وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ "كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ المسْجِدِ وَقَالَ أَكِنَّ النَّاسَ مِنْ الْمَطَرِ وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ" وَقَالَ أَنَسٌ "يَتَبَاهَوْنَ بِهَا ثُمَّ لاَ يَعْمُرُونَهَا إِلاَّ قَلِيلًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى".
 
قوله :"باب بنيان المسجد" أي النبوي. قوله: "وقال أبو سعيد" هو الخدري، والقدر المذكور هنا طرف من حديثه في ذكر ليلة القدر، وقد وصله المؤلف في الاعتكاف وغيره من طريق أبي سلمة عنه، وسيأتي قريبا في أبواب صلاة الجماعة. قوله: "وأمر عمر" هو طرف من قصة في ذكر تجديد المسجد النبوي. قوله: "وقال أكن الناس" وقع في روايتنا أكن بضم الهمزة وكسر الكاف وتشديد النون المضمومة بلفظ الفعل المضارع من أكن الرباعي يقال: أكننت الشيء إكنانا أي صنته وسترته، وحكى أبو زيد كننته من الثلاثي بمعنى أكننته، وفرق الكسائي بينهما فقال كننته أي سترته وأكننته في نفسي أي أسررته، ووقع في رواية الأصيلي: "أكن " بفتح الهمزة والنون فعل أمر من الإكنان أيضا ويرجحه قوله قبله " وأمر عمر " وقوله بعده " وإياك " وتوجه الأولى بأنه خاطب القوم بما أراد ثم التفت إلى الصانع فقال له " وإياك"، أو يحمل قوله وإياك على التجريد كأنه خاطب نفسه بذلك، قال عياض: وفي رواية غير الأصيلي والقابسي - أي وأبي ذر - " كن الناس " بحذف الهمزة وكسر الكاف وهو صحيح أيضا. وجوز ابن مالك ضم الكاف على أنه من كن فهو مكنون. انتهى. وهو متجه، لكن الرواية لا تساعده. قوله: "فتفتن الناس" بفتح المثناة من فتن، وضبطه ابن التين بالضم من أفتن، وذكر أن الأصمعي أنكره وأن أبا عبيدة أجازه فقال فتن وأفتن بمعنى، قال ابن بطال: كان عمر فهم ذلك من رد الشارع الخميصة إلى أبي جهم من أجل الأعلام التي فيها وقال: "إنها ألهتني عن صلاتي". قلت: ويحتمل أن يكون عند عمر من ذلك علم خاص بهذه المسألة فقد روى ابن ماجه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر مرفوعا: "ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم " رجاله ثقات إلا شيخه جبارة بن المغلس فقيه مقال. قوله: "وقال أنس: يتباهون بها" بفتح الهاء أي يتفاخرون، وهذا التعليق رويناه موصولا في مسند أبي يعلى وصحيح ابن خزيمة من طريق أبي قلابة أن أنسا قال: "سمعته يقول: يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلا " وأخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان مختصرا من طريق أخرى عن أبي قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد " والطريق الأولى أليق بمراد البخاري. وعند أبي نعيم في كتاب المساجد من الوجه الذي عند ابن خزيمة: "يتباهون
ـــــــ
(1) هذا فيه تفصيل: فان قصد بالحدث المعصية أو البدعة فما قاله الشارح متوجه, وإن أريد بالحدث الريح ونحوها مما ينقض الطهارة سوى البول ونحوه فليس ماقاله الشارح واضحا, والصواب إباحة ذلك أو كراهته من غير تحريم, وإن فاتته به صلاة الملائكة وبؤيد الثانى ما ذكره الشارح في شرح الحديث477فتنبه
(1/539)


بكثرة المساجد". "تنبيه": قوله: "ثم لا يعمرونها " المراد به عمارتها بالصلاة وذكر الله، وليس المراد به بنيانها، بخلاف ما يأتي في ترجمة الباب الذي بعده. قوله: "وقال ابن عباس: لتزخرفنها" بفتح اللام وهي لام القسم وضم المثناة وفتح الزاي وسكون الخاء المعجمة وكسر الراء وضم الفاء وتشديد النون وهي نون التأكيد، والزخرفة الزينة، وأصل الزخرف الذهب ثم استعمل في كل ما يتزين به. وهذا التعليق وصله أبو داود وابن حبان من طريق يزيد بن الأصم عن ابن عباس هكذا موقوفا، وقبله حديث مرفوع ولفظه: "ما أمرت بتشييد المساجد " وظن الطيبي في شرح المشكاة أنهما حديث واحد فشرحه على أن اللام في " لتزخرفنها " مكسورة وهي لام التعليل للمنفي قبله، والمعنى: ما أمرت بالتشييد ليجعل ذريعة إلى الزخرفة، قال: والنون فيه لمجرد التأكيد، وفيه نوع توبيخ وتأنيب، ثم قال: ويجوز فتح اللام على أنها جواب القسم. قلت: وهذا هو المعتمد، والأول لم تثبت به الرواية أصلا فلا يغتر به، وكلام ابن عباس فيه مفصول من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب المشهورة وغيرها، وإنما لم يذكر البخاري المرفوع منه للاختلاف على يزيد بن الأصم في وصله وإرساله، قال البغوي: التشييد رفع البناء وتطويله، وإنما زخرفت اليهود والنصارى معابدها حين حرفوا كتبهم وبدلوها.

الموضوع التالي


حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ حَدَّثَنَا نَافِعٌ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ"