ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة
 
استهلت هذه السنة والملك الأشرف موسى بن العادل مقيم بالجزيرة مشغول فيها باصلاح ما كان جلال الدين الخوارزمي قد أفسده من بلاده وقد قدمت التتار في هذه السنة إلى الجزيرة وديار بكر فعاثوا بالفساد يمينا وشمالا فقتلوا ونهبوا وسبوا على عادتهم خذلهم الله تعالى وفيها رتب إمام بمشهد أبي بكر من جامع دمشق وصليت فيه الصلوات الخمس وفيها درس الشيخ تقي الدين بن الصلاح الشهرزوري الشافعي في المدرسة الجوانية في جانب المارستان في جمادي الاولى منها وفيها درس الناصر ابن الحنبلي بالصالحية بسفح قاسيون التي أنشاتها الخاتون ربيعة خاتون بنت أيوب اخت ست الشام
وفيها حبس الملك الأشرف الشيخ علي الحريري بقعلة عزتا وفيها كان غلاء شديد بديار مصر وبلاد الشام وحلب والجزيرة بسبب قلة المياه السماوية والارضية فكانت هذه السنة كما قال الله تعالى ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون وذكر ابن الاثير كلاما طويلا مضمونه خروج طائفة من التتار مرة أخرى من بلاد ما ورائ النهر وكان سبب قدومهم هذه السنة أن الاسماعيلية كتبوا إليهم يخبرونهم بضعف أمر جلال الدين بن خوارزم شاه وأنه قد عادى جميع الملوك حوله حتى الخليفة وأنه قد كسره الأشرف بن العادل مرتين وكان جلال الدين قد ظهرت منه أفعال ناقصة تدل على قلة عقله وذلك أنه توفي له غلام خصى يقال له قلج وكان يحبه فوجد عليه وجدا عظيما بحيث إنه أمر الأمراء أن يمشوا بجنازته فمشوا فراسخ وأمر أهل البلد أن يخرجوا بحزن وتعداد عليه فتوانى بعضهم في ذلك فهم بقتلهم حتى تشفع فيهم بعض الأمراء ثم لم يسمح بدفن قلج فكان يحمل معه بمحفة وكلما أحضر بين يديه طعام يقول أحملوا هذا إلى قلج فقال له بعضهم ايها الملك إن قلج قد مات فأمر بقتله فقتل فكانوا بعد ذلك يقولون قبله وهو يقبل الارض ويقول هو الان أصلح مما كان يعني أنه مريض وليس بميت فيجد الملك بذلك راحة من قلة عقله ودينه قبحه الله فلما جاءت التتار اشتغل بهم وأمر بدفن قلج وهرب من بين أيديهم وامتلأ قلبه خوفا منهم وكان كلما سار من قطر لحقوه إليه خربوا ما اجتازوا به من الاقاليم والبلدان حتى انتهوا إلى الجزيرة وجاوزوها إلى سنجار وما ردين وآمذ يفسدون ما قدروا عليه قتلا ونهبا وأسرا وتمزق شمل جلال الدين وتفرق عنه جيشه فصاروا شذر مذر وبدلوا بالأمن خوفا وبالعز ذلا وبالاجتماع تفريقا فسبحان من بيده الملك لا إله إلا هو وانقطع خبر جلال الدين فلا يدري أين سلك ولا أين ذهب وتمكنت التتار من الناس في سائر البلاد لا يجدون من يمنعهم ولا من يردعهم وألقى الله تعالى الوهن والضعف في قلوب الناس منهم كانوا كثيرا يقتلون الناس فيقول المسلم لا بالله لا بالله فكانوا يلعبون على الخيل ويغنون ويحاكون الناس لا بالله لا بالله وهذه طامة عظمى وداهية كبرى فإنا لله وإنا إليه راجعون
وحج الناس في هذه السنة من الشام وكان ممن حج فيها الشيخ تقي الدين أبو عمر بن الصلاح ثم لم يحج الناس بعد هذه السنة أيضا لكثرة الحروب والخوف من التتار والفرنج فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها تكامل بناء المدرسة التي بسوق العجم ببغداد المنسوبة إلى إقبال الشرابي وحضر الدرس بها وكان يوما مشهودا اجتمع فيه جميع المدرسين والمفتيين ببغداد وعمل بصحنها قباب الحلوى فحمل منها إلى جميع المدارس والربط ورتب فيها خمسة وعشرين فقيها لهم الجوامك الدارة في كل يوم والحلوى في أوقات المواسم والفواكه في زمانها وخلع على المدرس والمعيدين والفقهاء في ذلك اليوم وكان وقتا حسنا تقبل الله تعالى منه وفيها سار الأشرف أبو العباس أحمد بن القاضي الفاضل في الرسلية عن الكامل محمد صاحب مصر إلى الخليفة المستنصر بالله فأكرم وأعيد معظما وفيها دخل الملك المظفر أبو سعيد كوكبرى بن زين الدين صاحب إربل إلى بغداد ولم يكن دخلها قط فتلقاه الموكب وشافهه الخليفة بالسلام مرتين في وقتين وكان ذلك شرفا له غبطة به سائر ملوك الافاق وسألوه أن يهاجروا ليحصل لهم مثل ذلك فلم يمكنوا لحفظ الثغور ورجع إلى مملكته معظما مكرما وممن توفي فيها من الاعيان :