الفصل الثالث قلة اجتماع الأمانة والقوة في الناس |
[ ص: 27 ] قلة اجتماع الأمانة والقوة في الناس فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة ، والآخر أعظم قوة ، قدم أنفعهما لتلك الولاية : وأقلهما ضررا فيها ، فيقدم في إمارة الحرب الرجل القوي الشجاع ، وإن كان فيه فجور فيها ، على الرجل الضعيف العاجز ، وإن كان أمينا ، كما سئل الإمام أحمد : عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو ، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف ، مع أيهما يغزو ؟ فقال : أما الفاجر القوي ، فقوته للمسلمين ، وفجوره على نفسه ، وأما الصالح الضعيف فصلاحه ، لنفسه ، وضعفه على المسلمين ، فيغزي مع القوي الفاجر .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { : إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر } لما أرسله إلى خزيمة فقتلهم ، وأخذ أموالهم بنوع شبهة ، ولم يكن يجوز ذلك ، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة ، حتى وداهم النبي صلى الله عليه وسلم وضمن [ ص: 29 ] أموالهم ، ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب ; لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره ، وفعل ما فعل بنوع تأويل . وكان 1584 أبو ذر رضي الله عنه ، أصلح منه في الأمانة والصدق ، ومع هذا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم { يا 1584 أبا ذر إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي : لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم } . رواه مسلم . نهى 1584 أبا ذر عن الإمارة والولاية ; لأنه رآه ضعيفا .
مع أنه قد روي : { ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ، أصدق لهجة من أبي ذر } ولذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة ، مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه ، في العلم والإيمان .
وهكذا أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه ما زال يستعمل خالدا في حرب أهل الردة ، وفي فتوح العراق والشام ، وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل ، وقد ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى ، فلم يعزله من أجلها ، بل عتبه عليها لرجحان المصلحة على المفسدة ، في بقائه ، وأن غيره لم يكن يقوم مقامه ; لأن المتولي الكبير ، إذا كان خلقه يميل إلى اللين ، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى الشدة ، وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة ، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين ، ليعتدل الأمر وقال : { أنا الضحوك القتال } . وأمته [ ص: 31 ] وسط قال تعالى فيهم : { أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا } وقال تعالى : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } . ولهذا لما تولى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما صارا كاملين في الولاية ، واعتدل منهما ما كان ينسبان فيه إلى أحد الطرفين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من لين أحدهما وشدة الآخر ، حتى قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم : { اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر } .
وظهر من أبي بكر من شجاعة القلب ، في قتال أهل الردة وغيرهم ، ما برز به علي وعمر وسائر الصحابة ، رضي الله عنهم أجمعين . [ ص: 32 ] وكذلك في إمارة الحرب ، إذا أمر الأمير بمشورة أولي العلم والدين جمع بين المصلحتين وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد ، جمع بين عدد ، فلا بد من ترجيح الأصلح ، أو تعدد المولى ، إذا لم تقع الكفاية بواحد تام . ويقدم في ولاية القضاء ، الأعلم الأورع الأكفأ ، فإن كان أحدهما أعلم ، والآخر أورع ، قدم - فيما قد يظهر حكمه ، ويخاف فيه الهوى الأورع ، وفيما يدق حكمه ، ويخاف فيه الاشتباه : الأعلم .
ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : { إن الله يحب البصر النافذ ، عند ورود الشبهات ، ويحب العقل عند حلول الشهوات } [ ص: 33 ] وسئل بعض العلماء : إذا لم يوجد من يولى القضاء ، إلا عالم فاسق أو جاهل دين فأيهما يقدم ؟ فقال : إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد ، قدم الدين وإن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم .
وأكثر العلماء يقدمون ذا الدين فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلا أهلا للشهادة واختلفوا في اشتراط العلم هل يجب أن يكون مجتهدا ، أو يجوز أن يكون مقلدا ، أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما تيسر ؟ على ثلاثة أقوال وبسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع |