النوع الخامس والثلاثون‏:‏ معرفة المصحَّف من أسانيد الأحاديث ومتونها
 

o أقسام التصحيف
 الأول‏:‏ تصحيف البصر
 الثاني‏:‏ تصحيف السمع
1* النوع الخامس والثلاثون‏:‏ معرفة المصحَّف من أسانيد الأحاديث ومتونها
هذا فن جليل، إنما ينهض بأعبائه الحذاق من الحفاظ، والدارقطني منهم، وله فيه تصنيف مفيد‏.‏
‏(‏165‏)‏ وروينا عن ‏(‏أبي عبد الله أحمد بن حنبل‏)‏ رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ومن يعرى من الخطأ والتصحيف ‏؟‏
فمثال التصحيف في الإسناد حديث ‏(‏شعبة‏)‏، عن العوام بن مراجم، عن أبي عثمان النهدي، عن عثمان بن عفان قال‏:‏ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏‏(‏لتؤدُن الحقوق إلى أهلها‏)‏‏)‏ الحديث‏.‏ صحف فيه ‏(‏يحيى بن معين‏)‏ فقال‏:‏ ‏(‏ابن مزاحم‏)‏ بالزاي والحاء، فرد عليه، وإنما هو ‏(‏ابن مراجم‏)‏ بالراء المهملة والجيم‏.‏
ومنه‏:‏ ما رويناه عن ‏(‏أحمد بن حنبل‏)‏ قال‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر قال‏:‏ حدثنا شعبة، عن مالك بن عرفطة، عن عبد خير، عن عائشة‏:‏ رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الدباء والمزفت‏.‏ قال أحمد‏:‏ صحف شعبة فيه، فإنما هو خالد بن علقمة، وقد رواه زائدة بن قدامة وغيره على ما قاله أحمد‏.‏
وبلغنا عن‏(‏الدارقطني‏)‏‏:‏ أن ‏(‏ابن جرير الطبري‏)‏ قال‏:‏ فيمن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني سُليم‏:‏ ومنهم ‏(‏عتبة بن البذر‏)‏، قاله بالباء والذال المعجمة، وروى له حديثاً وإنما هو ‏(‏ابن الندر‏)‏ بالنون والدال غير المعجمة‏.‏
ومثال التصحيف في المتن‏:‏ ما رواه ‏(‏ابن لهيعة‏)‏، عن كتاب موسى بن عقبة إليه، بإسناده عن زيد بن ثابت‏:‏ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم في المسجد، وإنما هو بالراء ‏(‏احتجر في المسجد‏)‏ بخص أو حصير، حجرة يصلي فيها‏.‏ فصحفه ابن لهيعة، لكونه أخذه من كتاب بغير سماع‏.‏ ذكر ذلك ‏(‏مسلم‏)‏ في كتاب ‏(‏التمييز‏)‏ له‏.‏
‏(‏166‏)‏ وبلغنا عن ‏(‏الدارقطني‏)‏ في حديث أبي سفيان عن جابر قال‏:‏ رُمي أبي يوم الأحزاب على أكحله، فكواه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ أن غندراً قال فيه ‏(‏أبي‏)‏ وإنما هو ‏(‏أُبي‏)‏ وهو أبي بن كعب‏.‏
وفي حديث أنس‏:‏ ‏(‏ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة‏)‏‏.‏ قال فيه شعبة ‏(‏ذُرة‏)‏ بالضم والتخفيف، ونسب فيه إلى التصحيف‏.‏
وفي حديث ‏(‏أبي ذر‏)‏‏:‏ ‏(‏تعين الصانع‏)‏‏.‏ قال فيه ‏(‏هشام بن عروة‏)‏‏:‏ بالضاد المعجمة، وهو تصحيف، والصواب ما رواه ‏(‏الزهري‏)‏ ‏(‏الصانع‏)‏ بالصاد المهملة، ضد الأخرق‏.‏
وبلغنا عن ‏(‏أبي زرعة الرازي‏)‏‏:‏ أن ‏(‏يحيى بن سلام‏)‏ - هو المفسر - حدث عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏سأريكم دار الفاسقين‏)‏‏)‏ قال ‏(‏مصر‏)‏‏.‏ واستعظم ‏(‏أبو زرعة‏)‏ هذا واستقبحه، وذكر أنه في تفسير سعيد عن قتادة ‏(‏مصيرهم‏)‏
