الفصل السادس حد شرب الخمر والقذف
 

[ ص: 139 ] الفصل السادس حد شرب الخمر : وأما حد الشرب : فإنه ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإجماع المسلمين ، فقد روى أهل السنن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال : [ ص: 140 ] { من شرب الخمر فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب الخمر فاجلدوه ، ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه } وثبت عنه أنه جلد الشارب غير مرة ، وهو وخلفاؤه والمسلمون بعده .

والقتل عند أكثر العلماء منسوخ وقيل هو محكم يقال : هو تعزير يفعله الإمام عند الحاجة . [ ص: 141 ].

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : { أنه ضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين }.

وضرب أبو بكر رضي الله عنه أربعين ، وضرب عمر في خلافته ثمانين ، وكان علي رضي الله عنه يضرب مرة أربعين ومرة ثمانين فمن العلماء من يقول : يجب ضرب الثمانين ، ومنهم من يقول : الواجب أربعون ، والزيادة يفعلها الإمام عند الحاجة ، إذا أدمن الناس الخمر ، أو كان الشارب ممن لا يرتدع بدونها ونحو ذلك . [ ص: 142 ].

فأما مع قلة الشاربين وقرب أمر الشارب فتكفي الأربعون ، وهذا أوجه القولين ، وهو قول الشافعي ، وأحمد رحمهما الله ، في إحدى الروايتين عن أحمد.

وقد كان عمر رضي الله عنه - لما كثر الشرب - زاد فيه النفي وحلق الرأس مبالغة في الزجر عنه ، فلو عزر الشارب مع الأربعين بقطع خبزه أو عزله عن ولايته كان حسنا ، وإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه عن بعض نوابه ، أنه يتمثل بأبيات في الخمر فعزله .

والخمرة التي حرمها الله ورسوله ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد شاربها ، كل شراب مسكر من أي أصل كان ، سواء من الثمار كالعنب والرطب والتين ، أو الحبوب ، كالحنطة والشعير ، أو الطلول كالعسل ، أو الحيوان ، كلبن الخيل ، بل لما أنزل الله - سبحانه وتعالى - على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تحريم الخمر ، لم يكن عندهم بالمدينة من خمر العنب شيء ; لأنه لم يكن بالمدينة شجر عنب ، وإنما كانت تجلب من الشام ، وكان عامة شرابهم من نبيذ التمر ، وقد تواترت السنة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه رضي الله عنهم ، أنه حرم كل مسكر ، وبين أنه خمر .

وكانوا يشربون النبيذ الحلو ، وهو أن ينبذ في الماء تمر وزبيب ، أي يطرح فيه ، والنبذ الطرح ; ليحلوا الماء لا سيما من مياه الحجاز ، فإن فيه ملوحة ، فهذا النبيذ حلال بإجماع المسلمين ; لأنه لا يسكر ، كما يحل شرب عصير العنب ، قبل أن يصير مسكرا ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ، قد [ ص: 143 ] نهاهم أن ينبذوا هذا النبيذ في أوعية الخشب ، أو الجرر وهو ما يصنع من التراب ، أو القرع أو الظروف المزفتة ، وأمرهم أن ينبذوا في الظروف التي تربط أفواهها بالأوكية ; لأن الشدة تدب في النبيذ دبيبا خفيفا ، ولا يشعر الإنسان ، فربما شرب الإنسان ما قد دبت فيه الشدة المطربة ، وهو لا يشعر ، فإذا كان السقاء موكيا انشق الطرف ، إذا غلا فيه النبيذ ، فلا يقع الإنسان في محذور ، وتلك الأوعية لا تنشق [ ص: 144 ].

وروي عنه { أنه صلى الله عليه وسلم ، رخص بعد هذا في الانتباذ في الأوعية وقال : كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا ، ولا تشربوا المسكر } فاختلف الصحابة ومن بعدهم من العلماء ، منهم من لم يبلغه النسخ أو لم يثبته ، فنهى عن الانتباذ في الأوعية ، ومنهم من اعتقد ثبوته ، وأنه ناسخ ، فرخص في الانتباذ في الأوعية فسمع طائفة من الفقهاء أن بعض الصحابة كانوا يشربون النبيذ ، فاعتقدوا أنه المسكر ، فترخصوا في شرب أنواع من الأشربة ، التي ليست من العنب والتمر ، وترخصوا في المطبوخ من نبيذ التمر والزبيب ، إذا لم يسكر الشارب . [ ص: 145 ].

والصواب ما عليه جماهير المسلمين ، أن كل مسكر خمر ، يجلد شاربه ولو شرب منه قطرة واحدة ; لتداو أو غير تداو ، فإن { النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر يتداوى بها ، فقال : إنها داء وليست بدواء ، وإن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها } .

