جوازم الفعل المضارع
 

الدرس التاسع من سلسلة شرح المقدمة الآجرومية للشيخ حسن الحفظي

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أيها الإخوة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لازلنا نواصل الحديث في شرح مقدمة ابن آجروم النحوية، وقد وصلنا في اللقاءات الماضية إلى الحديث في جوازم الفعل المضارع، وأنهينا الحديث في بعضها، ونعيد ذكر الجوازم حتى نتذكرها، وبعدها إن شاء الله تعالى نتحدث في الحرف أو في الكلمة التي وصلنا إليها من أدوات الشرط، إذ يقول ابن آجروم ( والجوازِمُ ثمانيةَ عَشَر، وهي: لَمْ، لَمَّا، ألَمْ، ألَمَّا،ولام الأمر والدعاء،ولا في النَّهيِ والدعاء، وإِنْ ، ومَنْ، ومهما، وإِذْما، وأَيُّ، ومتى، وأَيَّانَ، وأينَ، وأَنَّى ، وحَيثُمَا، وكيفما، وإذا في الشِّعر خاصة )، وقد وصل الحديث بنا إلى "أنَّى"، وقلنا إن كلمة "أنّى" لم ترد في القرآن الكريم شرطية، وإنما وردت استفهامية، ومما وردت فيه استفهاميةً قول الله عزّ وجلّ ﴿ قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [البقرة: 259]، ومنه قوله سبحانه ﴿ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 37]، وأما ورودها شرطية فقد ورد في الشعر، ومنه قول الشاعر:
فأصبحت أنّى تأتها تستجر بها        تجد حطبًا جزلا ونارًا تأجج
فعندنا "أنّى" هنا، وقد اتفقنا فيما مضى على أنها اسم، فـ "أنّى" هذه أداة الشرط، وهي اسمٌ، و"تأتِ" هذا هو فعل الشرط، ومجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة، و"تستجر" هذا بدلٌ من فعل الشرط "أنّى تأتها تستجر بها تجد حطبًا"، لأن الجواب في قوله "تجد حطبًا"، ومنه قول الشاعر أيضًا:
خليليَّ أنّى تأتياني تأتيا أخاً        غير ما يرضيكما لا يُحاوِلُ
"أنّى تأتياني تأتيا"، فـ "تأتياني" هذا هو فعل الشرط، أما النون الموجودة هذه فليست نون الرفع في الفعل المضارع، وإنما هي نون الوقاية، وقد ذكرتُ لكم أن ياء المتكلم يجب أن يكون ما قبلها مكسورًا، ولذلك حتى يسلم الفعل من الكسر أتوا له بنون الوقاية حتى تقيه من الكسر، فالنون الموجودة هنا هي نون الوقاية، بقي أن نعرف أن جواب الشرط هو قوله "تأتيا"، وهو مجزوم وعلامة جزمه حذف النون.
الأداة السابعة عشرة هي "حيثما"، وهي اسم شرطٍ قولا واحدًا لا خلاف في ذلك، وهي متضمنةٌ للظرفية المكانية، ومما وردت فيه في القرآن الكريم شرطية قول الله عزّ وجلّ ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 150]، فـ "حيثما" هي الأداة، و"كان" هو فعل الشرط، وجملة ﴿ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ هي جواب الشرط.
أما الأداة الثامنة عشرة هي "كيفما"، وقد تبع المصنف رأي الكوفيين في عد كيفما من أدوات الشرط، وبعضهم لا يعدها أداة شرطٍ، ولم ترد شرطية في القرآن الكريم، وإنما وردت بدون ما ـ  في القرآن الكريم  ـ استفهامية، ومن ذلك قول الله عزّ وجلّ ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [النمل: 69]، أما ورودها شرطية فيمكن أن تمثل له بقولك "كيفما تكن أكن معك"، فـ "كيفما" هي الأداة، و"تكن" هو فعل الشرط، و"أكن" هو جواب الشرط.
بقيت الأداة الأخيرة التي ذكرها المصنف، وكثيرٌ من النحويين لا يذكرها، وهي "إذا"، لأن الأصل في "إذا" أنها ظرفٌ لما يُستقبل من الزمان، وأنها أداة شرطٍ غير جازمة، لكنه أوردها لأنه يرد الجزم بها لكن في الشعر خاصة، لا تأتي جازمة إلا في الشعر، بل هو نص في كتابه على أنها لا تجزم الأفعال إلا في الشعر خاصة، والنحويون حينما يعربونها يقولون "إذا" ظرفٌ لما يُستقبل من الزمان، خافضٌ لشرطه، منصوبٌ بجوابه، معنى هذا أنها تحتاج إلى جملة شرطية وتحتاج إلى جملة جوابية، فأما جملة الشرط فهي في محل جر مضاف إليه، لم؟ لأن إذا من الأدوات التي تحتاج دائمًا إلى أن تكون مضافةً إلى جملة، فتُضاف إلى جملة الشرط، وهي ظرف والظرف يحتاج إلى مُتعلق، فمتعلقه هو جواب الشرط.
هذا في إعراب النحويين، أن "إذا" ظرف لما يُستقبل من الزمان، خافضٌ لشرطه، منصوبٌ لجوابه، وبعضهم يقول "إذا" شرطية غير جازمة، ولم يرد جزمها لفعل الشرط إلا في الشعر، وقد يكون هذا من باب الضرورة، ومنه ما ورد في قول الشاعر:
استغني ما أغناك ربك بالغنى         وإذا تصبك خصاصةٌ فتجمل
هنا "تُصب" أصله "تُصيب"، ولكن لمّا دخلت عليه "إذا" هنا واحتاج في الوزن حذف الياء هذه وسكّن الباء فصارت مجزومة، صار فعلا مضارعًا مجزومًا بـ "إذا" الشرطية، وهي لا تجزم ـ كما قلت أكثر من مرة ـ إلا في الشعر خاصة. وهذا هو الحديث عن آخر أداة ذكرها المصنف في الأدوات التي تجزم الأفعال المضارعة.
وبعد هذا ننتقل إلى باب جديد، وإلى منحًى آخر، وهو الحديث عن الجمل، وقد بدأ بالحديث عن الجمل الاسمية، ذلك أنه تحدث عن باب مرفوعات الأسماء، فقال ( باب مرفوعات الأسماء )، ثم قال (المرفوعاتُ سبعة، وهي: الفاعل ، والمفعول الذي لم يُسَمَّ فاعِلُهُ، والمبتدأ وخبره،واسم كان وأخواتها، وخبر إنَّ وأخواتها، والتابع للمرفوع، وهو أربعة أشياء: النَّعتُ، والعطفُ، والتوكيد، والبَدَل )، وهذا بابٌ طويـــلٌ جدًا، لأنه ليس بابًا واحدًا وإنما هو أبوابٌ متعددة .
نبدأ في حديث المصنف عن الباب الأول من المرفوعات، وهو باب الفاعل، والفاعل يا أيها الأحباب عمدة، والعمدة لا يجوز حذفه ولا إسقاطه، والفاعل حكمه أنه يستحق الرفع، ولذلك ذكر المصنف باب الفاعل في أول أبواب المرفوعات، قال المصنف رحمنا الله وإياه: ( باب الفاعل:الفاعل:هو الاسم المرفوعُ المذكورُ قبلَهُ فِعلُهُ ) وهنا ذكر لنا بعض الأحكام المتعلقة بالفاعل، ذلك أن الفاعل حقه أن يكون مرفوعًا، وأيضًا حق الفاعل أن يتقدم عليه عامله، والعامل قد يكون فعلا وقد يكون غير فعل، قد يكون فعلا كقولك "قام عبد الله"، وقد يكون غير فعل نحو قوله عزّ وجلّ ﴿ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ﴾ [النحل: 69]، فـ ﴿ مُخْتَلِفٌ ﴾ اسم فاعل، و ﴿ أَلْوَانُهُ ﴾ فاعلٌ به، ومع ذلك فهو ليس فعلا وإنما هو اسم فاعل، طبعًا الفاعل قال المصنف في تعريفه ( هو الاسم )، ومعنى ذلك أنه يخرج من عندنا الفعل، فالفعل لا يكون فاعلا، ويخرج من عندنا الحرف، فالحرف لا يكون فاعلا، فلابد أن يكون الفاعل اسمًا، ثم قال ( المرفوع )، والمرفوع هذا حكم من أحكام الفاعل، وأحكامه سبعة كما يذكرها بعض النحويين، فالمرفوع هذا حكمٌ من أحكام الفاعل، وكان الأولى أن يؤجل الحديث عن حكمه حتى ننتهي من تعريفه، لكن المصنف هذا شأنه في كثيرٍ من الأبواب، وسيتبين ذلك إن شاء الله تعالى.
