الفصل السابع من هذا الباب فى ذكر مقالات الكرامية وبيان أوصافها
 
الكرامية بخراسان ثلاثة أصناف: حقاقية وطرايقية واسحاقية
وهذه الفرق الثلاث لا يكفر بعضها بعضا وان أكفرها سائر الفرق فلهذا عددناها فرقه واحدة.
وزعيمها المعروف محمد بن كرام كان مطرودا من سخستان الى غرجستان وكان أتباعه فى وقته أوغاد شورين وافشين ووردوا مع نيسابور فى زمان ولاية محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر وتبعه على بدعته من أهل سواد نيسابور شرذمة من حوكة القرى والدّهم. وضلالات أتباعه اليوم متنوعة أنواعا لا نعدها ارباعا ولا اسباعا لكنا نزيد على الآلاف آلافا ونذكر منها المشهور الذى هو بالقبح مذكور.
فمنها ان ابن كرام دعا اتباعه الى تجسيم معبوده وزعم انه جسم له حد ونهاية من تحته والجهة التى منها يلاقى عرشه وهذا شبيه بقول الثنوية إن معبودهم الذى سموه نورا يتناهى من الجهة التى يلاقى الكلام وان لم يتناه من خمس جهات وقد وصف ابن كرام معبوده فى بعض كتبه بأنه جوهر كما زعمت النصارى ان الله تعالى جوهر وذلك أنه قال فى خطبة كتابه المعروف بكتاب عذاب القبر إن الله تعالى احدى الذات احدى الجواهر وأتباعه اليوم لا يبوحون باطلاق لفظ الجوهر على الله تعالى عند العامة خوفا من الشناعة عند الاشاعة واطلاقهم عليه اسم الجسم اشنع من اسم الجوهر وامتناعهم من تسميته جوهرا مع قولهم بأنه جسم كامتناع تسمية شيطان الطاق الرافض من تسميته الاله جسما مع قوله بأنه على صورة الانسان وليس على الخذلان فى سواء الاختيار قياس.
وقد ذكر ابن كرام فى كتابه ان الله تعالى مماس لعرشه وان العرش مكان له وأبدل أصحابه لفظ الماسة بلفظ الملاقاة منه للعرش وقالوا لا يصح وجود جسم بينه وبين العرش إلا بان يحيط العرش الى اسفل وهذا معنى المماسة التى امتنعوا من لفظها.
واختلف أصحابه فى معنى الاستواء المذكور فى قوله :
الرحمن على العرش استوى.
فمنهم من زعم أن كل العرش مكان له وانه لو خلق بازاء العرش عروشا موازية لعرشه لصارت العروش كلها مكانا له لانه أكبر منها كلها وهذا القول يوجب عليهم ان يكون عرشه اليوم كبعضه فى عرضه.
ومنهم من قال إنه لا يزيد على عرشه فى جهة المماسة ولا يفضل منه شىء على العرش وهذا يقتضى ان يكون عرضه كعرض العرش.
وكان من الكرامية بنيسابور ورجل يعرف بابراهيم ابن مهاجر بنصر هذا القول ويناظر عليه.
وزعم ابن كرام وأتباعه أن معبودهم محل للحوادث وزعموا أن أقواله وارادته وإدراكاته للمرئيات وإدراكاته للمسموعات زملاقاته للصحيفة العليا من العالم أعراض حادثة فيه وهو محل لتلك الحوادث الحادثة فيه وسموا قوله للشىء كن خلقا للمخلوق وإحداثا للمحدث واعلاما للذى يعدم بعد وجوده ومنعوا من وصف الأعراض الحادثة فيه بأنها مخلوقة او مفعولة او محدثة.
وزعموا ايضا أنه لا يحدث فى العالم جسم ولا عرض إلا بعد حدوث أعراض كثيرة فى ذات معبودهم منها ارادة لحدوث ذلك الحادث ومنها قوله لذلك الحادث كن على الوجه الذى علم حدوثه عليه وذلك القول فى نفسه حروف كثيرة كل حرف منها عرض حادث فيه ومنها رؤية تحدث فيه يرى بها ذلك الحادث ولو لم يحدث فيه الرؤية لم ير ذلك الحادث ومنها استماعه لذلك الحادث ان كان مسموعا.
وزعموا ايضا أنه لا يعدم من العالم شىء من الاعراض الا بعد حدوث أعراض كثيرة فى معبودهم منها ارادة لعدمه ومنها قوله لما يريد عدمه كن معدوما او افن وهذا القول فى نفسه حروف كل حرف منها عرض حادث فيه فصارت الحوادث الحادثة فى ذات الاله عندهم أضعاف أضعاف الحوادث من اجسام العالم وأعراضها.
