ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة
 
استهلت والسلطان صلاح الدين مخيم بالقدس وقد قسم السور بين أولاده وأمرائه وهو يعمل فيه بنفسه ويحمل الحجر بين القربوسيين وبينه والناس يقتدون يهم والفقهاء والقراء يعملون والفرنج لعنهم الله حول البلد من ناحية عسقلان وما والاها لايتجاسرون أن يقربوا البلد من الحرس واليزك الذين حول القدس إلا أنهم على نية محاصرة القدس مصممون ولكيد الإسلام مجمعون وهم والحرس تارة يغلبون وتارة يغلبون وتارة ينهبون وتارة ينهبون وفي ربيع الآخر
وصل إلى السلطان الأمير سيف الدين المشطوب من الأسر وكان نائبا على عكا حين أخذت فافتدى نفسه منهم بخمسين ألف دينار فأعطاه السلطان شيئا كثيرا منها واستنابه على مدينة نابلس فتوفى بها في شوال من هذه السنة وفي ربيع الآخر قتل المركيس صاحب صور لعنه الله أرسل إليه ملك الانكليز اثنين من الفداوية فقتلوه أظهرا التنصر ولزما الكنيسة حتى ظفرا به فقتلاه وقتلا أيضا فاستناب ملك الإنكليز عليها ابن أخيه بلام الكندهر وهو ابن أخت ملك الافرنسيين لأبيه فهما خالاه ولما صار إلى صور بنى بزوجه المركيس بعد موته بليلة واحدة وهي حبلي أيضا وذلك لشدة العداوة التي كانت بين الانكليز وبينه وقد كان السلطان صلاح الدين يبغضهما ولكن المركيس كان قد صانعه بعض شيء فلم يهن عليه قتله وفي تاسع جمادى الأولى استولى الفرنج لعنهم الله على قلعة الداروم فخربوها وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها وأسروا طائفة من الذرية فإنا لله وإنا إليه راجعون ثم أقبلوا جملة نحو القدس فبرز إليهم السلطان في حزب الإيمان فلما تراأي الجمعان نكص حزب الشيطان راجعين فرارا من القتال والنزال وعاد السلطان إلى القدس وقد رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ثم إن ملك الانكليز لعنه الله وهو أكبر ملوك الفرنج ذلك الحين ظفر ببعض فلول المسلمين فكبسهم ليلا فقتل منهم خلقا كثيرا وأسر منهم خمسمائة أسير وغنم منهم شيئا كثيرا من الأموال والجمال والخيل والبغال وكان جملة الجمال ثلاثة آلاف بعير فتقوى الفرنج بذلك وساء ذلك السلطان مساءة عظيمة جدا وخاف من غائلة ذلك واستخدم الانكليز الجمالة على الجمال والخر بندية على البغال والسياس على الخيل وأقبل وقد قويت نفسه جدا وصمم على محاصرة القدس وأرسل إلى ملوك الفرنج الذين بالساحل فاستحضرهم ومن معهم من المقاتلة فتعبأ السلطان لهم وتهيأ وأكمل السور وعمر الخنادق ونصب المنجانيق وأمر بتغوير ما حول القدس من المياه وأحضر السلطان أمراءه ليلة الجمعة تاسع عشر جمادي الآخرة أبا الهيجاء المبسمين والمشطوب والأسدية فاستشارهم فيما قد دهمه من هذا الأمر الفظيع الموجع المؤلم فأفاضوا في ذلك وأشاروا كل برأيه وأشار العماد الكاتب بأن يتحالفوا على الموت عند الصخرة كما كان الصحابة يفعلون فأجابوا إلى ذلك هذا كله والسلطان ساكت واجم مفكر فسكت القوم كأنما على رؤسهم الطير ثم قال الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله اعلموا أنكم جند الإسلام اليوم ومنعته وأنتم تعلمون أن دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم في ذممكم معلقة والله عز وجل سائلكم يوم القيامة عنهم وأن هذا العدو ليس له من المسلمين من يلقاه عن العباد والبلاد غيركم فإن وليتم والعياذ بالله طوى البلاد وأهلك العباد وأخذ الأموال والأطفال والنساء وعبد الصليب في المساجد وعزل القرآن منها والصلاة وكان ذلك كله في ذممكم فإنكم أنتم الذين تصديتم لهذا كله وأكلتم بيت مال المسلمين لتدفعوا عنهم عدوهم وتنصروا ضعيفهم فالمسلمون في سائر البلاد متعلقون بكم والسلام
فانتدب لجوابه سيف الدين المشطوب وقال يا مولانا نحن مماليكك وعبيدك وأنت الذي أعطيتنا وكبرتنا وعظمتنا وليس لنا إلا رقابنا ونحن بين يديك والله مايرجع أحد منا عن نصرك حتى يموت فقال الجماعة مثل ما قال ففرح السلطان بذلك وطاب قلبه ومد لهم سماطا حافلا وانصرفوا من بين يديه على ذلك ثم بلغه بعد ذلك أن بعض الأمراء قال إنا نخاف أن يجري علينا في هذا البلد مثل ما جرى على أهل عكا ثم يأخذون بلاد الإسلام بلدا بلدا والمصلحة أن نلتقيهم بظاهر البلد فإن هزمناهم أخذنا بقية بلادهم وإن تكن الأخرىسلم العسكر ومضى بحاله ويأخذون القدس وتحفظ بقية بلاد الإسلام بدون القدس مدة طويلة وبعثوا إلى السلطان يقولون له إن كنت تريدنا نقيم بالقدس تحت حصار الفرنج فكن أنت معنا أو بعض أهلك حتى يكون الجيش تحت أمرك فإن الأكراد لاتطيع الترك والترك لاتطيع الأكراد فلما بلغه ذلك شق عليه مشقة عظيمة وبات ليلته أجمع مهموما كئيبا يفكر فيما قالوا ثم انجلى الأمر واتفق الحال على أن يكون الملك الأمجد صاحب بعلبك مقيما عندهم نائبا عنه بالقدس وكان ذلك نهار الجمعة فلما حضر إلى صلاة الجمعة وأذن المؤذن للظهر قام فصلى ركعتين بين الأذانين وسجد وابتهل إلى الله تعالى ابتهالا عظيما وتضرع إلى ربه وتمسكن وسأله فيما بينه وبينه كشف هذه الضائقة العظيمة فلما كان يوم السبت من الغد جاءت الكتب من الحرس الذين حول البلد بأن الفرنج قد اختلفوا فيما بينهم فقال ملك الافرنسيين إنا إنما جئنا من البلاد البعيدة وأنفقنا الأموال العديدة في تخليص بيت المقدس ورده إلينا وقد بقى بيننا وبينه مرحلة فقال الانكليز إن هذا البلد شق علينا حصاره لأن المياه حوله قد عدمت وإلى أن يأتينا الماء من المشقة البعيدة يعطل الحصار ويتلف الجيش
ثم اتفق الحال بينهم على أن حكموا منهم عليهم ثلاثمائة منهم فردوا أمرهم إلى اثنى عشر منهم فردوا أمرهم إلى ثلاثة منهم فباتوا ليلتهم ينظرون ثم أصبحوا وقد حكموا عليهم بالرحيل فلم يمكنهم مخالفتهم فسحبوا راجعين لعنهم الله أجمعين فساروا حتى نزلوا على الرملة وقد طالت عليهم الغربة والزملة وذلك في بكرة الحادي والعشرين من جمادى الآخرة وبرز السلطان بجيشه إلى خارج القدس وسار نحوهم خوفا أن يسيروا إلى مصر لكثرة ما معهم من الظهر والأموال وكان الانكليز يلهج بذلك كثيرا فخذلهم الله عن ذلك وترددت الرسل من الانكليز إلى السلطان في طلب الأمان ووضع الحرب بينه وبينهم ثلاث سنين وعلى أن يعيد لهم عسقلان ويهب لهم كنيسة بيت المقدس