المهم أن الاسم المرفوع المذكور قبله فعله هو الفاعل، وطبعًا قد يكون اسمًا صريحًا مثل قولك "قام محمدٌ"، أو "حضر عبد الله"، وقد يكون اسمًا مؤولا، يعني أن يكون "أنْ" وما دخلت عليه، أو "أنّ" وما دخلت عليه، أو "لو" وما دخلت عليه، يعني قد يكون مصدرًا مؤولا، ومن ذلك قول الله عزّ وجلّ ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ [العنكبوت: 51]، فـ"يكفي" هذا فعل، والهاء هنا مفعولٌ به، الميم للجمع، وأنّ وما دخلت عليها في تأويل المصدر فاعل، وتأويله والله أعلم "أولم يكفهم إنزالنا"، فالفاعل هنا ليس اسمًا صريحًا وإنما هو مصدرٌ مؤول.
ثم قال المصنف رحمه الله ( المذكور قبله فعله )، قد يكون الرافع للفاعل فعلا، كقولك حضر زيدٌ، وقد يكون الرافع له اسم فاعل كما ذكرنا قبل قليل، ومنه قول الله عزّ وجلّ ﴿ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ﴾ [النحل: 69]، فـ ﴿ مُخْتَلِفٌ ﴾ هذا اسم فاعل، و ﴿ أَلْوَانُهُ ﴾ هذا فاعلٌ، والذي عمل فيه الرفع هو اسم الفاعل، وقول المصنف ( المذكور قبله فعله ) هذا يشترطه البصريون أنه لابد أن يكون الفعل متقدمًا على الفاعل وإلا فلا يُعتبر فاعلا، يعني إذا قلتَ مثلا "محمدٌ حضر"، من الذي فعل الحضور؟ طبعًا هو محمدٌ، لكنه لا يُعرب هنا فاعلا، لأنه تقدم على عامله، هذا هو القول المعتد به، وإن كان الكوفيون يرون جواز تقديم الفاعل على فعله، فيعربون "محمدٌ" هنا فاعلا، ولا يهمهم قوله متقدم، لكن الصواب والله أعلم أن "محمدٌ" هنا مبتدأ، و"قام" فعل ماضٍ، والفاعل ضميرٌ مستترٌ يعود على محمد، والجملة هذه واقعة في محل رفع خبر المبتدأ "محمدٌ".
قال المصنف ( وهو ) يعني الفاعل، ( على قسمين: ظاهر ومضمر )، المقصود بقوله ( ظاهر ) يعني أنه يكون اسمًا ظاهرًا، وأما المقصود بقوله إنه مضمر، فالمقصود به الضمائر، ثم قال المصنف رحمه الله ( فالظاهر نحو قولِك: قام زيدٌ، ويقوم زيدٌ، وقام الزَّيدانِ، ويقومُ الزَّيدانِ، وقامَ الزَّيدونَ، ويقوم الزَّيدون، وقام الرجالُ، ويقومُ الرجالُ )، أما قوله ( قام زيدٌ ) فالفاعل هنا اسمٌ ظاهرٌ مفرد، وأما قوله ( ويقوم زيدٌ ) فلا اختلاف بينهما في الفاعل، وإنما الاختلاف في العامل، لأن الأول عامله فعلٌ ماض، والثاني عامله فعلٌ مضارع، ولا إشكال.
ثالث الأمثلة ( وقام الزَّيدانِ )، ( الزَّيدانِ ) هنا مثنى، والعامل الذي رفع قوله ( الزَّيدانِ ) هو قوله (قام)، وهو هنا فعلٌ ماضٍ، مثله قوله ( وقامَ الزَّيدونَ )، فإن العامل هنا أيضًا فعلٌ ماضٍ، و ( الزَّيدونَ ) فاعلٌ ولكنه جمع مذكرٍ سالم، ( الزَّيدانِ ) مثنى ومرفوع بالألف، و( الزَّيدونَ ) فاعلٌ، وهو مرفوعٌ أيضًا وعلامة رفعه الواو.
أما قوله ( ويقوم الزَّيدون ) فهو من حيث الفاعل واحد، لأن الفاعل هنا جمع مذكر سالم مرفوعٌ وعلامة رفعه الواو، أما عامله الذي رفعه فهو قوله ( يقوم ) وهو هنا فعلٌ مضارع.
أما المثال الخامس فهو قوله ( وقام الرجالُ )، ( الرجالُ ) هنا جمع تكسير، وهو مرفوعٌ وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، والذي رفعه فعلٌ ماضٍ، ومثله من حيث الفاعل قوله ( يقومُ الرجالُ ) لأنه جمع تكسير أيضًا، لكن العامل هنا تغير وهو أنه فعلٌ مضارع، ولا إشكال فيه، والحمد لله رب العالمين.
