الفصل السابع عشر من فصول هذا الباب فى ذكر الباطنية وبيان خروجهم عن جميع فرق الاسلام
 
اعلموا اسعدكم الله ضرر الباطنية على فرق المسلمين اعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوز عليهم بل اعظم من مضرة الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم بل اعظم من ضرر الدجال الذى يظهر في آخر الزمان لأن الذين ضلوا عن الدين بدعوة الباطنية من وقت ظهور دعوتهم الى يومنا اكثر من الذين يضلون بالدجال فى وقت ظهوره لان فتنة الدجال لا تزيد مدتها على اربعين يوما وفضائح الباطنية اكثر من عدد الرمل والقطر.
وقد حكى أصحاب المقالات أن الذين أسسوا دعوة الباطنية جماعة منهم ميمون بن ديصان المعروف بالقداح وكان مولى لجعفر بن محمد الصادق وكان من الاهواز ومنهم محمد بن الحسين الملقب بذيذان وميمون بن ديصان فى سجن والى العراق اسسوا فى ذلك السجن مذاهب الباطنية ثم ظهرت دعوتهم بعد خلاصهم من السجن من جهة المعروف بذيذان وابتدأ بالدعوة من ناحية فدخل فى دينه جماعة من اكراد الجيل مع اهل الجبل المعروف بالبدين ثم رحل ميمون بن ديصان الى ناحية المغرب وانتسب فى تلك الناحية الى عقيل بن ابى طالب وزعم انه من نسله فلما دخل فى دعوته قوم من غلاة الرفض والحلولية منهم ادعى انه من ولد محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق فقيل الاغبياء ذلك منه على أصحاب الانتساب بان محمد بن اسماعيل بن جعفر مات ولم يعقب عند علماء الأنساب.
ثم ظهر فى دعوته الى دين الباطنية رجل يقال له حمدان قرمط لقب بذلك لقرمطه فى خطه او فى خطوه وكان فى ابتداء أمره اكارا من اكرة سواد الكوفة واليه تنسب القرامطة.
ثم ظهر بعده فى الدعوة الى البدعة ابو سعيد الجنابى وكان من مستجيبة حمدان وتغلب على ناحية البحرين ودخل فى دعوته بنو سنير.
ثم لما تمادت الايام بهم ظهر المعروف منهم بسعيد بن الحسين ابن احمد بن عبد الله بن ميمون بن ديصان القداح فغير اسم نفسه ونسبه وقال لاتباعه أنا عبيد الله بن الحسن بن محمد بن اسماعيل ابن جعفر الصادق ثم ظهرت فتنته بالمغرب واولاده اليوم مستولون على أعمال مصر.
وظهر منهم المعروف بابن كرويه بن مهرويه الدندانى وكان من تلامذة حمدان قرمط وظهر مأمون اخو حمدان قرمط بارض فارس وقرامطة فارس يقال لهم المأمونية لاجل ذلك.
ودخل أرض الديلم رجل من الباطنية يعرف بابى حاتم فاستجاب له جماعة من الديلم منهم أسفار بن شرويه.
وظهر بنيسابور داعية لهم يعرف بالشعرانى فقتل بها فى ولاية أبى بكر بن محتاج عليها وكان الشعرانى قد دعا الحسين بن على المروردى قام بدعوته بعده محمد بن احمد النسفى داعية أهل ما وراء النهر وابو يعقوب السجزلى المعروف ببندانه وصنف النسفى لهم كتاب المحصول وصنف لهم ابو يعقوب كتاب اساس الدعوة وكتاب تأويل الشرائع وكتاب كشف الاسرار وقتل النسفى والمعروف ببندانه على ضلالتهما.
وذكر أصحاب التواريخ أن دعوة الباطنية ظهرت أولا فى زمان المأمون وانتشرت فى زمان المعتصم وذكروا انه دخل فى دعوتهم الافشين صاحب جيش المعتصم وكان مراهنا لبابك الخرمى وكان الخرمى مستعصيا بناحية البدين وكان أهل جبله خرمية على طريقة المزدكية فصارت الخرمية مع الباطنية يدا واحدة واجتمع مع بابك من أهل البدين وممن انضم اليهم من الديلم مقدار ثلثمائة الف رجل وأخرج الخليفة لقتالهم الافشين فظنه ناصحا للمسلمين وكان فى سره مع بابك وتوانى فى القتال معه ودله على عورات عساكر المسلمين وقتل الكثير منهم ثم لحقت الأمداد بالافشين ولحق به محمد بن يوسف الثغرى وابو دلف القسم بن عيسى العجلى ولحق به بعد ذلك قواد عبد الله ابن طاهر واشتدت شوكة البابكية والقرامطة على عسكر المسلمين حتى بنوا لانفسهم البلدة المعروفة ببيرزند خوفا من بيان البابكية ودامت الحرب بين الفريقين سنين كثيرة الى ان أظفر الله المسلمين بالبابكية فأسر بابك وصلب بسر من رأى سنة ثلاث وعشرين ومائتين ثم اخذ أخوه اسحاق وصلب ببغداد مع المازيار صاحب المحمرة بطبرستان وجرجان ولما قتل بابك ظهر للخليفة غدر الافشين وخيانته للمسلمين فى حروبه مع بابك فامر بقتله وصلبه فصلب لذلك.
وذكر اصحاب التواريخ ان الذين وضعوا اساس دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس وكانوا مائلين الى دين اسلافهم ولم يجسروا على إظهاره خوفا من سيوف المسلمين فوضع الأغمال منهم اساسا من قبلها منهم صار فى الباطن الى تفصيل اديان المجوس وتأولوا آيات القرآن وسنن النبى عليه السلام على موافقة اساسهم وبيان ذلك ان الثنوية زعمت ان النور والظلمة صانعان قديمان والنور منهما فاعل الخيرات والمنافع والظلام فاعل الشرور والمضار وان الاجسام ممتزجة من النور والظلمة وكل واحد منهما مشتمل على اربع طبائع وهى الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والاصلان الاولان مع الطبائع الاربع مدبرات هذا العالم وشاركهم المجوس في اعتقاد صانعين غير أنهم زعموا ان أحد الصانعين قديم وهو الاله الفاعل للخيرات والآخر شيطان محدث فاعل للشرور وذكر زعماء الباطنية فى كتبهم ان الاله خلق النفس فالاله هو الاول والنفس هو الثانى وهما مدبرا هذا العالم وسموهما الاول والثانى وربما سموهما العقل والنفس ثم قالوا انهما يدبران هذا العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الاول وقولهم ان الاول والثانى يدبران العالم هو بعينه قول المجوس باضافة الحوادث صانعين احدهما قديم والآخر محدث الا أن الباطنية عبرت عن الصانعين بالاول والثانى وعبر المجوس عنهما بيزدان وأهر من فهذا هو الذى يدور في قلوب الباطنية ووضعوا اساسا يؤدى اليه.
ولم يمكنهم إظهار عبادة الثيران فاحتالوا بأن قالوا للمسلمين ينبغى ان تجمر المساجد كلها وأن تكون فى كل مسجد مجمرة يوضع عليها الند والعود فى كل حال وكانت البرامكة قد زينوا للرشيد أن يتخذ فى جوف الكعبة مجمرة يتبخر عليها العود أبدا فعلم الرشيد أنهم أرادوا من ذلك عبادة النار فى الكعبة وأن تصير الكعبة بيت نار فكان ذلك أحد أسباب قبض الرشيد على البرامكة.
ثم ان الباطنية لما تأولت اصول الدين على الشرك احتالت ايضا لتأويل أحكام الشريعة على وجوه تؤدى الى رفع الشريعة أو الى مثل أحكام المجوس والذى يدل على ان هذا مرادهم بتأويل الشريعة أنهم قد اباحوا لاتباعهم نكاح البنات والاخوات وأباحوا شرب الخمر وجميع اللذات.
ويؤكد ذلك ان الغلام الذى ظهر منهم بالبحر بن والاحساء بعد سليمان بن الحسين القرمطى سن لأتباعه اللواط وأوجب قتل الغلام الذى يمتنع على من يريد الفجور به وأمر بقطع يد من اطفأ نارا بيده وبقطع لسان من اطفأها بنفخة وهذا الغلام هو المعروف بابن أبى زكريا الطامى وكان ظهوره فى سنة تسع عشرة وثلثمائة وطالت فتنته الى أن سلط الله تعالى عليه من ذبحه على فراشه.
ويؤكد ما قلناه من ميل الباطنية الى دين المجوس أنا لا نجد على ظهر الارض مجوسيا إلا وهو مواد لهم منتظر لظهورهم على الديار يظنون أن الملك يعود اليهم بذلك وربما استدل أغمارهم على ذلك بما يرويه المجوس عن زرادشت أنه قال لكتتاسب ان الملك يزول عن الفرس الى الروم واليونانية ثم يعود الى الفرس ثم يزول عن الفرس الى العرب ثم يعود الى الفرس وساعده جاماسب المنجم على ذلك وزعم ان الملك يعود الى العجم لتمام الف وخمسمائة سنة من وقت ظهور زرادشت.
