ذكرالهذيلية منهم
 
هؤلاء أتباع أبى الهذيل محمد بن الهذيل المعروف بالعلاف كان مولى لعبد القيس وقد جرى على منهاج ابناء السبايا لظهور اكثر البدع منهم وفضائحه تترى تكفره فيها سائر فرق الامة من أصحابه فى الاعتزال ومن غيرهم وللمعروف بالمرداد من المعتزلة كتاب كبير فيه فضائح أبى الهذيل وفى تكفيره بما انفرد به من ضلالاته وللجبائى ايضا كتاب فى الرد على أبى الهذيل فى المخلوق ويكفره فيه ولجعفر بن حرب أيضا وهو المشهور فى زعماء المعتزلة كتاب سماه توبيخ أبى الهذيل وأشار الى تكفير أبى الهذيل وذكر فيه ان قوله يجر الى قول الذهرية.
فمن فضائح أبى الهذيل قوله بفناء مقدورات الله عز وجل حتى لا يكون بعد فناء مقدوراته قادرا على شىء ولأجل هذا زعم ان نعيم أهل الجنة واهل النار يفنيان ويبقى حينئذ أهل الجنة وأهل النار خامدين لا يقدرون على شىء ولا يقدر الله عز وجل فى تلك الحال على إحياء ميت ولا على إماته حى ولا على تحريك ساكن ولا على تسكين متحرك ولا على إحداث شىء ولا على إفناء شىء مع صحة عقول الاحياء فى ذلك الوقت.
وقوله فى هذا الباب شر من قول من قال بفناء الجنة والنار كما ذهب اليه جهم لان جهما وإن قال بفنائهما فقد قال بأن الله عز وجل قادر بعد فنائهما على ان يخلق أمثالهما وأبو الهذيل يزعم أن ربه لا يقدر بعد فناء مقدوراته على شىء.
وقد شنع المعروف منهم بالمرداد على أبى الهذيل فى هذه المسألة فقال يلزمه اذا كان ولى الله عز وجل فى الجنة قد يناول باحدى يديه الكاس وبالاخرى بعض التحف ثم حضر وقت السكون الدائم ان يبقى ولى لله عز وجل ابدا على هيئة المصلوب.
وقد اعتذر ابو الحسين الخياط عن أبى الهذيل فى هذا الباب باعتذارين :

احدهما دعواه ان أبا الهذيل اشار الى أن الله عز وجل عند قرب انتهاء مقدوراته يجمع فى اهل الجنة اللذات كلها فيبقون على ذلك فى سكون دائم.
واعتذاره الثانى دعواه ان ابا الهذيل انه كان يقول هذا القول مجادلا به خصومه البحث عن جوابه.
واعتذاره الاول عنه باطل من وجهين :

