء وخاصة ابن مقدم يلومهم على ما صنعوا من المهادنة ودفع الأموال إلى الفرنج وهم أقل وأذل وأخبرهم أنه على عزم قصد البلاد الشامية ليحفظها من الفرنج فردوا إليه كتابا فيه غلظة وكلام فيه بشاعة فلم يلتفت إليهم ومن شدة خوفهم منه كتبوا إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل ليملكوه عليهم ليدفع عنهم كيد الملك الناصر صلاح الدين صاحب مصر فلم يفعل لأنه خاف أن يكون مكيدة منهم له وذلك أنه كان قد هرب منه الطواشي سعد الدولة مستكين الذي كان قد جعله الملك نور الدين عينا عليه وحافظا له من تعاطى مالا يليق من الفواحش والخمر واللعب واللهو فلما مات نور الدين ونادى في الموصل تلك المناداة القبيحة خاف منه الطواشي المذكور أن يمسكه فهرب منه سرا فلما تحقق غازي موت عمه بعث في إثر هذا الخادم ففاته فاستحوذ على حواصله ودخل الطواشي حلب ثم سار إلى دمشق فاتفق مع الأمراء على أن يأخذوا ابن نور الدين الملك الصالح إسماعيل إلى حلب فيربيه هنالك مكان ربي والده وتكون دمشق مسلمة إلى الأتابك شمس الدولة بن مقدم والقلعة إلى الطواشي جمال الدين ريحان فلما سار الملك الصالح من دمشق خرج معه الكبراء والأمراء من دمشق إلى حلب وذلك في الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة وحين وصلوا حلب جلس الصبي على سرير ملكها واحتاطوا على بني الداية شمس الدين بن الداية أخو مجد الدين الذي كان رضيع نور الدين وإخوته الثلاثة وقد كان شمس الدين علي بن الداية يظن ان ابن نور الدين يسلم إليه فيربيه لأنه أحق الناس بذلك فخيبوا ظنه وسجنوه وإخوته في الجب فكتب الملك صلاح الدين إلى الأمراء يلومهم على ما فعلوا على ما فعلوا من نقل الولد من دمشق إلى حلب ومن حبسهم بني الداية وهم من خيار الأمراء ورؤس الكبراء ولم لا يسلموا الولد إلى مجد الدين بن الداية الذي هو أحظى عند نور الدين وعند الناس منهم فكتبوا إليه يسيئون الأدب عليه وكل ذلك يزيده حنقا عليهم ويحرضه على القدوم إليهم ولكنه في الوقت في شغل شاغل لما دهمه ببلاد مصر من الأمر الهائل كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في أول السنة الآتية وممن توفي فيها من الأعيان والمشاهير :