مقدمة عن أهمية النحو وعلاقته بالعلوم الإسلامية
 

الدرس الأول مقدمات في اللغة من سلسلة شرح المقدمة الآجرومية للشيخ حسن الحفظي

حمدًا لك اللهم كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وصلاةً وسلامًا دائمين متتابعين على من أرسله الله رحمة للعالمين نبينا محمدٍ وعلى آله وصحابته أجمعين.
أيها الإخوة الموجودون هنا، أيها المشاهدون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه هي الحلقة الأولى من حلقات البرنامج الذي سنقوم بإذن الله تعالى بتقديمه في قناة المجد الفضائية، التي نسأل الله عزّ وجلّ أن يوفقها لتسير على هذا السير وعلى هذا النهج القويم.
ونحن هنا بإذن الله تعالى سنقوم بشرح مقدمة الآجرومية، وهي مقدمةٌ مختصرةٌ موجزةٌ لقيت عنايةً كبيرةً من العلماء منذ ألفها مؤلفها رحمه الله تعالى، ولم تلقى العناية في الشروح فقط، ولكنا أضافت إلى ذلك أنها نُظمت شعرًا، وشُرح هذا النظم، فلقيت لها من العناية الشيء الكثير، مما يدل على العناية التي لقيتها هذه المقدمة – وهي المقدمة الآجرومية - أكررها مرةً ثانيةً حتى يثبت اسمها، حتى نعرف ما الذي سنقوم بشرحه.
ذكر حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون عددًا من المؤلفات التي شُرحت بها هذه المقدمة، وأرى لزامًا علينا في بداية الأمر أن نبدأ بمقدمات لابد منها حتى ندخل في هذا العلم ونحن نعرف ما يتعلق به من المقدمات.
وأول ما نبدأ به إن شاء الله تعالى التحدث عن أهمية تعلم اللغة العربية، والأصل الأصيل من أصول اللغة العربية وهو علم النحو، وسننظر إن شاء الله تعالى مدى هذه الأهمية، وسنتحدث بعد هذا إن شاء الله تعالى عن علاقة علم النحو بعلوم الدين الإسلامي والشريعة الإسلامية، وبعد هذا إن شاء الله تعالى سنتحدث عن بداية التأليف في هذا العلم، وعن خصائص اللغة العربية، ونتحدث ربما قليلا عن أطوار التأليف في هذا العلم.
وأرجو أن يكون الموجودون هنا متابعين لأنه سيوجه إليهم أسئلة إن لم يُوجهوا أسئلة في نهاية الحلقة إن شاء الله تعالى.
وحتى يكون التواصل بيننا وحتى نُبعد الملل عن أنفسنا لابد أن يتخلل لقاءنا هذا وفي اللقاءات القادمة إن شاء الله بعض الحديث عما يتعلق بهذا العلم.
نبدأ بالحديث عن أهمية هذا العلم وهو النحو، النحو فرعٌ من فروع اللغة العربية، وهو فرعٌ له أهميته لما يترتب عليه من استقامة الألسنة، واستقامة حديث المُتحدث واستقامة اللسانين.
هم يجعلون القلم أحد اللسانين، واللسان الآخر هو اللسان المعروف المُتحدَّث به، فاستقامة اللسانين تستلزم منا أن نعرف أصول هذا العلم، ونعرف تركيب الكلام بعضه إلى بعض، ونعرف ما يتعلق به.
أقول أهمية هذا العلم -وهو علم النحو- تتبين لنا في حث عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قال: "تعلّموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم"، وكتب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فقال: "أما بعد، فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي"، هذا من كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أرسل أبي موسى الأشعري ذلك. قال ابن الأثير رحمه الله: وفي حديث عمر رضي الله عنه "تعلموا السنن والفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن"، والمقصود
باللحن الكلام وأصول العربية، وفي رواية أخرى "تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه"، والضمير هنا يعود إلى القرآن، كما تتعلمون القرآن تعلموا ما يتعلق به من العربية، قال ابن الأثير: يريد تعلموا لغة العرب بإعرابها، وقال الأزهري: معناه تعلموا لغة العرب في القرآن واعرفوا معانيه.
