النوع الثاني والثلاثين‏:‏ معرفة غريب الحديث
 
النوع الثاني والثلاثين‏:‏ معرفة غريب الحديث
وهو عبارة عما وقع في متون الأحاديث من الألفاظ الغامضة، البعيدة من الفهم، لقلة استعمالها‏.‏
هذا فن مهم، يقبح جهله بأهل الحديث خاصة، ثم بأهل العلم عامة، والخوض فيه ليس بالهين، والخائض فيه حقيق بالتحري جدير بالتوقي‏.‏
روينا عن‏(‏الميموني‏)‏ قال‏:‏ سئل ‏(‏أحمد بن حنبل‏)‏ عن حرف من غريب الحديث، فقال‏:‏ سلوا أصحاب الغريب، فإني أكره أن أتكلم في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالظن فأخطئ‏.‏
وبلغنا عن التاريخي ‏(‏محمد بن عبد الملك‏)‏ قال‏:‏ حدثني ‏(‏أبو قلابة عبد الملك بن محمد‏)‏ قال‏:‏ قلت ‏(‏للأصمعي‏)‏ يا ‏(‏أبا سعيد‏)‏، ما معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏‏(‏الجار ‏(‏160‏)‏ أحق بسَقبَه‏)‏‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ أنا لا أفسر حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ولكن العرب تزعم أن السقب اللزيق‏.‏
ثم إن غير واحد من العلماء صنفوا في ذلك فأحسنوا‏.‏ وروينا عن ‏(‏الحاكم أبي عبد الله الحافظ‏)‏ قال‏:‏ أول من صنف الغريب في الإسلام ‏(‏النضر بن شميل‏)‏‏.‏ ومنهم من خالفه فقال‏:‏ أول من صنف فيه ‏(‏أبو عبيدة معمر بن المثنى‏)‏‏.‏ وكتاباهما صغيران‏.‏
وصنف بعد ذلك ‏(‏أبو عبيد القاسم بن سلاّم‏)‏ كتابه المشهور، فجمع وأجاد واستقصى، فوقع من أهل العلم بموقع جليل، وصار قدوة في هذا الشأن‏.‏
ثم تتَبع ‏(‏القتيبي‏)‏ ما فات أبا عبيد، فوضع فيه كتابه المشهور‏.‏
ثم تتّبع ‏(‏أبو سليمان الخطابي‏)‏ ما فاتهما، فوضع في ذلك كتابه المشهور‏.‏
فهذه الكتب الثلاثة أمهات الكتب المؤلفة في ذلك‏.‏ ووراءها مجامع تشتمل من ذلك على زوائد وفوائد كثيرة، ولا ينبغي أن يقلد منها إلا ما كان مصنفوها أئمة أجلة‏.‏
وأقوى ما يعتمد عليه في تفسير غريب الحديث‏:‏ أن يظفر به مفسراً في بعض روايات الحديث‏.‏ نحو ما روي في حديث ‏(‏ابن صياد‏)‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له‏:‏ ‏(‏‏(‏قد خبأت لك خبيئاً، فما هو ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏ الدخ‏.‏
فهذا خُفي معناه أعضل، وفسره قوم بما لا يصح‏.‏ وفي معرفة علوم الحديث ‏(‏للحاكم‏)‏ أنه الدَّخ بمعنى الزَّخ الذي هو الجماع، وهذا تخليط فاحش يغيظ العالم والمؤمن‏.‏
وإنما معنى الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له‏:‏ قد أضمرت لك ضميراً، فما هو ‏؟‏ فقال‏:‏ الدُخ، بضم الدال، يعني الدخان، والدخ هو الدخان في لغة، إذ في بعض ‏(‏161‏)‏ روايات الحديث ما نصه‏:‏ ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏إني قد خبأت لك خبيئاً‏)‏ وخبأ له‏:‏ ‏(‏‏(‏يوم تأتي السماء بدخان مبين‏)‏‏)‏‏.‏ فقال ‏(‏ابن صياد‏)‏ هو الدخ‏.‏ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏‏(‏اخسأ، فلن تعدو قدرك‏)‏‏)‏‏.‏ وهذا ثابت صحيح، خرجه ‏(‏الترمذي‏)‏ وغيره‏.‏ فأدرك ‏(‏ابن صياد‏)‏ من ذلك هذه الكلمة، فحسب على عادة الكهان في اختطاف بعض الشيء من الشياطين، من غير وقوف على تمام البيان‏.‏ ولهذا قال له‏:‏ ‏(‏اخسأ، فلن تعدو قدرك‏)‏ أي فلا مزيد لك على قدر إدراك الكهان، والله أعلم‏.‏