وطبعًا لا يضير يا بني أن يكون الفاعل مذكرًا أو مؤنثًا، ولا يضير أن يكون معرفةً أو نكرة، كله واحد لا إشكال، فهذا حكمه أولا أنه عمدة، حكمه ثانيًا أنه مرفوع، حكمه ثالثًا أنه يأتي بعد العامل، والعامل قد يكون غير فعلٍ. أنبه هنا إلى شيءٍ آخر وهو أن الفاعل قد يجيء مجرورًا لفظًا ولكنه مرفوعٌ محلا، وهذا في حالتين: حالة يكون مجرورًا بحرف جرٍ زائد، نحو قول الله عزّ وجلّ ﴿ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ ﴾ [المائدة: 19]، فـ ﴿ بَشِيرٍ ﴾ هنا فاعل، وهو مجرورٌ بـ ﴿ مِنْ ﴾، مجرورٌ لفظًا مرفوعٌ محلا، لأن حقه أن يكون مرفوعًا، ومثله قول الله عزّ وجلّ ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 79]، فلفظ الجلالة هنا مرفوعٌ، لأنه فاعل لـ ﴿ كَفَى ﴾، ولكنه مجرورٌ في اللفظ بالباء الموجودة هذه.
ومنه أيضًا نوعٌ آخر يكون الفاعل مجرورًا بإضافة المصدر إليه، ومنه قول الله عزّ وجلّ ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ [البقرة: 251]، ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ ﴾ الذي يدفع هو الله سبحانه وتعالى، وهو هنا فاعل، لكن مجرورٌ لفظًا، ولك في إعرابه وجهان، أن تقول لفظ الجلالة هنا مضاف إليه مجرور وتسكت، ويمكن أن تقول لفظ الجلالة هنا فاعل مجرورٌ لفظًا مرفوعٌ محلا من إضافة المصدر إلى عامله.
هذا، وقد قال المصنف بعد هذا من ضمن الأمثلة التي ذكرها للفاعل، قال ( وقامَ أخوكَ، ويقوم أخوك)، وهذان المثالان متشابهان من حيث الفاعل، لأن الفاعل اسم من الأسماء الخمسة مرفوع وعلامة رفعه الواو، لكن الاختلاف بينهما في العامل، فالعامل في الأول فعلٌ ماضٍ، والعامل في الثاني فعلٌ مضارع، وهذه سهلة.
أما قوله بعده ( وقامَ غُلامي، ويقومُ غُلامي )، فهذا فيه إشكالٌ يسير، وهو أن الفاعل هنا مضاف إلى ياء المتكلم، وقد ذكرنا أكثر من مرة أن المضاف إلى ياء المتكلم لابد أن يكون ما قبل الياء فيه مكسورًا، لذلك نقول عند إعرابه إن كلمة غلام هنا فاعل مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، و"قام" و"يقوم"، "قام" هنا فعل ماضٍ، و"يقوم" هذا
فعلٌ مضارعٌ ولا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين.
وقد ذكر المصنف في البداية أن الفاعل نوعان، ظاهرٌ ومضمر، وسترون هنا أن الضمائر التي ذكرها في أمثلته كلها ضمائر متصلة، هل يأتي الفاعل ضميرًا منفصلا؟ نعم، ولكنه لابد أن يوجد فاصل نحو قولك مثلا "ما قام إلا هو"، و "ما قام إلا أنت"، و"ما حضر إلا أنا"، هذا هو الفاعل إذا كان ضميرًا متصلا لابد أن يوجد فيه فاصلٌ حتى يكون هو الفاعل، أما المذكور هنا فهو كله ضمائر متصلة.
قال المصنف ( والمُضمَر اثنا عشر، نحو قولك: ضَربْتُ، وضربْنَا، وضَرَبْتَ، وضَرَبْتِ، وضربْتُمَا ، وضربْتُم، وضرَبْتُنَّ، وضَرَبَ، وضَرَبَتْ، وضَرَبَا، وضَرَبُوا، وضَرَبْنَ )، كل هذه الضمائر ظاهرة إلا في موضعٍ واحد، وهو قوله ( ضَرَبَ )، فإن فاعله ضميرٌ مستتر، لكن البقية ظهر فيها الفاعل، فنبدأ بقوله ( ضربتُ )، فالتاء هنا ضمير المتكلم الواحد، وهو فاعلٌ مبنيٌّ على الضم في محل رفع، والبقية كلها يا أيها الأحباب مبينة في محل رفع، لذلك لا نحتاج إلى تكرار هذا، لأننا كما قلنا قبل إن الضمائر كلها مبنية.