وبدون شك أن هذه النصوص نكتفي بها لأنها تضعنا على الطريق الصحيح لبيان مكانة هذا العلم ومنزلته، تعلمون يا أيها الأحباب أن علوم الدين الإسلامي متعددة ومتنوعة، وكل علمٍ يؤدي إلى مصلحة للإسلام والمسلمين فهو من علوم الدين الإسلامي، سواءٌ أكانت علاقته مباشرة بعلوم الدين الإسلامي أم كانت علاقة ليست مباشرةً تمامًا، وإنما هي بعيدة نوعًا ما، لكن في النهاية تصب في مصلحة المسلمين، فإذًا ما دامت حاجة المسلمين قائمةً إذا تعلموا علمًا من العلوم فإنه يُصبح تعلمه على الأقل فرض كفاية،
إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثم الجميع، وهذا العلم –أقصد علم النحو- ليس من فروض الكفاية وإنما هو وسيلةٌ لمعرفة كتاب الله عزّ وجلّ ومعرفة سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
نبدأ أولا بالعلاقة بين هذا العلم والقرآن الكريم، اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم لا تدرك أهميتها إلا بقدر ما تتعلق بمعرفة كتاب الله عزّ وجلّ ومعرفة أسراره، وبدون شكٍ يا أيها الأحباب أن معرفة أسرار التعبير في القرآن الكريم إذا لم تكن مدركًا بأصول هذا العلم وما يتعلق به أيضًا من التقديم والتأخير ومن الإيجاز ومن الإطناب وما شاكل ذلك من علوم البلاغة العربية، فإنك لن تصل إلى معرفة أسرار القرآن الكريم ومعرفة حقيقة ما أمر الله به عزّ وجلّ.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "وإنما يُعرف فضل من عرف كلام العرب وعلم العربية وعرف علم البيان ونظر في أشعار العرب وخطبها ومقالاتها في مواطن افتخارها ورسائلها وأراجيزها وأسجاعها فعلم منها تلوين الخطاب ومعدوله وفنون البلاغة ودروب الفصاحة وأجناس التجنيس وبدائع البديع ومحاسن الحكم والأمثال ، فإذا علم ذلك في هذا الكتاب العزيز ورأى ما أودعه الله سبحانه فيه من البلاغة والفصاحة وفنون البيان فقد أوتي فيه العجب العجاب"، هذه علاقة تعلم اللغة العربية بمعرفة أسرار كتاب الله عزّ وجلّ.
أما علم التفسير فقد اشترطوا فيمن يتصدى لهذا العلم أن يكون عالمًا باللغة العربية وبكل فنونها، وأولها فن النحو، فإنه إذا لم يكن متقنًا لهذا العلم فإنه يبعد عليه أن يكون مُفسرًا تفسيرًا قويمًا، لأن بعض الكلام فيه تقديم وفيه تأخير، انظروا مثلا إلى قول الله عزّ وجلّ ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، لو لم تعرف أن العلماء هنا يجب تأخيرها مع أنها فاعل لأنها هي المحصورة، لو لم تعرف هذا لنقص عليك شيءٌ وأنت تتصدى لتفسير كتاب الله عزّ وجلّ.
نص أبو حيّان في كتابه البحر المحيط فيما يحتاج إليه علم التفسير من علوم فقال: "النظر في كتاب الله تعالى يكون من وجوه، الوجه الأول: علم اللغة اسمًا وفعلا وحرفًا، ويؤخذ ذلك من كتب اللغة. الوجه الثاني: معرفة الأحكام التي للغة العربية من جهة إفرادها ومن جهة تركيبها، ويؤخذ ذلك من كتب النحو. الوجه الثالث: كون اللفظ أو التركيب أحسن وأفصح، ويؤخذ ذلك من علم البيان والبديع"، ثم ذكر أربعة أوجه أخرى تؤخذ من معرفة أسباب النزول وأصول الفقه وعلم العقيدة وعلم القراءات، هذه أصول من يريد التفسير، فإذًا لابد له أن يكون متقنًا لهذا العلم حتى يتصدى لهذا العمل.
ما علاقة هذا العلم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم؟ تعلمون يا أيها الأحباب أن الحديث هو المصدر الثاني للتشريع، ومعرفة أسراره ومعانيه والمراد منه والأحكام المستخلصة منه يتوقف على معرفة اللغة العربية نحوًا وصرفًا ولغةً وبلاغةً، وبخاصة أمثلة الأسماء وأبنية الأفعال وجهات الإعراب، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأدَّاها كما سمعها، فرب حامل فقهٍ غير فقيه، وربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يُلزمنا أن نعرف مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه حتى نبلغه كما أراد صلى الله عليه وسلم، هذه علاقتنا بعلم الحديث.
أما علاقتنا بعلم الفقه وأصوله، لاشك أن المطلع على أصول الفقه يعرف معرفةً تامةً مدى هذه العلاقة، وأن كثيرًا من أبواب أصول الفقه كأنك تدرسه في أبواب علم النحو، لا فرق بينهما في كثيرٍ من الأمور.
أما علم العقيدة فارتباطها بعلوم اللغة العربية ارتباطٌ وثيقٌ قويٌّ، ذلك أن العقيدة الصحيحة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة، وفهمها بتأويلٍ وبدون تأويل مُعتمدٌ على معرفة اللغة العربية وعلومها المختلفة، وللأسف الشديد فقد زاغ كثيرٌ ممن زاغ عن العقيدة الصحيحة بسبب عدم الفهم الصحيح للغة العربية، أو بسبب التأويل المنحرف عن القصد الحقيقي الصحيح، فزاغوا وأزاغوا مع الأسف الشديد.
هذه أبرز علوم الدين الإسلامي ومدى علاقتها باللغة العربية، وننتقل بعد ذلك إلى معرفة بداية التأليف في هذا العلم.
اعلموا يا أيها الأحباب أن هذا العلم –وهو علم النحو- اختلف في من كان له قصب السبق، وأكثر الأقوال وأقواها تقول إنه أبو الأسود الدؤلي بناءً على أمرٍ من الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ونحن هنا نقول إن سبب تأليف هذا العلم إنما هو- يا أيها الأحباب- توسع الفتوحات الإسلامية ودخول العجم بين العرب واختلاطهم بهم وفساد الألسنة بناءً على هذا الاختلاط.
ويُروى في الكتب التي تؤلف لتاريخ النحو روايات كثيرة، تبين هذه الروايات انتشار اللحن قبيل الأمر بالتأليف في هذا العلم، ويُروى في حديثٍ ضعيف أن رجلا لحن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم –وهو إن لم يكن موضوعًا فهو ضعيف-، لكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لحن هذا الرجل بحضرته قال ( أرشدوا أخاكم فقد ضل )، وأنا كنت في بدايات أول ما كنت أتحدث عن تاريخ النحو أذكر هذا الحديث حتى تبين لي أنه ضعيف.
على كل حال يُروى روايات أخرى عن صور من انتشار اللحن في الكلام، منها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ على قومٍ يُسيئون الرمي فقرّعهم وأنّبهم على ذلك، فقالوا له: إنَّا قومٌ مُتعلمين، فقال رضي الله عنه: والله لخطؤكم في لسانكم أشد عليّ من خطئكم في رميكم.
كما طلب عمر من أحد ولاته أن يُقنِّع كاتبه سوطًا، وهذا كتبه عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن قنِّع كاتبك سوطًا، لم؟ لأن أبا موسى الأشعري أمر كاتبه أن يكتب كتابًا لعمر بن الخطاب، فكتب في الكتاب "من أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب"، فرد عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "عزمتُ عليك لمَّا ضربت كاتبك سوطًا"، للحنه في قوله "من أبو موسى الأشعري"، والصور التي يذكرونها للحن كثيرة، وقبل قليل ذكرتُ لكم أن القول الصحيح والأقوى في من بدأ التأليف في هذا النحو أنه هو أبو الأسود الدؤلي بإشارة من الإمام علي رضي الله عنه، ويُقال إن أبا الأسود الدؤلي قدّم ورقة مكتوبة إلى علي بن أبي طالب كتب فيها تقسيم الكلام إلى اسمٍ وفعلٍِ وحرف، ثم قال "الاسم ما دلّ على المُسمَّى، والفعل كذا، والحرف كذا"، فأُعجب علي بن أبي طالب بهذا وقال: "ما أحسن هذا النحو الذي نحوْتَ"، لذلك يقول بعضهم إن السبب في تسمية هذا العلم بعلم النحو كلمة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه حينما قال "ما أحسن هذا النحو الذي نحوت"، والمقصود بكلمة نحو كما تعلمون أو كما ربما يتبادر إلى الذهن
هو الاتجاه أو القصد.
