باب مَا يَقَعُ مِنْ النَّجَاسَاتِ فِي السَّمْنِ وَالْمَاءِ
 

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "لاَ بَأْسَ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ أَوْ رِيحٌ أَوْ لَوْنٌ" وَقَالَ حَمَّادٌ: "لاَ بَأْسَ بِرِيشِ الْمَيْتَةِ" وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "فِي عِظَامِ الْمَوْتَى نَحْوَ الْفِيلِ وَغَيْرِهِ أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ سَلَفِ الْعُلَمَاءِ يَمْتَشِطُونَ بِهَا وَيَدَّهِنُونَ فِيهَا لاَ يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا" وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ: "وَلاَ بَأْسَ بِتِجَارَةِ الْعَاجِ"
قوله: "باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء" أي هل ينجسهما أم لا، أو لا ينجس الماء إلا إذا تغير دون غيره؟ وهذا الذي يظهر من مجموع ما أورده المصنف في الباب من أثر وحديث. قوله: "وقال الزهري" صله ابن وهب في جامعه عن يونس عنه، وروى البيهقي معناه من طريق أبي عمرو وهو الأوزاعي عن الزهري. قوله: "لا بأس بالماء" أي لا حرج في استعماله في كل حالة، فهو محكوم بطهارته ما لم يغيره طعم أي من شيء نجس أو ريح منه أو لون، ولفظ يونس عنه كل ما فيه قوة عما يصيبه من الأذى حتى لا يغير ذلك طعمه ولا ريحه ولا لونه فهو طاهر، ومقتضى هذا أنه لا يفرق بين القليل والكثير إلا بالقوة المانعة للملاقي أن يغير أحد أوصافه، فالعبرة عنده بالتغير وعدمه، ومذهب الزهري هذا صار إليه طوائف من العلماء، وقد تعقبه أبو عبيد في كتاب الطهور بأنه يلزم منه أن من بال في إبريق ولم يغير للماء وصفا أنه يجوز له التطهر به، وهو مستبشع، ولهذا نصر قول التفريق بالقلتين، وإنما لم يخرجه البخاري لاختلاف وقع في إسناده، لكن رواته ثقات. وصححه جماعة من الأئمة، إلا أن مقدار القلتين لم يتفق عليه، واعتبره الشافعي بخمس قرب من قرب الحجاز احتياطا، وخصص به حديث ابن عباس مرفوعا: "الماء لا ينجسه شيء " وهو حديث صحيح رواه الأربعة وابن خزيمة وغيرهم، وسيأتي مزيد للقول في هذا في الباب الذي بعده. وقول الزهري هذا ورد فيه حديث مرفوع قال الشافعي لا يثبت أهل الحديث مثله، لكن لا أعلم في المسألة خلافا، يعني في تنجيس الماء إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة، والحديث المشار إليه أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة وإسناده ضعيف وفيه اضطراب أيضا. قوله: "وقال حماد" هو
(1/342)


ابن أبي سليمان الفقيه الكوفي. قوله: "لا بأس بريش الميتة" أي ليس نجسا ولا ينجس الماء بملاقاته، سواء كان ريش مأكول أو غيره، وأثره هذا وصله عبد الرزاق عن معمر عنه. قوله: "وقال الزهري في عظام الموتى نحو الفيل وغيره" أي مما لا يؤكل "أدركت ناسا" أي كثيرا والتنوين للتكثير.قوله: "ويدهنون" بتشديد الدال من باب الافتعال، ويجوز ضم أوله وإسكان الدال، وهذا يدل على أنهم كانوا يقولون بطهارته، وسنذكر الخلاف فيه قريبا. قوله: "وقال ابن سيرين وإبراهيم" لم يذكر السرخسي إبراهيم في روايته ولا أكثر الرواة عن الفربري، وأثر ابن سيرين وصله عبد الرزاق بلفظ: "أنه كان لا يرى بالتجارة في العاج بأسا " وهذا يدل على أنه كان يراه طاهرا لأنه لا يجيز بيع النجس ولا المتنجس الذي لا يمكن تطهيره بدليل قصته المشهورة في الزيت. والعاج هو ناب الفيل، قال ابن سيده: لا يسمى غيره عاجا. وقال القزاز: أنكر الخليل أن يسمى غير ناب الفيل عاجا. وقال ابن فارس والجوهري: "العاج عظم الفيل، فلم يخصصاه بالناب". وقال الخطابي تبعا لابن قتيبة: "العاج الذبل وهو ظهر السلحفاء البحرية"، وفيه نظر ففي الصحاح: المسك السوار من عاج أو ذبل، فغاير بينهما. لكن قال القالي: العرب تسمى كل عظم عاجا، فإن ثبت هذا فلا حجة في الأثر المذكور على طهارة عظم الفيل، لكن إيراد البخاري له عقب أثر الزهري في عظم الفيل يدل على اعتبار ما قال الخليل. وقد اختلفوا في عظم الفيل بناء على أن العظم هل تحله الحياة أم لا، فذهب إلى الأول الشافعي، واستدل له بقوله تعالى :{قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فهذا ظاهر في أن العظم تحله الحياة، وذهب إلى الثاني أبو حنيفة وقال بطهارة العظام مطلقا. وقال مالك: هو طاهر إن ذكى بناء على قوله إن غير المأكول يطهر بالتذكية وهو قول أبي حنيفة.