واختلفت الكرامية فى جواز العدم فى تلك الحوادث الحادثة فى ذات الإله بزعمهم فأجاز بعضهم عدمها وأجاز عدمها أكثرهم واجمع الفريقان منهم على أن ذات الاله لا يخلو فى المستقبل عن حلول الحوادث فيه وان كان قد خلا منها فى الأزل وهذا نظير قول اصحاب الهيولى إن الهيولى كانت فى الازل جوهرا خاليا من الاعراض ثم حدثت الاعراض فيها وهى لا تخلو منها فى المستقبل.
واختلفت الكرامية فى جواز العدم على أجسام العالم فأحال ذلك اكثرهم وضاهوا بذلك من زعم من الدهرية والفلاسفة أن الفلك والكواكب طبيعة خامسة لا تقبل الفساد والفناء.
وكان الناس يتعجبون من قول المعتزلة البصرية إن الله تعالى يقدر على افناء الاجسام كلها دفعة واحدة ولا يقدر على افناء بعضها مع بقاء بعض منها وزال هذا التعجب بقول من زعم من الكرامية انه لا يقدر على إعدام جسم بحال.
وأعجب من هذا كله أن ابن كرام وصف معبوده بالثقل وذلك انه قال فى كتاب عذاب القبر فى تفسير قول الله عز وجل : إذا السماء انفطرت ، انها انفطرت من ثقل الرحمن عليها.
ثم إن ابن كرام واكثر أتباعه زعموا ان الله تعالى لم يزل موصوفا باسمائه المشتقة من افعاله عند أهل اللغة مع استحالة وجود الافعال فى الازل فزعموا أنه لم يزل خالقا رازقا منعما من غير وجود خلق ورزق ونعمة منه وزعموا أنه لم يزل خالقا بخالقية فيه ورازقا برازقية فيه وقالوا ان خالقيته قدرته على الخلق ورازقيته قدرته على الرزق والقدرة قديمة والخلق والرزق حادثان فيه بقدرته وقالوا بالخلق يصير المخلوق من العالم مخلوقا وبذلك الرزق الحادث فيه يصير المرزوق مرزوقا.
وأعجب من هذا فرقهم بين المتكلم والقائل وبين الكلام والقول وذلك أنهم قالوا ان الله تعالى لم يزل متكلما قائلا ثم فرقوا بين الاسمين فى المعنى فقالوا انه لم يزل متكلما بكلام هو قدرته على القول ولم يزل قائلا بقائلية لا يقول والقائلية قدرته على القول وقوله حروف حادثة فيه فقول الله تعالى عندهم حادث فيه وكلامه قديم.
قال عبد القاهر ناظرت بعضهم فى هذه المسألة فقلت له اذا زعمت ان الكلام هو القدرة على القول والساكت عندك قادر على القول فى حال سكوته لزمك على هذا القول ان يكون الساكت متكلما فالتزم ذلك.
ومن تدقيق الكرامية فى هذا الباب قولهم انا نقول ان الله تعالى لم يزل خالقا رازقا على الاطلاق ولا نقول بالاضافة ان لم يزل خالقا للمخلوقين ورازقا للمرزوقين وانما نذكر هذه الاضافة عند وجود المخلوقين والمرزوقين.
وقالوا على هذا القياس ان الله تعالى لم يزل معبودا ولم يكن فى الازل معبود العابدين وانما صار معبود العابدين عند وجود العابدين ووجود عبادتهم له.
ثم ان ابن كرام ذكر فى كتابه المعروف بعذاب القبر بابا له ترجمة عجيبة فقال باب فى كيفوفية الله عز وجل ولا يدري العاقل مماذا يتعجب أعن جسارته على اطلاق لفظ الكيفية فى صفات الله تعالى ام من قبح عبارته عن الكيفية بالكيفوفية وله من جنس هذه العبارة أشكال.
منها قوله فى باب الرد على أصحاب الحديث فى الايمان فان قالوا صحوفيتهم الايمان قول وعمل قيل لهم كذا.
وكذا وقد عبر عن مكان معبوده فى بعض كتبه بالحيثوثية وهذه العبارات السخيفة لائقة بمذهبه السخيف.
ثم انه مع أصحابه تكلموا فى مقدورات الله تعالى فزعموا انه لا يقدر الا على الحوادث التي تحدث فى ذاته من ارادته وأقواله وادراكاته وملاقاته لما يلاقيه فاما المخلوقات من اجسام العالم وأعراضها فليس شىء منها مقدورا لله تعالى ولم يكن الله تعالى قادرا على شىء منها مع كونها مخلوقة وانما خلق كل مخلوق من العالم بقوله كن لا بقدرته.
