الفصل السادس وجوه صرف الأموال
 

ص: 73 ] وأما المصارف فالواجب : أن يبتدئ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين ، كعطاء من يحصل للمسلمين به منفعة عامة .
فمنهم المقاتلة : الذين هم أهل النصرة والجهاد ، وهم أحق الناس بالفيء فإنه لا يحصل إلا بهم ، حتى اختلف الفقهاء في مال الفيء : هل هو مختص بهم ، أو مشترك في جميع المصالح ؟ وأما سائر الأموال السلطانية فلجميع المصالح وفاقا ، إلا ما خص به نوعا ، كالصدقات والمغنم


ومن المستحقين ذوو الولايات عليهم ، كالولاة ، والقضاة والعلماء والسعاة على المال جمعا وحفظا وقسمة ، ونحو ذلك ، حتى أئمة الصلاة والمؤذنين ونحو ذلك


وكذا صرف في الأثمان والأجور ; لما يعم نفعه من سداد الثغور بالكراع والسلاح ، وعمارة ما يحتاج إلى عمارته من طرقات الناس ، كالجسور والقناطر ، وطرقات المياه كالأنهار


[ ص: 74 ] ومن المستحقين : ذوو الحاجات ، فإن الفقهاء قد اختلفوا هل يقدمون في غير الصدقات ، من الفيء ونحوه على غيرهم ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره ، منهم من قال : يقدمون ، ومنهم من قال : المال استحق بالإسلام ، فيشتركون فيه ، كما يشترك الورثة في الميراث


والصحيح أنهم يقدمون ، فإن { النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم ذوي الحاجات ، كما قدمهم في مال بني النضير } وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس أحد أحق بهذا المال من أحد ، إنما هو الرجل وسابقته ، والرجل وغناؤه ، والرجل وبلاؤه ، والرجل وحاجته فجعلهم عمر رضي الله عنه أربعة أقسام :


( الأول ) : ذوو السوابق الذين بسابقتهم حصل المال


( الثاني ) : من يغني عن المسلمين في جلب المنافع له ، كولاة الأمور والعلماء الذين يجعلون لهم منافع الدين والدنيا . [ ص: 75 ]


( الثالث ) : من يبلي بلاء حسنا في دفع الضرر عنهم ، كالمجاهدين في سبيل الله من الأجناد والعيون من القصاد والناصحين ونحوهم


( الرابع ) : ذوو الحاجات ، وإذا حصل من هؤلاء متبرع ، فقد أغنى الله به وإلا أعطي ما يكفيه أو قدر عمله ، وإذا عرفت أن العطاء يكون بحسب منفعة الرجل وبحسب حاجته في مال المصالح وفي الصدقات أيضا ، فما زاد على ذلك لا يستحق الرجل ، إلا كما يستحقه نظراؤه مثل أن يكون شريكا في غنيمة ، أو ميراث


ولا يجوز للإمام أن يعطي أحدا ما لا يستحقه لهوى نفسه من قرابة بينهما أو مودة ونحو ذلك ، فضلا عن أن يعطيه لأجل منفعة محرمة منه ، كعطية المخنثين من الصبيان والمردان الأحرار والمماليك ونحوهم ، والبغايا والمغنين والمساخر ونحو ذلك ، أو إعطاء العرافين من الكهان والمنجمين ونحوهم


قال : فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة } رواه مسلم والعبيد اسم فرس له [ ص: 78 ]


والمؤلفة قلوبهم نوعان : كافر ومسلم : إما أن ترجى بعطيته منفعة كإسلامه ، أو دفع مضرته ، إذا لم يندفع إلا بذلك


والمسلم المطاع يرجى بعطيته المنفعة أيضا ، كحسن إسلامه ، أو إسلام نظيره ، أو جباية المال ممن لا يعطيه ، إلا لخوف أو لنكاية في العدو ، أو كف ضرره عن المسلمين ، إذا لم ينكف إلا بذلك ، وهذا النوع من العطاء ، وإن كان ظاهره إعطاء الرؤساء ، وترك الضعفاء ، كما يفعل الملوك ، فالأعمال بالنيات ، فإذا كان القصد بذلك مصلحة الدين وأهله ، كان من جنس عطاء فرعون ، وإنما ينكره ذوو الدين الفاسد كذي الخويصرة الذي أنكره على النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى قال فيه ما قال ، وكذا حزبه الخوارج أنكروا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ما قصد به المصلحة من التحكيم ومحو اسمه ، وما تركه من سبي نساء المسلمين وصبيانهم


وهؤلاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم لأن معهم دينا فاسدا لا يصلح به دنيا ولا آخرة ، وكثيرا ما يشتبه الورع الفاسد بالجبن والبخل ، فإن كليهما فيه ترك ، فيشتبه ترك الفساد ; لخشية الله - تعالى بترك ما يؤمر به من الجهاد والنفقة ، جبنا وبخلا ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع } قال الترمذي : حديث صحيح . [ ص: 79 ]


وكذلك قد يترك الإنسان العمل ظنا ، أو إظهارا أنه ورع ، وإنما هو كبر وإرادة للعلو ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : { إنما الأعمال بالنيات } كلمة جامعة كاملة ، فإن النية للعمل ، كالروح للجسد ، وإلا فكل واحد من الساجد لله ، والساجد للشمس والقمر ، قد وضع جبهته على الأرض ، فصورتهما واحدة ، ثم هذا أقرب الخلق إلى الله - تعالى ، وهذا أبعد الخلق عن الله


وقد قال الله تعالى : { وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة }


وفي الأثر : أفضل الإيمان : السماحة والصبر فلا يتم رعاية الخلق وسياستهم إلا بالجود ، الذي هو العطاء ، والنجدة التي هي الشجاعة ، بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك ، ولهذا كل من لا يقوم بهما سلبه الأمر ، ونقله إلى غيره ، كما قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير }


وقال تعالى : { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله ، فمنكم من يبخل ، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم } [ ص: 80 ]


وقد قال الله تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ، وكلا وعد الله الحسنى } فعلق الأمر بالإنفاق الذي هو السخاء ، والقتال الذي هو الشجاعة ، وكذلك قال الله تعالى في غير موضع : { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله }


وبين أن البخل من الكبائر ، في قوله تعالى { : ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله ، هو خيرا لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة }


وفي قوله : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } الآية


وكذلك الجبن في مثل قوله تعالى : { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم [ ص: 81 ] وبئس المصير } وفي قوله تعالى : { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون }


وهو كثير في الكتاب والسنة ، وهو مما اتفق عليه أهل الأرض ، حتى إنهم يقولون في الأمثال العامية : " لا طعنة ولا جفنة " ويقولون : " لا فارس الخيل ، ولا وجه العرب "


ولكن افترق الناس هنا ثلاث فرق : فريق غلب عليهم حب العلو في الأرض والفساد ، فلم ينظروا في عاقبة المعاد ، ورأوا أن السلطان لا يقوم إلا بعطاء ، وقد لا يتأتى العطاء إلا باستخراج أموال من غير حلها ، فصاروا نهابين وهابين وهؤلاء يقولون : لا يمكن أن يتولى على الناس إلا من يأكل ويطعم فإنه إذا تولى الضعيف الذي لا يأكل ولا يطعم ، سخط عليه الرؤساء وعزلوه ، إن لم يضروه في نفسه وماله ، وهؤلاء نظروا في عاجل دنياهم ، وأهملوا الآجل من دنياهم وآخرتهم ، فعاقبتهم عاقبة رديئة في الدنيا والآخرة ، إن لم يحصل لهم ما يصلح عاقبتهم من توبة ونحوها


وفريق عندهم خوف من الله تعالى ، ودين يمنعهم عما يعتقدونه قبيحا من ظلم الخلق ، وفعل المحارم ، فهذا حسن واجب ، ولكن قد يعتقدون مع ذلك أن السياسة لا تتم إلا بما يفعله أولئك من الحرام ، فيمنعون عنها مطلقا ، وربما كان في نفوسهم جبن أو بخل ، أو ضيق [ ص: 82 ] خلق ينضم إلى ما معهم من الدين ، فيقعون أحيانا في ترك واجب ، يكون تركه أضر عليهم من بعض المحرمات ، أو يقعون في النهي عن واجب ، يكون النهي عنه من الصد عن سبيل الله ، وقد يكونون متأولين ، وربما اعتقدوا أن إنكار ذلك واجب ، ولا يتم إلا بالقتال ، فيقاتلون المسلمين كما فعلت الخوارج ، وهؤلاء لا تصلح بهم الدنيا ولا الدين الكامل ، لكن قد يصلح بهم كثير من أنواع الدين ، وبعض أمور الدنيا ، وقد يعفى عنهم فيما اجتهدوا فيه فأخطئوا ، ويغفر لهم قصورهم ، وقد يكونون من الأخسرين أعمالا ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وهذه طريقة من لا يأخذ لنفسه ، ولا يعطي غيره ، ولا يرى أنه يتألف الناس من الكبار والفجار ، لا بمال ولا بنفع ، ويرى أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من نوع الجور والعطاء المحرم


الفريق الثالث : الأمة الوسط ، وهم " أهل " دين محمد صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه على عامة الناس وخاصتهم إلى يوم القيامة ، وهو إنفاق المال والمنافع للناس - وإن كانوا رؤساء - بحسب الحاجة ، إلى صلاح الأحوال ، ولإقامة الدين ، والدنيا التي يحتاج إليها الدين ، وعفته في نفسه فلا يأخذ ما لا يستحقه ، فيجمعون بين التقوى والإحسان { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون }


ولا تتم السياسة الدينية إلا بهذا ، ولا يصلح الدين والدنيا إلا بهذه الطريقة . [ ص: 83 ]


وهذا هو الذي يطعم الناس ما يحتاجون من طعامه ، ولا يأكل هو إلا الحلال الطيب ، ثم هذا يكفيه من الإنفاق أقل ما يحتاج إليه والأولون ، فإن الذي يأخذ لنفسه ، تطمع فيه النفوس ، ما لا تطمع في التعفيف ، ويصلح به الناس في دينهم ما لا يصلحون بالثاني ، فإن العفة مع القدرة تقوي حرمة الدين ، وفي الصحيحين عن أبي سفيان بن حرب { أن هرقل ملك الروم ، قال له عن النبي صلى الله عليه وسلم بماذا يأمركم ؟ قال : يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة } - وفي الأثر : { أن الله أوحى إلى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام : يا إبراهيم أتدري لم اتخذتك خليلا ؟ لأني رأيت العطاء أحب إليك من الأخذ }


هذا الذي ذكرناه في الرزق ، والعطاء ، الذي هو السخاء ، وبذل المنافع ، نظيره في الصبر والغضب ، الذي هو الشجاعة ودفع المضار


إن الناس ثلاثة أقسام : قسم يغضبون لنفوسهم ولربهم ، وقسم لا يغضبون لنفوسهم ولا لربهم ، والثالث - وهو الوسط - أن يغضب لا لنفسه كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : { ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده : خادما له ، ولا امرأة ، ولا دابة ، ولا شيئا [ ص: 84 ] قط ، إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه قط ، إلا أن تنتهك حرمات الله ، فإذا انتهكت حرمات الله ، لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله }


فأما من يغضب لنفسه لا لربه ، أو يأخذ لنفسه ولا يعطي غيره ، فهذا القسم الرابع ، شر الخلق ، لا يصلح بهم دين ولا دنيا ، كما أن الصالحين أرباب السياسة الكاملة ، هم الذين قاموا بالواجبات وتركوا المحرمات ، وهم الذين يعطون ما يصلح الدين بعطائه ، ولا يأخذون إلا ما أبيح لهم ، ويغضبون لربهم إذا انتهكت محارمه ويعفون عن حظوظهم ، وهذا أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بذله ودفعه وهي أكمل الأمور ، وكلما كان إليها أقرب ، كان أفضل ، فليجتهد المسلم في القرب إليها بجهد ، ويستغفر الله بعد ذلك من قصوره أو تقصيره بعد أن يعرف كمال ما بعث الله تعالى به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين ، فهذا في قول الله - سبحانه وتعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } والله أعلم