وكان فى الباطنية رجل يعرف بأبى عبد الله العردى يدعى علم النحوم ويتعصب للمجوس وصنف كتابا وذكر فيه ان القرن الثامن عشر من مولد محمد يوافق الالف العاشر وهو نوبة المشترى والقوس وقال عند ذلك يخرج انسان يعيد الدولة المجوسية ويستولى على الارض كلها وزعم انه يملك مدة سبع قرانات وقالوا قد تحقق حكم زرادشت وجاماسب فى زوال ملك العجم الى الروم واليونانية فى ايام الاسكندر ثم عاد الى العجم بعد ثلثمائة سنة ثم زال بعد ذلك ملك العجم الى العرب وسيعود الى العجم لتمام المدة التى ذكرها جاما سب وقد وافق الوقت الذى ذكروه ايام المكتفى والمقتدر وأخلف موعدهم وما رجع الملك فيه الى المجوس وكانت القرامطة قبل هذا الميقات يتواعدون فيما بينهم ظهور المنتظر فى القران السابع فى المثلثة النارية.
وخرج منهم سليمان بن الحسين من الاحياء على هذه الدعوى وتعرض للحجيج وأسرف فى القتل منهم ثم دخل مكة وقتل من كان فى الطواف وأغار على استار الكعبة وطرح القتلى فى بئر زمزم وكسر عساكر كثيرة من عساكر المسلمين وانهزم فى بعض حروبه الى هجر فكتب للمسلمين قصيدته يقول فيها:
أغركم منى رجوعى الى هجر عما قليل سوف يأتيكم الخبر
اذا طلع المريخ فى ارض بابل وقارنه النجمات فالحذر الحذر
ألست أنا المذكور فى الكتب كلها ألست أنا المبعوث فى سورة الزمر
سأملك أهل الأرض شرقا ومغربا الى قيروان الروم والترك والخزر
واراد بالنجمين زحل والمشترى وقد وجد هذا القران فى سنى ظهوره ولم يملك من الارض شيئا غير بلدته التى خرج منها وطمع فى ان يملك سبع قرانات وما ملك سبع سنين بل قتل بهيت رمته امرأة من سطحها بلبنة على رأسه فدمغته وقتيل النساء أخس قتيل واهون فقيد.
وفى آخر سنة ألف ومائتين واربعين للاسكندر تم من تاريخ زرادشت ألف وخمسائة سنة وما عاد فيها ملك الارض الى المجوس بل اتسع بعدها نطاق الاسلام فى الأرض وفتح الله تعالى للمسلمين بعدها بلاد بلا ساعون وارض التيب واكثر نواحى الصين ثم فتح لهم بعدها جميع ارض الهند من لمفات الى قنوح وصارت أرض الهند الى سيتر سيقا بحرها من رقعة الاسلام فى أيام أمين الدولة أمين الملة محمود بن سبكتين رحمه الله وفى هذا زعم انوف الباطنية والمجوس الجاماسبية الذين حكموا بعود الملك اليهم فذاقوا وبال أمرهم وكان عاقبة امانيهم بوارا لهم بحمد الله ومنه.
ثم ان الباطنية خرج منهم عبيد الله بن الحسن بناحية القيروان وخدع قوما من كتامه وقوما من المصامدة وشرذمة من أغنام بربر بحبل ونيرنجات آظهرها لهم كروية الخيالات بالليل من خلف الرداء والازار وظن الاغمار أنها معجزة له فتبعوه لاجلها على بدعته فاستولى بهم على بلاد المغرب ثم خرج المعروف منهم بابى سعيد الحسين بن بهرام على أهل الاحساء والقطيف والبحرين فأتى باتباعه على اعدائه وسبى نساءهم وذراريهم واحرق المصاحف والمساجد ثم استولى على هجر وقتل رجالها واستعبد ذراريهم ونساءهم ثم ظهر المعروف منهم بالصناديقى باليمن وقتل الكثير من اهلها حتى قتل الاطفال والنساء وانضم اليه المعروف منهم بابن الفضل فى اتباعه ثم ان الله تعالى سلط عليهما وعلى اتباعهما الاكلة والطاعون فماتوا بهما.