أما الحديث عن خصائص اللغة العربية، فاللغة العربية في الحقيقة اختصت بخصائص عديدة، ولها ميزات كثيرةٌ، ذكر بعضها المؤلفون، وأذكر لكم بعض الإيجاز عن هذه الخصائص التي اختصت بها لغة القرآن، يقول المؤلفون إن من أعظم خصائص اللغة العربية سعة مادتها، وغنى حصيلتها، ويدل على ذلك ما نُقل عن الخليل بن أحمد صاحب كتاب العين الذي ذكر أن ما يمكن تكوينه بتركيب أحرف الهجاء وتقليب الكلام، لأن كتاب العين للخليل بن أحمد مبنيٌّ على تقاليب الكلام، كيف ذلك؟ يقول مثلا كلمة "علم" مكونة من ثلاثة أحرف، العين واللام والميم، فيبدأ بمادة علم مثلا لأنها بالعين، وكتابه مُسمَّى بكتاب العين لأنه بدأه بحرف العين، فيقول يُعطيك معنى علم، ثم يُعطيك معنى "لمع"، ثم يُعطيك معنى "ملع" إذا كان لها معنى، ثم هكذا يُقلب تقاليب الكلمة، يُنسب إليه أنه يقول إن عدد التراكيب التي يمكن أن تكون من تقاليب الكلام بعضه إلى بعض في اللغة العربية يربو على اثني عشر ألف ألف، هذا كلامهم، والمقصود الآن اثني عشر مليون كلمة، طبعًا أكثر هذه التقاليب لا تُستعمل، وإنما يُستعمل آلافٌ محدودة قد أحصاها بعضهم فقال إن المواد التي يمكن أن تُركب لا تزيد على ثمانين ألف مادة.
الخاصية الثانية من خصائص هذه اللغة لغة القرآن الكريم، يذكر المؤلفون أن اللغة العربية من خصائصها أنها لغة الفكر والثقافة والعقيدة، لما يزيد على ألف مليون من المسلمين، وإنك لترى كل مسلمٍ مُلزمًا أن يتحدث على الأقل في صلواته ودعواته وأذكاره باللغة العربية، تجد المسلمين في شتَّى أنحاء العالم على الأقل لو لم يتحدَّثوا إلا في صلواتهم باللغة العربية وفي قراءة فاتحة الكتاب، فهي هذه اللغة لغتهم إلزامًا على الأقل في صلواتهم، وتجد كثيرًا من المسلمين يقرأ أو يتعلم هذه اللغة لأنها لغة القرآن الكريم، ولتقوى علاقته بهذا الكتاب وبسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالث هذه الخصائص للغة العربية أنهم يصفونها بأنها لغة اشتقاق، موادها كثيرة، ويمكن الاشتقاق من كل مادة صيغًا كثيرة تفي بحاجة العلوم ،وبحاجة المخترعات، وتؤدي المطلوب منها، وهذا الاشتقاق كما يذكر المؤرخون للغات عمومًا لا يوجد له نظير في كثرته وقبول كل مادة منه في اللغات الأخرى.
رابع هذه الخصائص تنوع أساليبها وعباراتها، فأنت تجد بعض الألفاظ فيها ألفاظٌ حقيقية، بعض الألفاظ فيها ألفاظٌ مجازية، بعض الألفاظ فيها ألفاظ مُكَنَّى بها، بعض الألفاظ فيها ألفاظٌ مُصرَّحٌ بها، فأساليبها متعددة، ولا توجد هذه الخاصية في كثيرٍ من اللغات الأخرى، لا أقول لا توجد في كل اللغات، كثير من اللغات لا توجد فيها مثل هذه الخاصية.