أحدهما أنه يوجب اجتماع لذتين متضادتين فى محل واحد فى وقت واحد وذلك محال كاستحالة اجتماع لذة وألم فى محل واحد.
والوجه الثانى أن هذه الاعتذار لو صح لوجب ان يكون اهل الجنة بعد فناء مقدورات الله عز وجل أحسن من حالها فى حال كونه قادرا.
وأما دعواه ان أبا الهذيل إنما قال بفناء المقدورات مجادلا به معتقدا لذلك فالفاضل بيننا وبين المعتذر عنه كتب أبو الهذيل وأشار فى كتابه الذى سماه بالحجج إلى ماحكيناه عنه وذكر فى كتابه المعروف بكتاب القوالب بابا فى الرد على الدهرية وذكر فيه قولهم للموحدين اذا جاز أن يكون بعد كل حركة حركة سواها لا إلى آخر وبعد كل حادث حادث آخر لا إلى غاية فهلا صح قول من زعم أن حركة الا وقبلها حركة ولا حادث إلا وقبله حادث لا عن أول لا حالت قبله وأجاب عن هذا الالزام بتسويته بينهما وقال كما أن الحوادث لها ابتداء لم يكن قبلها حادث كذلك لها آخر لا يكون بعده حادث ولاجل هذا قال بفناء مقدورات الله عز وجل وسائر المتكلمين من أصناف فرق الاسلام فرقوا بين الحوادث الماضية والحوادث المستقبلة بفروق واضحة لم يهتد اليها أبو الهذيل فارتكب لاجل جهله بها قوله بفناء المقدورات وقد ذكرنا تلك الفروق الواضحة فى باب الدلالة على حدوث العالم في كتبنا المؤلفة فى ذلك
والفضيحة الثانية من فضائح أبى الهذيل قوله بأن أهل الآخرة مضطرون الى ما يكون منهم وان أهل الجنة مضطرون الى أكلهم وشربهم وجماعهم وأن أهل النار مضطرون الى أقوالهم وليس لأحد فى الآخرة من الخلق قدرة على اكتساب فعل ولا على اكتساب قول والله عز وجل خالق أقوالهم وحركاتهم وسائر ما يوصفون به وكانت القدرية يعيبون جهما فى قوله ان العباد فى الدنيا مضطرون الى ما يكون منهم وينكرون على أصحابنا قولهم بأن الله عز وجل خالق اكساب العباد ويقولون لاصحابنا اذا كان هو خالق ظلم العباد وجب ان يكون ظالما واذا خلق كذب الانسان وجب ان يكون كاذبا فهلا قالوا لأبى الهذيل اذا قلت أن الله عز وجل يخلق فى الآخرة كذب اهل النار فى قولهم {والله ربنا ما كنا مشركين} وجب ان يكون هو الكاذب بهذا القول ان كان الكاذب عندهم من فعل الكذب ولا يتوجه علينا هذا الالزام لأنا لا نقول ان الكاذب والظالم من خلق الكذب والظلم ولكنا نقول ان الظالم من قام به الظلم والكاذب من قام به الكذب لا من فعله.
وقد اعتذر الخياط عن أبى الهذيل فى بدعته هذه بأن قال ان الآخرة دار جزاء وليست بدار تكليف فلو كان اهل الآخرة مكتسبين لاعمالهم لكانوا مكلفين ولوقع ثوابهم وعقابهم فى دار سواها فيقال للخياط هل ترضى بهذا الاعتذار من أبى الهذيل ام تسخطه فان رضيته فقل فيه بمثل قوله وذلك خلاف قولك وان سخطته فلا معنى لاعتذارك عنه فى شىء تكفره.
وقلنا لابى الهذيل ما تنكر من كون أهل الآخرة مكتسبين لاعمالهم وان يكونوا فيها مأمورين للشكر لله عز وجل على نعمه ولا يكونوا مأمورين بصلاة ولا زكاة ولا صيام ولا يكونوا منتهين عن المعاصى ويكون ثوابهم على الشكر وترك المعصية دوام النعيم عليهم وما انكرت عليهم من أنهم يكونون فى الاخرة منهيين عن المعاصى ومعصومين منها كما قال أصحابنا مع أكثر الشيعة ان الانبياء عليهم السلام كانوا فى الدنيا منتهين عن المعاصى ومعصومين عنها وكذلك الملائكة منتهون عن المعاصى ومعصومون عنها ولذلك قال الله عز وجل فيهم {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}.
والفضيحة الثالثة من فضائحه قوله بطاعات كثيرة لا يراد الله عز وجل بها كما ذهب اليه قوم من الخوارج الاباضية وقد زعم أن ليس فى الارض هدى ولا زنديق الا وهو مطيع لله تعالى فى أشباه كثيرة وان عصاه من جهة كفره وقال أهل السنة والجماعة ان الطاعة لله عز وجل ممن لا يعرفه انما تصح فى شىء واحد وهو النظر والاستدلال الواجب عليه قبل وصوله الى معرفة الله فان يفعل ذلك يكن مطيعا لله تعالى لأنه قد أمره به وان لم يكن قصد بفعله لذلك النظر الاول التقرب به الى الله عز وجل ولا تصح منه طاعة لله تعالى سواها الا اذا قصد بها التقرب بها اليه لانه يمكنه ذلك اذا توصل بالنظر الاول الى معرفة الله تعالى ولا يمكنه قبل النظر الاول التقرب به اليه اذا لم يكن عارفا به قبل نظره واستدلاله.