ثم خرج بالشام حفيد لميمون بن ديصان يقال له ابو القاسم بن مهرويه وقالا لمن تبعهما هذا وقت ملكنا وكان ذلك سنة تسع وثمانين ومائتين فقصدهم سبك صاحب المعتضد فقتلوا سبكا فى الحرب ودخلوا مدينة الرصافة واحرقوا مسجدها الجامع وقصدوا بعد ذلك دمشق فاستقبلهم الحمامى غلام بن طيون وهزمهم الى الرقة فخرج اليهم محمد بن سليمان كاتب المكتفى فى جند من اجناد المكتفى فهزمهم وقتل منهم الالوف فانهزم الحسن بن زكريا بن مهرويه الى الرملة فقبض عليه والى الرملة فبعث به وبجماعة من اتباعه الى المكتفى فقتلهم ببغداد فى الشارع باشد عذاب.
ثم انقطعت بقتلهم شوكة القرامطة الى سنة عشر وثلثمائة.
وظهر بعدها فتنة سليمان بن الحسن فى سنة احدى عشرة وثلثمائة فانه كبس فيها البصرة وقتل اميرها سبكا المقلجى ونقل اموال البصرة الى البحرين.
وفى سنة اثنتى عشرة وثلثمائة وقع على الحجيج فى المتهيبر لعشر بقين من المحرم وقتل اكثر الحجيج وسبى الحرم والذرارى ثم دخل الكوفة فى سنة ثلاث عشرة وثلثمائة فقتل الناس وانتهب الاموال.
وفى سنة خمس عشرة وثلثمائة حارب ابن أبى الساج وأسره وهزم أصحابه.
وفى سنة سبع عشرة وثلثمائة دخل مكة وقتل من وجده فى الطواف وقيل انه قتل بها ثلاثة آلاف وأخرج منها سبعمائة بكر واقتلع الحجر الاسود وحمله الى البحرين ثم ردفها الى الكوفة ورد بعد ذلك من الكوفة الى مكة على يد ابى إسحاق إبراهيم بن محمد ابن يحيى مزكي نيسابور فى سنة تسع وعشرين وثلثمائة.
وقصد سليمان ابن الحسن بغداد فى سنة ثمانى عشرة وثلثمائة فلما ورد هيت رمته امرأة من سطحها بلبنة فقتلته وانقطعت بعد ذلك شوكة القرامطة وصاروا بعد قتل سليمان بن الحسن مبدرقين للحجيج من الكوفة والبصرة الى مكة فحضاة ومال مضمون لهم إلى ان غلبهم الأصغر العقيلى على بعض ديارهم.
وكانت ولاية مصر واعمالها للاخشادية وانضم بعضهم الى ابن عبيد الله الباطنى الذى كان قد استولى على قيروان ودخلوا مصر فى سنة ثلاث وستين وثلثمائة وابتنوا بها مدينة سموها القاهرة يسكنها اهل بدعته واهل مصر ثابتون على السنة الى يومنا وان اطاعوا صاحب القاهرة فى اداء خراجهم اليه.
وكان ابو شجاع فناخسرو بن بويه قد تأهب لقصد مصر وانتزاعها من ايدي الباطنية وكتب على اعلامه بالسواد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين الطائع لله أمير المؤمنين ادخلوا مصر ان شاء الله آمنين وقال قصيدة أولها:
أما ترى الاقدار لى طوائعا قواضيا لى بالعيان كالخبر
ويشهد الانام لى بأنى ذاك الذى يرجى وذاك المنتظر
لنصرة الاسلام والداعي الى خليفة الله الإمام المفتخر
فلما خرج مضاربه للخروج الى مصر غامضه الاجل فمضى لسبيله فلما قضى فناخسرو نحبه طمع زعيم مصر فى ملوك نواحى الشرق فكاتبهم يدعوهم الى البيعة له فاجاب قابوس بن وشمكين عن كتابه بقوله انى لا اذكرك الا على المستراح وأجابه ناصر الدولة ابو الحسن محمد بن ابراهيم بن سيمجور بان كتب على ظهر كتابه اليه : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ، الى آخر السورة وأجابه نوح بن منصور والى خراسان بقتل دعاته الى بدعته ودخل فى دعوته بعض ولاة الجرجانية من ارض خوارزم فكان دخوله فى دينه شؤما عليه فى ذهاب ملكه وقتله اصحابه ثم استولى يمين الدولة وامين الملة محمود بن سبكتكين على ارضهم وقتل من كان بها من دعاة الباطنية وكان ابو على بن سيمجور قد وافقهم فى السر فذاق وبال امره في ذلك وقبض عليه والى خراسان نوح بن منصور وبعث به الى سبكتكين فقتل بناحية غزنه.