خامس هذه الخصائص لهذه اللغة أنها أقرب لغات الدنيا إلى قواعد المنطق، يعني تجد أن مخارج الحروف وتجد أن تركيب الحروف بعضها إلى بعض أقرب إلى المنطق كما يقول الدارسون للغات، أنا لا أقول هذا الكلام من عندي، ولكن الدارسين للغات نصوا على أن اللغة العربية أقرب إلى قواعد المنطق من أي لغة أخرى، وعباراتها سليمة طيِّعة تطاوع من أراد أن يصوغ منها صيغًا مناسبةً لمعانٍ متعددة.
سادس هذه الخصائص كما ذكر الأستاذ أنور الجندي في كتابه "الفُصحى لغة القرآن" أنه توصل علم اللغات المقارن -فيما نُقل عن الأستاذ محمد أديب السلاوي- قال إنها بلغت رقمًا قياسيًّا في الكمال، وإنها معبرةٌ بطبيعتها عن العلوم المختلفة، هذا الكلام يقوله من يُقارن بين اللغات ويوازن بينها.
سابع هذه الخصائص أن جميع مفرداتها قابلةٌ للتصريف إلا ما ندر، مما ندر كلمة "عسى" ما تتصرف، كلمة "ليس" لا تتصرف، كلمة "نعم" لا تتصرف، أيضًا شئ عام الحروف كلها لا تتصرف، أما الأفعال فهي قابلةٌ للتصريف، بل إن الأصل في التصريف للأفعال، الأسماء كذلك يمكن أن يكون الاسم مفردًا، يمكن أن يكون مثنى، يمكن أن يكون مجموعًا، يمكن أن يكون مصغرًا، يمكن أن يكون منسوبًا، وهكذا. إذًا كل مفرداتها تقبل التصريف إلا ما ندر، وهذا في الحقيقة يعنيننا على أن نصوغ لكل شيءٍ ما يخصه، متى ما أردنا إلى اسم الفاعل أتينا به، متى ما أردنا إلى اسم المفعول الذي وقع عليه الفعل أتينا به، وهكذا، فهذه اللغة والمفردات قابلةٌ للتصريف.
ثامنُ هذه الخصائص أنه نظرًا لسعتها وثرائها فإنه يوجد فيها ما يُسمَّى بالمترادفات، وهو تعبيرٌ عن الشيء الواحد بألفاظٍ متعددة، مثلا يذكرون أن للسيف عدد كبير من الأسماء، يذكرون للجمل كثير من الأسماء، هذا دليلٌ على ثراء هذه اللغة، إذا كان المعنى الواحد يمكن أن يُعبَّر عنه بألفاظٍ متعددة، فإن هذا دليلٌ على ثراء هذه اللغة.
يُقابل هذا ما يُسمَّى بالاشتراك وهو أن يكون اللفظ الواحد يُطلق على معانٍ متعددة، على سبيل المثال كلمة العين، تطلق على العين الجارية، تطلق على العين المبصرة، تُطلق على الجاسوس، وهكذا.
ولكن شيءٌ آخر ننبه عليه وهو أن بعضهم يقول لا يوجد ترادف لا في اللغة ولا في القرآن ولا في الشعر ولا في غيره، لم؟ قالوا كل لفظٍ له معنًى خاص به، فمثلا إذا قلت إن السيف يُطلق عليه اسم الفيصل، قال لأنه يفصل في القضايا لقوة من يستعمله، يُسمى حسامًا، يقول لا، هذا لا يُسمى حسامًا إلا إذا كان له كذا وكذا، مُهند، لا يُسمى مهندًا إلا إذا كان منسوبًا إلى الهند، وهكذا، فإذًا بعضهم ينفي وجود الترادف في اللغة، ويقول لا يوجد ترادفٌ في اللغة وإنما كل لفظٍ خاصٌ بالمعنى الذي أُطلق عليه، فهذا هو ثامن خصائص هذه اللغة.
من خصائصها التي يذكرها المؤرخون أيضًا أنها لا توجد في غيرها ما يُسمَّى بالإيجاز، المعنى الكبير تؤديه بألفاظٍ قليلة، ويقول بعضهم حينما عرّف البلاغة: البلاغة هي الإيجاز، وكتب بعضهم رسالةً مطوَّلةً جدًا ثم اعتذر في آخرها فقال: يؤسفني يا أخي أنه ليس عندي وقت للإيجاز، معنى هذا أن الإيجاز أصعب من الإطناب، وهذه خاصية اختصت بها هذه اللغة.
