ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة
 
فيها ورد كتاب من القاضي الفاضل إلى ابن الزكي يخبره فيه أن في ليلة الجمعة التاسع من جمادي الاخرة أتى عارض فيه ظلمات متكاثفة وبروق خاطفة ورياح عاصفة فقوى الجو بها واشتد هبوبها قد أثبت لها أعنة مطلقات وارتفعت لها صفقات فرجفت لها الجدران واصطفقت وتلاقت على بعدها واعتنقت وثار السماء والارض عجاجا حتى قيل إن هذه على هذه قد انطبقت ولا يحسب إلا أن جهنم قد سال منها واد وعدا منها عاد وزاد عصف الريح إلى أن أطفا سرج النجوم ومزقت أديم السماء ومحت ما فوقه من الرقوم فكنا كما قال تعالى يجعلون اصابعم في آذانهم من الصواعق ويردون أيديهم على أعينهم من البوارق لا عاصم لخطف الابصار ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار وفر الناس نساء ورجالا واطفالا ونفروا من دورهم خفافا وثقالا لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فاعتصموا بالمساجد الجامعة واذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة بوجوه عانية ونفوس عن الأهل والمال سالية ينظرون من طرف خفي ويتوقعون أي خطب جلي قد انقطعت من الحياة علقهم وعميت عن النجاة طرقهم ووقعت الفكرة فيما هم عليه قادمون وقاموا على صلاتهم وودوا لو كانوا من الذين عليها دائمون إلى ان اذن بالركود واسعف الهاجدون بالهجود فأصبح كل مسلم على رفيقه ويهنيه بسلامة طريقه ويرى انه قد بعث بعد النفخة وأفاق بعدا لصحية والصرخة وان الله قد رد له الكرة واحياه بعد ان كاد ياخذه على غرة ووردت الاخبار بأنها قد كسرت المراكب في البحار والاشجار في القفار واتلفت خلقا كثيرا من السفار ومنهم من فر فلا ينفعه الفرار إلى ان قال ولا يحسب المجلس أني أرسلت القلم محرفا والعلم مجوفا فالأمر اعظم ولكن الله سلم ونرجو ان الله قد ايقظنا بما به وعظنا ونبهنا بما فيه ولهنا فما من عباده إلا من رأى القيامة عيانا ولم يلتمس عليها من بعد ذلك برهانا إلا أهل بلدنا فما قص الاولون مثلها في المثلات ولا سبقت لها سابقة في المعضلات والحمد لله الذي من فضله قد جعلنا نخبر عنها ولا يخبر عنا ونسأل الله أن يصدف يصرف عنا عارض الحرص والغرور ولا يجعلنا من أهل الهلاك والثبور
وفيها كتب القاضي الفاضل من مصر إلى الملك العادل بدمشق بحثه على قتال الفرنج ويشكره على ما هو بصدده من محاربتهم وحفظ حوزة الاسلام فمن ذلك قوله في بعض تلك الكتب هذه الاوقات التي انتم فيها عرائس الاعمار وهذه النفقات التي تجري على أيديكم مهور الحور في دار القرار وما أسعد من أودع يد الله ما في يديه فتلك نعم الله عليه وتوفيقه الذي ما كل من طلبه وصل إليه وسواد العجاج في هذه المواقف بباطن ما سودته الذنوب من الصحائف فما أسعد تلك الوقفات وما أعود بالطمأنينة تلك الرجعات وكتب أيضا أدام الله ذلك الاسم تاجا على مفارق المنابر والطروس وحياه للدينا وما فيها من الأجساد والنفوس وعرف المملوك من الأمر الذي اقتضته المشاهدة وجرت به العافية في سرور ولا يزيد على سيبه الحال بقوله
ألم تر ان المرء تدوي يمينه * فيقطعها عمدا ليسلم سائره
ولو كان فيها تدبير لكان مولانا سبق إليه ومن قلم من الاصبع ظفرا فقد طلب إلى الجسد بفعله نفعا ودفع عنه ضررا وتجشم المكروه ليس بضائر إذا كان ما جلبه سببا إلى المحمود وآخر سنوه أول كل غزوة فلا يسأم مولانا نية الرباط وفعلها وتجشم الكلف وحملها فهو إذا صرف وجهه إلى وجه واحد وهو وجه الله صرف الوجوه إليه كلها والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين الله وفي هذه السنة انقضت مدة الهدنة التي كان عقدها الملك صلاح الدين للفرنج فأقبلوا بحدهم وحديدهم فتلقاهم الملك العادل بمرج عكا فكسرهم وغنمهم وفتح يافا عنوة ولله الحمد والمنة وقد كانوا كتبوا إلى ملك الالمان يستنهضونه لفتح بيت المقدس فقدر الله هلاكه سريعا وأخذت الفرنج في هذه السنة بيروت من نائبها عز الدين شامة من غير قتال ولا نزال ولهذا قال بعض الشعراء في الأمير شامة
سلم الحصن ما عليك ملامة * ما يلام الذي يروم السلامة
فتعطى الحصون من غير حرب * سنة سنها ببيروت شامة
ومات فيها ملك الفرنج كندهري سقط من شاهق فمات فبقيت الفرنج كالغنم بلا راعي حتى ملكوا عليهم صاحب قبرس وزوجوه بالملكة امرأة كندهري وجرت خطوب كثيرة بينهم وبين العادل ففي كلها يستظهر عليهم ويكسرهم ويقتل خلقا من مقاتلتهم ولم يزالوا كذلك معه حتى طلبوا الصلح والمهادنة فعاقدهم على ذلك في السنة الآتية وفيها توفي ملك اليمن

الموضوع التالي


سيف الاسلام طغتكين

الموضوع السابق


الشيخ أبو شجاع