وكان ابو القسم الحسن بن على الملقب بد الشمند داعية ابى على بن سيمجور الى مذهب الباطنية وظفر به بكفوزن صاحاحب جيش السامانية بنيسابور فقتله ودفن فى مكان لا يعرف.
وكان اميرك الطوسى والى ناحية ثارويه قد دخل فى دعوة الباطنية فأسر وحمل الى غزته وقتل بها فى الليلة التى قتل فيها ابو على بن سيمجور.
وكان اهل مولتان من ارض الهند داخلين فى دعوة الباطنية فقصدهم محمود رحمه الله فى عسكره وقتل منهم الالوف وقطع ايدى ألف منهم وباد بذلك نصراء الباطنية من تلك الباطنية ومن هذا بيان شؤم الباطنية على منتحليها فليعتبر بذلك المعتبرون.
وقد اختلف المتكلمون فى بيان اغراض الباطنية فى دعوتها الى بدعتها.
فذهب اكثرهم الى ان غرض الباطنية الدعوة الى دين المجوس بالتأويلات التى يتأولون عليها القرآن والسنة واستدلوا على ذلك بان زعيمهم الاول ميمون بن ديصان كان مجوسيا من سبى الاهواز ودعا ابنه عبد الله بن ميمون الناس الى دين ابيه واستدلوا ايضا بان داعيهم المعروف بالبزدي قال فى كتابه المعروف بالمحصول ان المبدع الأول أبدع النفس ثم إن الأول والثانى مدبر العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأربع وهذا فى التحقيق معنى قول المجوس ان أليزدان خلق اهرمن وانه مع اهرمن مدبران للعالم غير ان أليزدان فاعل الخيرات واهرمن فاعل الشرور.
ومنهم من نسب الباطنية الى الصابئين الذين هم بحران واستدل على ذلك بان حمدان قرمط داعية الباطنية بعد ميمون بن ديصان كان من الصابئة الحرانية واستدل ايضا بان صابئة حران يكتمون اديانهم ولا يظهرونها إلا لمن كان منهم والباطنية ايضا لا يظهرون دينهم الا لمن كان منهم بعد احلافهم اياه على ان لا يذكر اسرارهم لغيرهم.
قال عبد القاهر الذى يصح عندي من دين الباطنية انهم دهرية زنادقة يقولون بقدم العالم وينكرون الرسل والشرائع كلها لميلها الى استباحة كل ما يميل اليه الطبع.
والدليل على انهم كما ذكرناه ما قرأته في كتابهم المترجم بالسياسة والبلاغ الاكيد والناموس الاعظم وهي رسالة عبيد الله بن الحسن القيرواني الى سليمان بن الحسن بن سعيد الجناني اوصاه فيها بان قال له ادع الناس بان تتقرب اليهم بما يميلون اليه وأوهم كل واحد منهم بأنك منهم فمن انست منه رشدا فاكشف له الغطاء واذا ظفرت بالفلسفي فاحتفظ به فعلى الفلاسفة معولنا وانا وإياهم مجمعون على ان نواميس الانبياء وعلى القول بقدم العالم لو ماما يخالفنا فيه بعضهم من ان للعالم مدبرا لا يعرفه.
وذكر فى هذا الكتاب إبطال القول بالمعاد والعقاب وذكر فيها ان الجنة نعيم الدنيا وان العذاب انما هو اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والحج والجهاد.
وقال ايضا فى هذه الرسالة إن اهل الشرائع يعبدون إلها لا يعرفونه ولا يحصلون منه إلا على اسم بلا جسم.
وقال فيها ايضا اكرم الدهرية فانهم منا ونحن منهم وفى هذا تحقيق نسبة الباطنية الى الدهرية والذى يؤكد هذا ان المجوس يدعون نبوة زرادشت ونزول الوحي عليه من الله تعالى والصائبين يدعون نبوة هرمس وواليس ودوروتيوس وافلاطن وجماعة من الفلاسفة وسائر اصحاب الشرائع كل صنف منهم مقرون بنزول الوحي من السماء على الذين اقروا بنبوتهم ويقولون ان ذلك الوحى شامل للامر والنهى والخبر عن عاقبة بعد الموت وعن ثواب وعقاب وجنه ونار يكون فيها الجزاء عن الاعمال السالفة والباطنية يرفضون المعجزات وينكرون نزول الملائكة من السماء بالوحى والامر والنهى بل ينكرون ان يكون فى السماء ملك وانما يتأولون الملائكة على دعائهم الى بدعتهم ويتأولون الشياطين على مخالفيهم والابالسة على مخالفيهم.