من خصائصها وهي الخاصية العاشرة أن مفرداتها غنية جدًا ويمكن زيادتها عن طريق الاشتقاق والتوليد إلى ما لا نهاية، مثلا نأخذ الجذر "سَلِمَ"، سَلِمَ معناها نجى، و"سَلَّمَ" –اختلفت الصيغة بمجرد زيادة حرف- معناها ألقى التحية، و"سالم" دخل في السلم، و"أسلم" انقاد، و"الإسلام" الخضوع لله، و"تَسَلَّمَ" أخذ شيئًا، و"استلم" لمس الحجر الأسود بالشفة أو باليد، وهناك "مُسلم" و"مُتسلِّم" و"مُسالم" وإلى آخره، صيغٌ كثيرةٌ وكل صيغة لها معنى جديد.
من الخصائص أيضًا أن بعض صيغها لا يمكن التعبير عنه باللغات الأخرى كما يقول المؤرخون للغات، يقولون صيغة "تفاعل" و"انفعل" و"افتعل" و"استفعل" هذه الصيغ ليست موجودةً في اللغات الأخرى، وإنما لابد أن يؤتى بكلمتين أو بثلاث كلمات حتى يؤدى معنى التفاعل أو التفعل أو الانفعال أوالاستفعال أو ما شاكل ذلك كما يقول أيضًا مؤرخو اللغة، ونحن نبرأ إلى الله إذا كان هذا الكلام غير صحيح.
من الخصائص أيضًا أنه لم يدخل في اللغة العربية من اللغات الأخرى إلا ألفاظ قليلة محدودة، هذا طبعًا عند بداية التأليف في علوم اللغة، لمَّا نقلوا العلوم الأخرى لم يحتاجوا إلى أن ينقلوها بالغات التي نُقلت منها مثل علم الطب وعلم الفلسفة وعلم الفلك وما شاكل ذلك، لم ينقلوها بألفاظ الذين ألّفوا بها، ولكنهم استغنوا بمادة هذه اللغة فألَّفوا بها الكتب، ولم يدخل إلا ألفاظٌ قليلةٌ محدودة.
أبرز خصائص هذه اللغة أن أبناءها المتحدثين بها بعد ألفٍ وخمسمائة سنة أو أكثر لا يزالون يفهمون ما كُتب بها منذ مئات السنين، في حين أن اللغات الأخرى يكاد يستحيل أن يقرأ غير المتخصصين ما كُتب بها بعد بضع مئاتٍ من السنين، وهذه الحقيقة لا ينكرها أحدٌ من أصحاب اللغات الأخرى، والسبب في هذا يا أيها الأحباب هو أن هذه اللغة حُفظت بحفظ كتاب الله عزّ وجلّ، يقول الله سبحانه وتعالى ﴿ أنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، هذه اللغة لغة دين، ولغة كتاب، والمحافظة عليها تؤجر عليها إذا قصدت بها خدمة كتاب الله عزّ وجلّ، والله سبحانه وتعالى تكفّل بحفظ كتابه فحُفظت هذه اللغة، ولذلك تجد كثيرًا ممن يريد الهجوم على كتاب الله عزّ وجلّ أو الهجوم على الدين الإسلامي ما يستطيع أن يهاجم مباشرةً على كتاب الله خاصةً ممن في قلوبهم زيغ، ولكنه يأتي إلى اللغة فيهجم عليها بغرض أن يتوصل من هجومه هذا إلى الهجوم على كتاب الله عزّ وجلّ، فيدعو إلى الكتابة مثلا بالأحرف اللاتينية، يدعو إلى العامية، وما شاكل ذلك، فلا يستطيع أن يهجم مباشرةً على كتاب الله عزّ وجلّ، أو يتخفى من وراء هجومه على كتاب الله عزّ وجلّ بهجومه على اللغة العربية لغة القرآن الكريم، وهذا الجانب في الحقيقة تصدى له كثيرٌ ممن أراد الله عزّ وجلّ أن يجعل على أيديهم الخير فدافعوا، والحمد لله رب العالمين أن كل الدعوات ما تلبث أن تضمحل وتنصرف عن ذلك.