واستدل أبو الهذيل على دعواه صحة وقوع طاعات الله تعالى ممن لا يعرفه بأن قال ان أوامر الله تعالى بازائها زواجره فلو كان من لا يعرفه فعل ترك جميع أوامره وجب ان يكون قد صار الى جميع زواجره وان يكون من ترك جميع الطاعات قد صار الى جميع المعاصى ولو كان كذلك لصار الدهرى يهوديا ونصرانيا ومجوسيا وعلى اديان سائر الكفرة واذا صار المجوسى تاركا لكل كفر سوى المجوسية علمنا أنه عارض بمجوسيته التى قد نهى عنها ومطيع لله عز وجل بترك ما تركه من انواع الكفر لانه مأمور بتركها.
فقلت له ليس الامر فى أوامر الله تعالى وزواجره على ما ظننته ولكن لا خصلة من الطاعة الا ويضادها معاص متضادة ولا خصلة من الايمان الا ويضادها خصال متضادة كل نوع منها يضاد النوع الآخر كما يضادها الطاعة وذلك بمنزلة القيام والقعود والاضطجاع والاستلقاء وقد يخرج عن القعود من لا يصير الى جميع اضداده وانما يخرج من القعود بنوع واحد من أضداده كذلك يخرج عن كل طاعة لله تعالى بنوع واحد من الكفر المضاد للطاعات كلها لان ذلك النوع من الكفر يضاد نوعا آخر من الكفر كما يضاد سائر الطاعات وهذا واضح فى نفسه وان جهله أبو الهذيل.
والفضيحة الرابعة من فضائحه قوله بأن علم الله سبحانه وتعالى هو الله وقدرته هى هو.
ويلزمه على هذا القول أن يكون الله تعالى علما وقدرة ولو كان هو علما وقدرة لاستحال ان يكون عالما قادرا لان العلم لا يكون عالما والقدرة لا تكون قادرة.
ويلزمه ايضا اذا قال ان علم الله هو الله وقدرته هى هو ان يقول ان علمه هو قدرته ولو كان علمه قدرته لوجب ان يكون كل معلوم له مقدورا له وهذا يوجب ان يكون رأيه مقدورا له لانه معلوم له وهذا كفر فما يؤدى اليه مثله.
والفضيحة الخامسة تقسيمه كلام الله عز وجل الى ما يحتاج الى محل والى مالا يحتاج الى محل وقد زعم ان قول الله سبحانه للشىء كن حادث لا فى محل وسائر كلامه حادث فى جسم من الاجسام وكل كلامه عنده اعراض وقد زعم ان قوله للشىء كن من جنس قول الانسان كن ففرق بين عرضين من جنس واحد فى حاجة احدهما الى محل واستغناء الآخر عن المحل فاما قوله بحدوث ارادة الله سبحانه لا فى محل وقد شاركه فيه المعتزلة البصرية مع قولهم بأنها من جنس واحد ارادتنا المفتقرة الى المحل.
ووجود كلمة لا فى محل يوجب ان لا يكون بعض المتكلمين بان يتكلم بها أولى من بعض وليس لأبى الهذيل ان يقول ان فاعلها أولى بان يتكلم بها من غيره لانه قد قال بان الله تعالى يخلق فى الآخرة كلام أهل الجنة وكلام أهل النار ولا يكون متكلما بكلامهم فقد أداه قوله بوجود كلمة لا فى محل الى تصحيح كلام لا لمتكلم وهذا محال فما يؤدى اليه مثله.
والفضيحة السادسة من فضائحه قوله ان الحجة من طريق الاخبار فيما غاب عن الحواس من آيات الانبياء عليهم السلام وفيما سواها لا تثبت بأقل من عشرين نفسا فيهم واحد من اهل الجنة او أكثر ولم يوجب بأخبار الكفرة والفسقة حجة وان بلغوا عدد التواتر الذين لا يمكن تواطؤهم على الكذب اذا لم يكن فيهم واحد من أهل الجنة وزعم أن خبر ما دون الاربعة لا يوجب حكما ومن فوق الاربعة الى العشرين قد يصح وقوع العلم بخبرهم وقد لا يقع العلم بخبرهم وخبر العشرين اذا كان فيهم واحد من اهل الجنة يجب وقوع العلم منه لا محالة.
واستدل على ان العشرين حجة بقول الله تعالى {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين}. وقال لم يبح لهم قتالهم الا وهم عليهم حجة.
وهذا يوجب عليه ان يكون خبر الواحد حجة موجبة للعلم لأن الواحد فى ذلك الوقت كان له قتال العشرة من المشركين فيكون جواز قتاله لهم دليلا على كونه حجة عليهم.