وهى القمامة وأن يمكن النصارى من زيارتها وحجها بلاشيء فامتنع السلطان من إعادة عسقلان وأطلق لهم قمامة وفرض على الزوار مالا يؤخذ من كل منهم فامتنع الانكليز إلا أن تعادلهم عسقلان ويعمر سورها كما كانت فصمم السلطان على عدم الإجابة ثم ركب السلطان حتى وافى يافا فحاصرها حصارا شديدا فافتتحها وأخذوا الأمان لكبيرها وصغيرها فبينما هم كذلك إذ أشرقت عليهم مراكب الانكليز على وجه البحر فقويت رؤسهم واستعصت نفوسهم فهجم اللعين فاستعاد البلد وقتل من تأخر بها من المسلمين صبرا بين يديه وتقهقر السلطان عن منزلة الحصار إلى ما وراءها خوفا على الجيش من معرة الفرنج فجعل ملك الانكليز يتعجب من شدة سطوة السلطان وكيف فتح مثل هذا البلد العظيم في يومين وغيره لايمكنه فتحه في عامين ولكن ماظننت أنه مع شهامته وصرامته يتأخر من منزلته بمجرد قدومي وأنا ومن معي لم نخرج من البحر إلا جرائد بلا سلاح ثم ألح في طلب الصلح وان تكون عسقلان داخلة في صلحهم فامتنع السلطان ثم إن السلطان كبس في تلك الليالي الإنكليز
وهو في سبعة عشر مقاتلا وحوله قليل من الرجالة فأكب بجيشه حوله وحصره حصرا لم يبق معه نجاة لوصمم معه الجيش ولكنهم نكلوا كلهم عن الحملة فلا قوة إلا بالله وجعل السلطان يحرضهم غاية التحريض فكلهم يمتنع كما يمتنع المريض من شرب الدواء وهذا وملك الانكليز قد ركب في أصحابه وأخذ عدة قتاله وأهبة نزاله واستعرض الميمنة إلى آخر الميسرة يعني ميمنة المسلمين وميسرتهم فلم يتقدم إليه أحد الفرسان ولا نهره بطل من الشجعان فعند ذلك كر السلطان راجعا وقد أحزنه أنه لم ير من الجيش مطيعا فأنا لله وإنا إليه راجعون ولو أن له بهم قوة لما ترك أحدا منهم يتناول من بيت المال فلسا ثم حصل لملك الانكليز بعد ذلك مرض شديد فبعث إلى السلطان يطلب فاكهة وثلجا فأمده بذلك من باب الكرم ثم عوفي لعنه الله وتكررت الرسل منه يطلب من السلطان المصالحة لكثرة شوقه إلى أولاده وبلاده وطاوع السلطان على ما يقول وترك طلب عسقلان ورضى بما رسم به السلطان وكتب كتاب الصلح بينهما في سابع عشر شعبان وأكدت العهود والمواثيق من كل ملك من ملوكهم وحلف الأمراء من المسلمين وكتبوا خطوطهم واكتفى من السلطان بالقول المجرد كما جرت به عادة السلاطين وفرح كل من الفريقين فرحا شديدا وأظهروا سرورا كثيرا ووقعت الهدنة على وضع الحرب ثلاثين سنة وستة أشهر وعلى أن يقرهم على ما بأيديهم من البلاد الساحلية وللمسلمين ما يقابلها من البلاد الجبلية وما بينهما من المعاملات تقسم على المناصفة وأرسل السلطان مائة نقاب صحبة أمير لتخريب سور عسقلان وإخراج من بها من الفرنج وعاد السلطان إلى القدس فرتب أحواله ووطدها وسدد أموره وأكدها وزاد وقف المدرسة سوقا بدكاكينها وأرضا ببساتينها وزاد وقف الصوفية وعزم على الحج عامه ذلك فكتب إلى الحجاز واليمن ومصر والشام ليعلموا بذلك ويتأهبوا له فكتب إليه القاضي الفاضل ينهاه عن ذلك خوفا على البلاد من إستيلاء الفرنج عليها ومن كثرة المظالم بها وفساد الناس والعسكر وقلة نصحهم وأن النظر في أحوال المسلمين خير لك في