من خصائص اللغة أيضًا خاصية أخرى وهي خاصية التوليد والاشتقاق، فيبقى معك بعض الأحرف ثم تولد مادةً أخرى، وتصوغ منها مواد أخرى حتى تصل إلى مرادك للمجيء بألفاظٍ جديدة لمسمياتٍ جديدة أنت مُحتاجٌ إليها.
هذه أبرز الخصائص التي تتعلق باللغة العربية.
ونقف عند هذا الحد في هذا اليوم، ونستمع إن كان لديكم أسئلة متعلقة بهذه المقدمة، وفي حلقتنا القادمة إن شاء الله تعالى سنبدأ في شرح الآجرومية، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.
أتلقى منكم الأسئلة إذا كان لديكم سؤال أو أنا أسألكم إذا كنتم مستعدين لذلك.
سأل أحد الطلبة:
أحسن الله إليكم يا شيخ، حضرتك قلت في أول الكلام أن هذه اللغة ليست فرض كفاية، فهي فرض عينٌ لأهميتها في فهم هذا الدين.
أجاب الشيخ:
بارك الله فيك يا أخي وجزاك خيرًا، هذا سبق لسان، لعله إذا قام بأصولها وما تحتاج إليه من يكفي فلعله يسقط الإثم عن الباقين، ولا أستطيع أن أحكم بأنها فرض عين على كل مسلم وإلا ألزمنا كل المسلمين بما لا يستطيعون، فربما كان هذا سبق لسانٍ مني، جزاك الله خيرًا على هذا التنبيه. ولكن هذه اللغة فعلا أقل ما يُقال إن تعلمها من فروض الكفاية، إذا لم يقم به من يكفي فإنه سيأثم الجميع، والحمد لله أنه على مر الزمن يوجد من يقوم بأمر هذه اللغة ومن يعتني بها، والحمد لله أولا وآخرًا.
سأل الشيخ:
من ترون أنه هو أول من بدأ في التأليف في علم النحو؟
أجاب أحد الطلبة:
ذُكر في أول من ألف في النحو عدة أقوال، وأقواها كما ذكرتم أبو الأسود الدؤلي بأمر من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
سأل الشيخ:
هل تعرفون أشخاص آخرين غير علي بن أبي طالب وأبو الأسود الدؤلي يمكن أن ينسب إليه هذا العلم؟
أجاب أحد الطلبة:
نُسب هذا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكنه لا يوجد له سند.
سأل الشيخ الطالب الذي أجاب:
يعني هل نُسب إليه أنه بدأ في التأليف هو؟
أجاب الطالب:
لا، هو أول من أمر.
علق الشيخ:
أما هذا فعلا، يُنسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بالتأليف في علم اللغة، بل إنه تذكر رواية أن أعرابيًّا دخل المدينة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسمع القارئ يقرأ قول الله عزّ وجلّ ﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3]، كان هذا القارئ يقرؤها "أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ" فقال الأعرابيُّ: وأنا أبرأ مما بريء الله منه، فأُخذ الأعرابي إلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، فلما سأله قال: إني سمعت كذا وكذا، فأمر عمر رضي الله عنه ألا يُعلم القرآن إلا من عنده معرفةٌ باللغة العربية وبما يُحيل المعنى أو يقلب المعنى، وأنتم ترون في مثل هذا أنه قلب الله، يعني أن الله تبارك وتعالى يتبرأ من المشركين ويتبرأ من رسوله، وهذا لم يحصل، وإنما
الموجود في القرآن الكريم ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ أي ورسوله أيضًا بريءٌ من المشركين.
يُقال أيضًا إن عمر بن الخطاب أول من أمر بالتأليف في النحو، ويُقال أيضًا إنه علي ابن أبي طالب، ويُقال إن أبا الأسود الدؤلي من نفسه، ويُقال إن أبا الأسود الدؤلي كان مع ابنته فسمعها تقول: يا أبت ما أحسنُ السماءِ، فقال لها: نجومها، قالت: يا أبت أنا لا أسأل وإنما أتعجب، قال: إذًا فافتحي فاكِ وقولي: ما أحسنَ السماءَ، ولعل هذا من الأشياء التي دعت أبا الأسود الدؤلي، وفيه قصص كثيرة تُذكر في سبب تأليف هذا العلم.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله
وصحابته أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.