قال عبد القاهر ما أراد ابو الهذيل باعتباره عشرين فى الحجة من جهة الخبر اذا كان فيهم واحد من أهل الجنة إلا تعطيل الاخبار الواردة فى الاحكام الشرعية عن فوائدها لانه أراد بقوله ينبغي ان يكون فيهم واحد من أهل الجنة واحد يكون على بدعته فى الاعتزال والقدر وفى فناء مقدورات الله عز وجل لان من لم يقل بذلك لا يكون عنده مؤمنا ولا من أهل الجنة ولم يقل قبل أبى الهذيل أحد على بدعة أبى الهذيل حتى تكون روايته فى جملة العشرين على شرطه.
والفضيحةالسابعة انه فرق بين أفعال القلوب وأفعال الجوارح فقال لا يجوز وجود أفعال القلوب من الفاعل مع قدرته عليه ولا مع موته وأجاز وجود أفعال الجوارح من الفاعل منا بعد موته وبعد عدم قدرته ان كان حيا لم يمت وزعم ان الميت والعاجز يجوز ان يكونا فاعلين لافعال الجوارح بالقدرة التي كانت موجودة قبل الموت والعجز.
وزعم الجبائى وابنه أبو هشام ان أفعال القلوب فى هذا الباب كأفعال الجوارح فى انه يصح وجودها بعد فناء القدرة عليها ومع وجود العجز عنها.
وقول الجبائى وابنه فى هذا الباب شر من قول ابى الهذيل غير ان ابا الهذيل سبق الى القول باجازة كون الميت والعاجز فاعلين لأفعال الجوارح ونسج الجبائى وابنه على منواله فى هذه البدعة وقاسا عليه إجازة كون العاجز فاعلا لأفعال القلوب ومؤسس البدعة عليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة من غير نقصان يدخل فى وزن العاملين بها
الفضيحة الثامنة من فضائحه إنما لما وقف على اختلاف الناس فى المعارف هل هى ضرورية أم اكتسابية ترك قول من زعم انها كلها ضرورية وقول من زعم أنها كلها كسبية وقول من قال ان المعلوم منها بالحواس والبداية ضرورية وما علم منها بالاستدلال اكتسابية واختار لنفسه قولا خارجا عن أقوال السلف فقال المعارف ضربان أحدهما باضطرار وهو معرفة الله عز وجل ومعرفة الدليل الداعى الى معرفته وما بعدها من العلوم الواقعة عن الحواس أو القياس فهو علم اختيار واكتساب.
ثم انه بنى على ذلك قوله فى مهلة المعرفة فخالف فيها سائر الامة فقال فى الطفل انه لا يلزمه فى الحال الثانية من حال معرفته بنفسه أن يأتى بجميع معارف التوحيد والعدل بلا فصل وكذلك عليه ان يأتى مع معرفته بتوحيد الله سبحانه وعدله بمعرفة جميع ما كلفه الله تعالى بفعله حتى ان لم يأت بذلك كله فى الحال الثانية من معرفته بنفسه ومات فى الحال الثالثة مات كافرا وعدوا لله تعالى مستحقا للخلود فى النار واما معرفته بما لا يعرف الا بالسمع من جهة الاخبار فعليه ان يأتى بمعرفة ذلك فى الحال الثانية من سماعه للخبر الذى يكون حجة قاطعة للعذر.
وكان بشر بن المعتمر يقول عليه ان يأتى بالمعارف العقلية فى الحال الثالثة مع معرفته بنفسه لان الحال الثانية حال نظر وفكر فان لم يأت بها فى الحال الثالثة ومات فى الحال الرابعة كان عدوا لله تعالى مستحقا للخلود فى النار.
فهذان القدريان اللذان انكرا على الازارقة قولهما بان اطفال مخالفيهم فى النار وعلى من زعم ان أطفال المشركين فى النار قد زعما ان اطفال المؤمنين اذا ماتوا فى الحال الثالثة او الرابعة من معرفتهم بأنفسهم قبل اتيانهم بالمعارف العقلية كفرة مخلدون فى النار من غير كفر اعتقدوه.
الفضيحة التاسعة من فضائحه انه أجاز حركة الجسم الكثير الاجزاء بحركة تحل فى بعض اجزائه ولم يخبر مثل هذا فى اللون
وقال سائر المتكلمين ان الجزء الذى قامت به الحركة هو المتحرك بها دون غيره من اجزاء الجملة كما ان الجزء الذى يقوم به السواد هو الاسود به دون غيره من اجزاء الجملة وان تحركت الجملة كان فى كل جزء منها حركة كما لو اسودت الجملة كان فى كل جزء منها سواد.
الفضيحة العاشرة من فضائحه قوله بان الجزء الذى لا يتجزأ لا يصح قيام اللون به اذا كان منفردا ولا تصح رؤيته اذا لم يكن فيه لون.
وهذا يوجب عليه ان الله تعالى لو خلق جزءا منفردا لم يكن رائيا له.
والحمد لله الذى انقذ اهل السنة من البدع التى حليناها فى هذا الباب من أبى الهذيل

الموضوع التالي


ذكرالنظامية منهم

الموضوع السابق


ذكرالعمرية منهم