عامك هذا والعدو مخيم بعد بالشام وأنت تعلم أنهم يهادنون ليتقووا ويكثروا ثم يمكروا ويغدروا فسمع السلطان منه وشكر نصحه وترك ما عزم عليه وكتب به إلى سائر الممالك واستمرة مقيما بالقدس جميع شهر رمضان في صيام وصلاة وقرآن وكلما وفد أحد من رؤساء الفرنج للزيارة فعل معه غاية الإكرام تأليفا لقلوبهم ولم يبق أحد من ملوكهم إلا جاء لزيارة القمامة متنكرا ويحضر سماط السلطان فيمن حضر من جمهورهم بحيث لايرى والسلطان لايعلم ذلك جملة ولاتفصيلا ولهذا كان يعاملهم بالإكرام ويريهم صفحا جميلا وبرا جزيلا فلما كان في خامس شوال ركب السلطان في العساكر فبرز من القدس قاصدا دمشق واستناب على القدس عز الدين جوردبك وعلى قضائها بهاء الدين بن يوسف بن رافع بن تميم الشافعي فاجتاز على وادي الجيب وبات على بركة الداوية ثم أصبح في نابلس فنظر في أحوالها ثم ترحل عنها فجعل يمر بالقلاع والحصون والبلدان فينظر في أحوالها ويكشف المظالم عنها وفي أثناء الطريق جاء إلى خدمته بيمند صاحب إنطاكية فأكرمه وأحسن إليه وأطلق له أموالا جزيلة وخلعا وكان العماد الكاتب في صحبته فأخبر عن منازله منزلة منزلة إلى أن قال وعبر يوم الإثنين عين الحر إلى مرج بيوس وقد زال البوس وهناك وفد عليه أعيان دمشق وأماثلها ونزل يوم الثلاثاء على العرادة وجاءه هناك التحف والمتلقون على العادة وأصبحنا يوم الأربعاء سادس عشر شوال بكرة بجنة دمشق داخلين بسلام آمنين وكانت غيبة السلطان عنها أربع سنين فأخرجت دمشق أثقالها وأبرزت نساءها وأطفالها ورجالها وكان يوم الزينة وخرج أكثر أهل المدينة واجتمع أولاده الكبار والصغار وقدم عليه رسل الملوك من سائر الأمصار وأقام بقية عامه في اقتناص الصيد وحضور دار العدل والعمل بالإحسان والفضل ولما كان عيد الأضحى امتدحه بعض الشعراء بقصيدة يقول فيها
وأبيها لولا تغزل عينها * لما قلة في التغزل شعرا
ولكانت مدائح الملك النا * صرو إلى مافيه أعمل فكرا
ملك طبق المالك بالعد * ل مثلما أوسع البرية برا
فيحل الأعياد صوما وفطرا * ويلقى الهنا برا وبحرا
يأمر بالطاعات لله إن * أضحى مليك على المناهي مصرا
نلت ماتسعى من الدين والدنيا * فتيها على الملوك وفخرا
قد جمعت المجدين أصلا وفرعا * وملكت الدارين دنيا وأخرى
ومما وقع في هذه السنة من الحوادث غزوة عظيمة بين صاحب غزنة شهاب الدين ملكها السبكتكيني وبين ملك الهند وأصحابه الذين كانوا قد كسروه في سنة ثلاث وثمانين فأظفره الله بهم هذه السنة فكسرهم وقتل خلقا منهم وأسر خلقا وكان من جملة من أسره ملكهم الأعظم وثمانية عشر فيلا من جملتها الذي كان جرحه ثم أحضر الملك بين يديه فأهانه ولم يكرمه واستحوذ على حصنه وأخبر بما فيه من كل جليل وحقير ثم قتله بعد ذلك وعاد إلى غزنة مؤيدا منصورا مسرورا محبورا وفيها أتهم أمير الحج ببغداد وهو طاشتكين وقد كان على إمرة الحج من مدة عشرين سنة وكان في غاية حسن السيرة واتهم بأنه يكاتب صلاح الدين بن أيوب في أخذ بغداد فإنه ليس بينه وبينها أحد يمانعه عنها وقد كان مكذوبا عليه ومع هذا أهين وحبس وصودر

الموضوع التالي


فصل