والحد واجب ، إذا قامت البينة ، أو اعترف الشارب ، فإن وجدت منه رائحة الخمر ، أو رئي وهو يتقايؤها ونحو ذلك ، فقد قيل : لا يقام عليه الحد ; لاحتمال أنه شرب ما ليس بخمر ، أو شربها جاهلا بها ، أو مكروها ونحو ذلك ، وقيل : يجلد ، إذا عرف أن ذلك مسكر .

وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم ، من الصحابة كعثمان [ ص: 146 ] وعلي ، وابن مسعود وعليه تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي اصطلح عليه الناس ، وهو مذهب مالك ، وأحمد ، في غالب نصوصه وغيرهما .

والحشيشة المصنوعة من ورق العنب حرام أيضا ، يجلد صاحبها كما يجلد شارب الخمر ، وهي أخبث من الخمر ، من جهة أنها تفسد العقل والمزاج ، حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة وغير ذلك من الفساد ، والخمر أخبث ، من جهة أنها تفضي إلى المخاصمة والمقاتلة وكلاهما يصد عن ذكر الله - تعالى وعن الصلاة .

وقد توقف بعض الفقهاء المتأخرين في حدها ، ورأى أن آكلها يعزر بما دون الحد ، حيث ظنها تغير العقل من غير طرب ، بمنزلة البنج ، ولم تجد للعلماء المتقدمين فيها كلاما ، وليس كذلك ، بل آكلوها ينشون عنها ويشتهونها ، كشراب الخمر وأكثر ، وتصدهم عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، إذا أكثروا منها ، مع ما فيها من المفاسد الأخرى ، من الدياثة والتخنث ، وفساد المزاج والعقل وغير ذلك ، ولكن لما كانت جامدة مطعومة ليست شرابا تنازع الفقهاء في نجاستها ، على ثلاثة أقوال : في مذهب أحمد وغيره ، فقيل : هي نجسة كالخمر المشروبة ، وهذا هو الاعتبار الصحيح ، وقيل : لا ; لجمودها .

وقيل : يفرق بين جامدها ومائعها .

وبكل حال فهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله ، من الخمر والمسكر لفظا أو معنى.

{ قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يا رسول الله . أفتنا في شربين كنا نصنعهما باليمن : [ ص: 147 ] البتع - وهو من العسل ينبذ حتى يشتد . والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد . قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتيمه . فقال : كل مسكر حرام } متفق عليه في الصحيحين.

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن من الحنطة خمرا ، ومن الشعير خمرا ، ومن الزبيب خمرا ، ومن التمر خمرا ، ومن العسل خمرا ، وأنا أنهى عن كل مسكر } ، رواه أبو داود وغيره ، ولكن هذا في الصحيحين . عن عمر موقوفا عليه ، أنه خطب به على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " الخمر ما خامر العقل " .

وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : { كل مسكر خمر وكل خمر حرام } ، وفي رواية { كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام } رواهما مسلم في صحيحه . [ ص: 148 ].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كل مسكر حرام ، وما أسكر الفرق منه ، فملء الكف منه حرام } . قال الترمذي حسن.

وروى أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ، من وجوه أنه قال : { ما أسكر كثيره ، فقليله حرام . } وصححه الحافظ.

وعن جابر رضي الله عنه { أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة ، يقال : المزر ، فقال : أمسكر هو ؟ قال : نعم . فقال : كل مسكر حرام إن على الله عهدا لمن شرب المسكر ، أن يسقيه من طينة الخبال ، قالوا : يا رسول الله : وما طينة الخبال ؟ قال : عرق أهل النار } . رواه مسلم في صحيحه.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : { كل محرم خمر ، وكل مسكر حرام } رواه أبو داود [ ص: 149 ].

والأحاديث في هذا الباب كثيرة مستفيضة ، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أوتيه من جوامع الكلم كل ما غطى العقل وأسكر ، ولم يفرق بين نوع ونوع ، ولا تأثير لكونه مأكولا أو مشروبا ، على الخمر قد يصطبغ بها ، والحشيشة قد تذاب في الماء وتشرب ، فكل خمر يشرب ويؤكل ، والحشيشة تؤكل وتشرب ، وكل ذلك حرام ، وإنما لم يتكلم المتقدمون في خصوصها ; لأنه إنما حدث أكلها من قريب ، في أواخر المائة السادسة ، أو قريبا من ذلك ، كما أنه قد أحدثت أشربة مسكرة ، بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلها داخلة في الكلم الجوامع ، من الكتاب والسنة .

حد القذف :.

ومن الحدود التي جاء بها الكتاب والسنة ، وأجمع عليها المسلمون حد القذف ، فإذا قذف الرجل محصنا بالزنا أو باللواط وجب عليه الحد ثمانون جلدة ، والمحصن هنا هو الحر العفيف ، وفي باب حد الزنا ، هو الذي وطئ وطئا كاملا في نكاح تام .