ويزعمون ان الانبياء قوم أحبوا الزعامة فساسوا العامة بالنواميس والحيل طلبا للزعامة بدعوى النبوة والامامة وكل واحد منهم صاحب دور مسبع اذا انقضى دوره سبعة تبعهم فى دور آخر واذا ذكروا النبى والوحى قالوا ان النبى هو الناطق والوحى اساسه الفاتق والى الفاتق تأويل نطق الناطق على ما تراه يميل اليه هواه فمن صار الى تأويله الباطن فهو من الملائكة البرره ومن عمل بالظاهر فهو من الشياطين الكفرة.
ثم تأولوا لكل ركن من اركان الشريعة تأويلا يورث تضليلا فزعموا ان معنى الصلاة موالاة امامهم والحج زيارته وادمان خدمته والمراد بالصوم الامساك عن افشاء سر الامام دون الامساك عن الطعام والزنى عندهم افشاء سرهم بغير عهد وميثاق.
وزعموا ان من عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها وتأولوا فى ذلك قوله: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ، وحملوا اليقين على معرفة التأويل.
وقد قال القيروانى في رسالته الى سليمان بن الحسن انى اوصيك بتشكيك الناس فى القرآن والتوراة والزبور والانجيل وبدعوتهم الى ابطال الشرائع والى ابطال المعاد والنشور من القبور وابطال الملائكة فى السماء وابطال الجن فى الارض واوصيك بان تدعوهم الى القول بانه قد كان قبل آدم بشر كثير فان ذلك عون لك على القول بقدم العالم.
وفى هذا تحقيق دعوانا على الباطنية انهم دهرية يقولون بقدم العالم ويجحدون الصانع ويدل على دعوانا عليهم القول بابطال الشرائع ان القيروانى قال أيضا فى رسالته الى سليمان بن الحسن وينبغى ان تحيط علما بمخاريق الانبياء ومناقضاتهم فى اقوالهم كعيسى بن مريم قال لليهود لا ارفع شريعة موسى ثم رفعها بتحريم الاحد بدلا من السبت واباح العمل فى السبت وابدل قبلة موسى بخلاف جهتها ولهذا قتلته البلاد لما اختلفت كلمته.
ثم قال له ولا تكن كصاحب الامة المنكوسة حين سألوه عن الروح فقال الروح من امر ربى لما لم يحضره جواب المسألة ولا تكن كموسى فى دعواه التى لم يكن له عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعبذة ولما لم يجد المحق فى زمانه عنده برهانا قال له لئن اتخذت إلها غيرى وقال لقومه انا ربكم الاعلى لانه كان صاحب الزمان فى وقته.
ثم قال فى آخر رسالته وما العجب من شىء كالعجب من رجل يدعى العقل ثم يكون له اخت او بنت حسناء وليست له زوجة فى حسنها فيحرمها على نفسه وينكحها من اجنبى ولو عقل الجاهل لعلم انه أحق باخته وبنته من الاجنبى ما وجه ذلك الا ان صاحبهم حرم عليهم الطيبات وخوفهم بغائب لا يعقل وهو الاله الذى يزعمونه واخبرهم بكون مالا يرونه ابدا من البعث من القبور والحساب والجنة والنار حتى استعبدهم بذلك عاجلا وجعلهم له فى حياته ولذريته بعد وفاته خولا واستباح بذلك بقوله: لا اسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى ، فكان امره معهم نقدا وأمرهم معه نسيئة وقد استعجل منهم بدل ارواحهم واموالهم على انتظار موعد لا يكون وهل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها وهل النار وعذابها إلا ما فيه اصحاب الشرائع من التعب والنصب فى الصلاة والصيام والجهاد والحج.
ثم قال لسليمان بن الحسن فى هذه الرسالة وانت واخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس وفى هذه الدنيا ورثتم نعيمها ولذاتها المحرمة على الجاهلين المتمسكين بشرائع اصحاب النواميس فهنيئا لكم ما نلتم من الراحة عن امرهم.
وفى هذا الذى ذكرناه دلالة على ان غرض الباطنية القول بمذاهب الدهرية واستباحة المحرمات وترك العبادات.