الفصل الخامس الظلم الواقع من الولاة والرعية
 

[ ص: 64 ] وكثيرا ما يقع الظلم من الولاة والرعية : هؤلاء يأخذون ما يحل ، وهؤلاء يمنعون ما يجب ، كما قد يتظالم الجند والفلاحون ، وكما قد يترك بعض الناس من الجهاد ما يجب ، ويكنزه الولاة من مال الله ، مما لا يحل كنزه ، وكذلك العقوبات على أداء الأموال ، فإنه قد يترك منها ما يباح أو يجب ، وقد يفعل ما لا يحل .


والأصل في ذلك : أن كل من عليه مال يجب أداؤه ، كرجل عنده وديعة ، أو مضارة ، أو شركة ، أو مال لموكله ، أو مال يتيم ، أو مال وقف ، أو مال لبيت المال ، أو عنده دين ، هو قادر على أدائه ، فإنه إذا امتنع من أداء الحق الواجب من عين أو دين ، وعرف أنه قادر على أدائه ، فإنه يستحق العقوبة ، حتى يظهر المال أو يدل على موضعه فإذا عرف المال ، وصير في الحبس فإنه يستوفي الحق من المال ، ولا حاجة إلى ضربه به ، وإن امتنع من الدلالة على مال ومن الإيفاء ، ضرب حتى يؤدي الحق أو يمكن من أدائه ، وكذلك لو امتنع من أداء النفقة الواجبة عليه مع القدرة عليها ; لما روى عمر بن الشريد عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : { لي الواجد يحل عرضه وعقوبته . } رواه أهل السنن [ ص: 65 ]

وقال صلى الله عليه وسلم { مطل الغني ظلم } أخرجاه في الصحيحين واللي هو المطل والظالم يستحق العقوبة والتعزير وهذا أصل متفق عليه : أن كل من فعل محرما ، أو ترك واجبا ، استحق العقوبة ، فإن لم تكن مقدرة بالشرع كان يجتهد تعزيرا فيه ولي الأمر ، فيعاقب الغني المماطل بالحبس ، فإن أصر عوقب بالضرب ، حتى يؤدي الواجب ، وقد نص على ذلك الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم رضي الله عنهم عنهم ولا أعلم فيه خلافا .


وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء والسلاح ، سأل بعض اليهود ، وهو سعية عم حيي بن أخطب ، عن كنز مال حيي بن أخطب [ ص: 66 ] فقال : أذهبته النفقات والحروب ، فقال : العهد قريب ، والمال أكثر من ذلك فدفع النبي صلى الله عليه وسلم سعية إلى الزبير ، فسمه بعذاب ، فقال : قد رأيت حييا يطوف ; في خربة هاهنا ، فذهبوا فطافوا ، فوجدوا المسك في الخربة } ، وهذا الرجل كان ذميا ، والذمي لا تحل عقوبته إلا بحق ، وكذلك كل من كتم ما يجب إظهاره من دلالة واجبة ونحو ذلك ، يعاقب على ترك الواجب .


وما أخذ ولاة الأموال وغيرهم من مال المسلمين بغير حق فلولي الأمر العادل استخراجه منهم ، كالهدايا التي يأخذونها بسبب العمل قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : هدايا العمال غلول

وروى إبراهيم الحربي في كتاب الهدايا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { هدايا الأمراء غلول }

وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال : { استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من [ ص: 67 ] الأزد يقال له ابن اللتبية ، على الصدقة ، فلما قدم ، قال : هذا لكم ، وهذا أهدي إلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله ، فيقول : هذا لكم ، وهذا أهدي إلي ، فهلا جلس في بيت أبيه ، أو بيت أمه فينظر أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ منه شيئا ، إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ، إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ، اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ، ؟ ثلاثا } .


وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة ، والمؤاجرة والمضاربة ، والمساقاة والمزارعة ، ونحو ذلك من الهداية ، ولهذا شاطر عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عماله من كان له فضل ودين ، لا يتهم بخيانة ، وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها ، وكان الأمر يقتضي ذلك ; لأنه كان إمام عدل ، يقسم بالسوية فلما تغير الإمام والرعية ، كان الواجب على كل إنسان أن يفعل من الواجب ما يقدر عليه ، ويترك ما حرم عليه ، ولا يحرم عليه ما أباح الله له .


وقد يبتلى الناس من الولاة بمن يمتنع من الهداية ونحوها ; ليتمكن بذلك من استيفاء المظالم منهم ، ويترك ما أوجبه الله من قضاء حوائجهم [ ص: 68 ] فيكون من أخذ منهم عوضا ، على كف ظلم وقضاء حاجة مباحة ، أحب إليهم من هذا ، فإن الأول قد باع آخرته بدنيا غيره ، وأخسر الناس صفقة ، من باع آخرته بدنيا غيره ، وإنما الواجب كف الظلم عنهم بحسب القدرة ، وقضاء حوائجهم التي لا تتم مصلحة الناس إلا بها ، من تبليغ ذي السلطان حاجاتهم ، وتعريفه بأمورهم ، ودلالته على مصالحهم ، وصرفه عن مفاسدهم ، بأنواع الطرق اللطيفة وغير اللطيفة ، كما يفعل ذوو الأغراض من الكتاب ونحوهم في أغراضهم ففي حديث هند بن أبي هالة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : { أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها ، فإنه من أبلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها ، ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام } [ ص: 69 ] وقد روى الإمام أحمد ، وأبو داود في سننه ، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من شفع لأخيه شفاعة ، فأهدى له عليها هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا } .


وروى إبراهيم الحربي عن عبد الله بن مسعود قال : السحت ، أن يطلب للرجل ، فيقضى له فيهدي إليه ، فيقبلها ، وروي أيضا عن مسروق أنه كلم ابن زياد في مظلمة فردها فأهدى له صاحبها وصيفا ، فرده عليه ، وقال : سمعت ابن مسعود يقول : من رد عن مسلم مظلمة ، فرزأه عليها قليلا أو كثيرا ، فهو سحت ، فقلت يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى السحت إلا الرشوة في الحكم ، قال ذاك كفر

فأما إذا كان ولي الأمر يستخرج من العمال ما يريد أن يختص به هو وذووه ، فلا ينبغي إعانة واحد منهما ، إذ كل منهما ظالم ، كلص سرق من لص ، وكالطائفتين المقتتلتين على عصبية ورئاسة .
ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم فإن التعاون نوعان : [ ص: 70 ] الأول : تعاون على البر والتقوى ، من الجهاد وإقامة الحدود ، واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين ، فهذا مما أمر الله به ورسوله ، ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة ، فقد ترك فرضا على الأعيان ، أو على الكفاية متوهما أنه متورع ، وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع ، إذ كل منهما كف وإمساك .


والثاني : تعاون على الإثم والعدوان ، كالإعانة على دم معصوم ، أو أخذ مال معصوم ، أو ضرب من لا يستحق الضرب ، ونحو ذلك ، فهذا الذي حرمه الله ورسوله .


نعم إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق ، وقد تعذر ردها إلى أصحابها ، ككثير من الأموال السلطانية ، فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين كسداد الثغور ونفقة المقاتلة ونحو ذلك ، من الإعانة على البر والتقوى ، إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال - إذا لم يمكن معرفة أصحابها ردها عليهم ، ولا على ورثتهم - أن يصرفها - مع التوبة ، إن كان هو الظالم - إلى مصالح المسلمين هذا هو قول جمهور العلماء ، كمالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، وهو منقول عن غير واحد من الصحابة ، وعلى ذلك دلت الأدلة الشرعية ، كما هو منصوص في موضع آخر . [ ص: 71 ]

وإن كان غيره قد أخذه ، فعليه هو أن يفعل بها ذلك ، وكذلك لو امتنع السلطان من ردها ، كانت الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها ، أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها ، وعلى المسلمين . فإن مدار الشريعة على قوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وهي مبينة لقوله : { اتقوا الله حق تقاته } ، وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } أخرجاه في الصحيحين .


وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها ، وتبطيل المفاسد وتقليلها ، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناها ، هو المشروع .


والمعين على الإثم والعدوان ، من أعان الظالم على ظلمه ، أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه ، أو على المظلمة ، فهو وكيل المظلوم ، لا وكيل الظالم ، بمنزلة الذي يقرضه ، أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم ، مثال ذلك ولي اليتيم والوقف ، إذا طلب ظالم منه مالا فاجتهد في دفع ذلك بمال أقل منه إليه - أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع ، فهو محسن ، وما على المحسنين من سبيل .


وكذلك وكيل المالك من المتأدبين والكتاب وغيرهم ، الذي توكل لهم في العقد والقبض ، ودفع ما يطلب منهم لا يتوكل للظالمين في الأخذ . [ ص: 72 ] كذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة .


فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان وقسطها بينهم على قدر طاقتهم ، من غير محاباة لنفسه ولا لغيره ، ولا ارتشاء توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء ، كان محسنا .


لكن الغالب ، أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابيا مرتشيا مخفرا لمن يريد ، وآخذا ممن يريد ، وهذا من أكبر الظلمة ، الذين يحشرون في توابيت من نار ، هم وأعوانهم وأشباههم ، ثم يقذفون النار .