وهذه بدعة لم يسبقوا اليها لان الناس قبلهم اختلفوا فى مقدورات الله تعالى على مذاهب أهل السنة والجماعة كل مخلوق كان مقدورا لله تعالى قبل حدوثه وهو محدث جميع الحوادث بقدرته وزعم معمر أن الاجسام كلها كانت مقدورة له قبل أن خلقها وليست الاعراض مخلوقة له ولا مقدورة له وقال اكثر المعتزلة ان الاجسام والالوان والطعوم والروائح وسائر أجناس الاعراض كانت مقدورة لله تعالى وانما امتنعوا من وصفه بالقدرة على مقدورت غيره وقالت الجهمية الحوادث كلها مقدورة لله تعالى ولا قادر ولا فاعل غيره وما قال أحد قبل الكرامية باختصاص قدرة الاله بحوادث تحدث فى ذاته بزعمهم تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
ثم انهم تكلموا فى باب التعديل والتحوير بعجائب.
منها قولهم يجب ان يكون اول شىء خلقه الله تعالى جسما حيا يصح منه الاعتبار وزعموا أنه لو بدأ بخلق الجمادات لم يكن حكيما وزادوا فى هذه البدعة على القدرية فى قولها لا بد من أن يكون فى الخلق من يصح منه الاعتبار وليس بواجب أن يكون اول الخلق حيا يصح منه الاعتبار.
وقد ردوا ببدعتهم هذه الاخبار الصحيحة فى أن أول شىء خلقه تعالى اللوح والقلم ثم أجرى القلم على اللوح بما هو كائن الى يوم القيامة.
وقالوا لو خلق الله تعالى الخلق وكان فى معلومه انه لا يؤمن به احد منهم لكان خلقه إياهم عبثا وانما حسن منه خلق جميعهم لعلمه بأيمان بعضهم.
وقال أهل السنة لو خلق الكفرة دون المؤمنين او خلق المؤمنين دون الكفرة جاز ولم يقدح ذلك فى حكمته.
وزعمت الكرامية أنه لا يجوز فى حكمة الله تعالى احترام الطفل الذى يعلم أنه إن ابقاه الى زمان بلوغه آمن ولا احترام الكافر الذى لو ابقاه الى مدة آمن إلا أن يكون فى احترامه إياه قبل وقت ايمانه صلاح لغيره.
ويلزمهم على هذا القول ان يكون الله تعالى انما احترام إبراهيم بن النبى قبل بلوغه لانه علم انه لو أبقاه لم يؤمن وفى هذا قدح منهم فى كل من مات من ذرارى الانبياء طفلا.
ومن جهالاتهم فى باب النبوة والرسالة قولهم بأن النبوة والرسالة صفتان حالتان فى النبى والرسول سوى الوحى اليه وسوى معجزاته وسوى عصمته عن المعصية وزعموا أن من فعل فيه تلك الصفة وجب على الله تعالى إرساله وفرقوا بين الرسول والمرسل بان الرسول من قامت به تلك الصفة والمرسل هو المأمور باداء الرسالة.
ثم انهم خاضوا فى باب عصمة الانبياء عليهم السلام فقالوا كل ذنب اسقط العدالة أو أوجب حدا منهم معصومون منه غير معصومين مما دون ذلك وقال بعضهم لا يجوز الخطأ عليهم فى التبليغ وأجاز ذلك بعضهم وزعم أن النبى عليه السلام أخطأ فى تبليغ قوله ز ومناة الثالثة الأخرى ، حتى قال بعده : تلك الغرانيق العلى [وإن] شفاعتها ترتجى .
وقال اهل السنة ان تلك الكلمة كانت من تلاوة الشيطان القاها فى خلال تلاوة النبى وقد قال شيخنا ابو الحسن الأشعرى فى بعض كتبه إن الانبياء بعد النبوة معصومون من الكبائر والصغائر.
وزعمت الكرامية ايضا أن النبى اذا ظهرت دعوته فمن سمعها منه او بلغه خبره لزمه تصديقه والاقرار به من غير توقف على معرفة دليله وقد سرقوا هذه البدعة من أباضية الخوارج الذين قالوا ان قول النبى عليه السلام انا نبي فنفسه حجة لا يحتاج معها الى برهان.
وزعمت الكرامية أيضا أن من لم تبلغه دعوة الرسل لزمه أن يعتقد موجبات العقول وأن يعتقد أن الله تعالى أرسل رسلا الى خلقه.
وقد سبقهم اكثر القدرية الى القول بوجوب اعتقاد موجبات العقول ولم يقل احد قبلهم بوجوب اعتقاد وجود الرسل قبل ورود الخبر عنهم بوجودهم.
وزعمت الكرامية ايضا ان الله تعالى لو اقتصر على رسول واحد من أول زمان التكليف الى القيامة وأدام شريعة الرسول الاول لم يكن حكيما.
وقال اهل السنة لو فعل ذلك جاز لما قد جاز منه لامة شريعة خاتم النبيين الى القيامة.
ثم ان ابن كرام خاض فى باب الامامة فأجاز كون امامين فى وقت واحد مع وقوع الجدال وتعاطى القتال ومع الاختلاف فى الاحكام واشار فى بعض كتبه الى أن عليا ومعاوية كانا إمامين فى وقت واحد ووجب على أتباع كل واحد منهما طاعة صاحبه وإن كان احدهما عادلا والآخر باغيا وقال أتباعه إن عليا كان إماما على وفق السنة وكان معاوية إماما على خلاف السنة وكانت طاعة كل واحد منهما واجبة على أتباعه فيا عجبا من طاعة واجبة [على] خلاف السنة.
ثم إن الكرامية خاضوا فى باب الايمان فزعموا انه إقرار فرد على الابتداء وان تكريره لا يكون إيمانا الا من المرتد اذا أقر به بقدرته وزعموا ايضا انه هو الاقرار السابق في الذر الاول فى طلب النبى عليه السلام وهو قولهم بلى وزعموا ان ذلك القول باق ابدا لا يدون الا بالردة وزعموا ايضا ان المقر بالشهادتين مؤمن حقا وان اعتقد الكفر بالرسالة وزعموا ايضا أن المنافقين الذين انزل الله تعالى فى تكفيرهم آيات كثيرة كانوا مؤمنين حقا وأن ايمانهم كان كايمان الانبياء والملائكة وقالوا فى اهل الاهواء من مخالفيهم ومخالفى أهل السنة أن عذابهم فى الآخرة غير مؤبد واهل الاهواء يرون خلود الكرامية فى النار.
ثم ان ابن كرام ابدع فى الفقه حماقات لم يسبق اليها.
منها قوله فى صلاة المسافر ان يكفيه تكبيرتان من غير ركوع ولا سجود ولا قيام ولا قعود ولا تشهد ولا سلام.
ومنها قوله بصحبة الصلاة فى ثوب كله نجس وعلى ارض نجسة ومع نجاسة ظاهر البدن وانما أوجب الطهارة عن الأحداث دون الانجاس ومنها قوله بأن غسل الميت والصلاة عليه سنتان غير مفروضتين وإنما الواجب كفنه ودفنه.
ومنها قوله بصحة الصلاة المفروضة والصوم المفروض والحج المفروض بلانية وزعم ان نية الاسلام فى الابتداء كافية عن نية كل فريضة من فرائض الاسلام.
وكان فى عصرنا شيخ للكرامية يعرف بابراهيم بن مهاجر اخترع ضلالة لم يسبق اليها فزعم ان اسماء الله عز وجل كلها اعراض فيه وكذلك اسم كل مسمى عرض فيه فزعم ان الله تعالى عرض حال فى جسم قديم والرحمن عرض آخر والرحيم عرض ثالث والخالق عرض رابع وكذلك كل اسم لله تعالى عرض غير الآخر فالله تعالى عنده غير الرحمن والرحمن غير الرحيم والخالق غير الرازق وزعم ايضا ان الزانى عرض فى الجسم الذى يضاف اليه الزنى والسارق عرض في الذى يضاف اليه السرقة وليس الجسم زانيا ولا سارقا فالمجلود والمقطوع عنده غير الزانى والسارق وزعم ايضا أن الحركة والمتحرك عرضان في الجسم وكذلك السواد والاسود عرضان في الجسم وكذلك العلم والعالم والقدرة والقادر والحى والحياة كل ذلك أعراض غير الاجسام فالعلم عنده لا يقوم بالعالم وانما يقوم بمحل العالم والحركة لا تقوم بالمتحرك وانما تقوم بمحل المتحرك.
قال عبد القاهر ناظرت ابن مهاجر هذا في مجلس ناصر الدولة أبى الحسن محمد بن 4 ابراهيم بن سيمجور صاحب جيش السامانية في سنة سبعين وثلثمائة في هذه المسألة الزمته فيها ان يكون المحدود في الزنى غير الزانى والمقطوع في السرقة غير السارق فالتزم ذلك فالزمته أن يكون معبوده عرضا لان المعبود عنده اسم واسماء الله تعالى عنده أعراض حالة في جسم قديم فقال المعبود عرض في جسم القديم وأنا اعبد الجسم دون العرض فقلت له أنت اذن لا تعبد الله عز وجل لان الله تعالى عندك عرض وقد زعمت أنك تعبد الجسم دن العرض.
وفضائح الكرامية على الاعداد كثيرة الامداد وفيما ذكرنا منها في هذا الفصل كفاية والله اعلم