‏(‏167‏)‏ وبلغنا عن ‏(‏الدارقطني‏)‏‏:‏ أن ‏(‏محمد بن المثنى أبا موسى العنزي‏)‏ حدث بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يأتي أحدكم يوم القيامة ببقرة لها خوار‏)‏‏)‏ فقال فيه‏:‏ أو ‏(‏‏(‏شاة تنعر‏)‏‏)‏ بالنون، وإنما هو‏:‏ ‏(‏تَيْعَر‏)‏ بالياء المثناة من تحت‏.‏ وأنه قال لهم يوماً‏:‏ نحن قوم لنا شرف، نحن من عنزة، قد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا‏.‏ يريد ما روي‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى عنزة، توهّم أنه صلى إلى قبيلتهم، وإنما العنزة ههنا حربة، نصبت بين يديه فصلى إليها‏.‏
وأظرف من هذا ما رويناه عن الحاكم ‏(‏أبي عبد الله‏)‏، عن أعرابي زعم‏:‏ أنه- صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى نصبت بين يديه شاة، أي صحفها ‏(‏عنْزة‏)‏ بإسكان النون‏.‏
وعن ‏(‏الدارقطني‏)‏ أيضاً‏:‏ أن أبا بكر الصولي أملى في الجامع حديث أبي أيوب‏:‏‏(‏من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال‏)‏‏.‏ فقال فيه ‏(‏شيئاً‏)‏ بالشين والياء‏.‏
وأن ‏(‏أبا بكر الإسماعيلي الإمام‏)‏ كان - فيما بلغهم عنه -يقول في حديث عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكهان ‏(‏قر الزجاجة‏)‏ بالزاي، وإنما هو‏:‏ ‏(‏قر الدجاجة‏)‏ بالدال‏.‏
‏(‏168‏)‏ وفي حديث يروى عن معاوية بن أبي سفيان قال‏:‏ لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يشققون الخطب تشقيق الشعر‏.‏ ذكر ‏(‏الدارقطني‏)‏ عن ‏(‏وكيع‏)‏ أنه قاله مرة بالحاء المهملة و‏(‏أبو نعيم‏)‏ شاهد، فرده عليه بالخاء المعجمة المضمومة‏.‏
وقرأت بخط مصنف‏:‏ أن ‏(‏ابن شاهين‏)‏ قال في جامع المنصور في الحديث‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تشقيق الحطب‏.‏ فقال بعض الملاحين‏:‏ يا قوم ‏!‏ فكيف نعمل والحاجة ماسة‏.‏
قلت‏:‏ فقد انقسم التصحيف إلى قسمين‏:‏ أحدهما في المتن، والثاني في الإسناد‏.‏
وينقسم قسمة أخرى إلى قسمين‏:‏
أحدهما‏:‏ تصحيف البصر، كما سبق عن ‏(‏ابن لهيعة‏)‏ وذلك هو الأكثر‏.‏
والثاني‏:‏ تصحيف السمع، نحو حديث ‏(‏لعاصم الأحول‏)‏ رواه بعضهم فقال ‏(‏عن واصل الأحدب‏)‏ فذكر ‏(‏الدارقطني‏)‏‏:‏ أنه من تصحيف السمع، لا من تصحيف البصر، كأنه ذهب - والله أعلم - إلى أن ذلك مما لا يشتبه من حيث الكتابة، وإنما أخطأ فيه سمع من رواه‏.‏
وينقسم قسمة ثالثة‏:‏ إلى تصحيف اللفظ، وهو الأكثر‏.‏ وإلى تصحيف يتعلق بالمعنى دون اللفظ، كمثل ما سبق عن ‏(‏محمد بن المثنى‏)‏ في الصلاة إلى عنزة‏.‏
وتسمية بعض ما ذكرناه تصحيفاً مجاز، و الله أعلم‏.‏
وكثير من التصحيف المنقول عن الأكابر الجلة لهم فيه أعذار لم ينقلها ناقلوه، ونسأل الله التوفيق والعصمة، والله أعلم‏.‏