و ( وضربْنَا )، "نا" هنا هي "نا" الفاعلين، وتصلح للواحد المعظم نفسه، ومنه قول الله عزّ وجلّ ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وهي في الأصل ليست للواحد، لكنها لأكثر من واحد، سواء كان المتكلم اثنين أو أكثر، وسواء أكانا مذكرين أم مؤنثين أم ذكورا أم إناثا، فإن "نا" تصلح للجميع، تصلح لما عدا الواحد، إلا أن الواحد أيضًا المعظم لنفسه تصلح له أيضًا، هذه "نا".
أما قوله ( ضَرَبْتَ، وضَرَبْتِ، وضربْتُمَا ، وضربْتُم، وضرَبْتُنَّ ) فهذه كلها ضمائر المخاطب، أما الأول فهو المفرد، وأما الثاني وهو ( ضَرَبْتِ ) فالمفردة، وأما ( ضربْتُمَا ) فهو للاثنين، سواءٌ أكانا مذكرين أم مؤنثين، وأما ( ضربْتُم ) فهو لجماعة الذكور، وأما ( ضرَبْتُنَّ ) فهو لجماعة الإناث.
ننتقل إلى ضمير الغيبة، أما ضمير الغيبة فقد ذكر المصنف فيه ( ضَرَبَ ) في اللفظ الأول، والفاعل هنا ليس ظاهرًا، وإنما هو مستتر، وهو ضمير تقديره "هو"، ولابد أن يكون هناك شيءٌ يعود إليه هذا الضمير، مثل "محمدٌ ضرب"، أما قوله ( ضَرَبَا ) فالألف هنا للاثنين، لو كان مؤنثًا لقال ضربتا، أما ( ضربوا ) فهي لجماعة الذكور، وأما ( ضربنّ ) فهي لجماعة الإناث.
وكما ترون يا أيها الأحباب أنبه إلى شيءٍ آخر، وهو أن الفعل الماضي في هذه الأوجه مبنيٌّ، والذي هو مبنيٌّ عليه إما أن تكون مبنيٌ على السكون لاتصاله بضمير الرفع المتحرك، وإما أن تكون هو مبنيٌّ على الفتح وإنما سُكّن آخره لاتصاله بضمير الرفع المتحرك، وهذا أولى، لكن الثاني جائز، ولا إشكال فيه، والثاني أسهل وأيسر، طبعًا إلا في قوله ( ضَرَبَ ) فهذا مبنيٌّ على الفتح ظاهر، وفي قوله ( ضربا ) هذا مبنيٌّ على الفتح لأنه لم يتصل بمتحرك، لأن الألف هنا ساكنة.
هذا آخر ما يُقال في باب الفاعل، وإن كان فيه بعض الأحكام، وهي من حيث الأصل في ترتيب الجملة الفعلية التي فيها فاعل، الأصل أن يُبدأ بالفعل ثم يُذكر الفاعل بعده ثم يُذكر المفعول به، وقد يُخالف هذا الأصل، وأحيانًا تكون المخالفة واجبة، وأحيانًا تكون المخالفة جائزة، وقد يُلتزم هذا الأصل وجوبًا.
أذكر لكم بعض هذه المواضع فقط ولن أطيل فيها، نبدأ بالتزام الأصل، التزام الأصل إما جائز وإماواجب، فالجائز نحو قولك "أكرم محمدٌ عليًّا"، يمكن أن تقول "أكرم عليًّا محمدٌ"، ويمكن أن تقول "عليًّا أكرم محمدٌ"، ما فيه إشكال، هذه صورة، وهذه صورة جائزة.
فيه صورة أخرى واجب التزام الأصل، كقولك "أكرم موسى عيسى"، لأن الفاعل هنا لا تظهر عليه علامة أنه مرفوع، ولا تظهر علامة النصب على المفعول به، فإذا لم توجد في الكلام قرينة لفظية ولا معنوية فإنه يجب التزام الأصل، يعني يجب أن يكون المتقدم في هذين اللفظين ـ أعني موسى وعيسى ـ هو الفاعل، فإذا ظهر في الكلام ما ينبئ بأن المتقدم هو المفعول به والفاعل هو المتأخر فلا إشكال، مثلا قولك "أرضعت الصغرى الكبرى"، طبعًا المرضع هو "الكبرى"، هذه قرينة معنوية، لا مانع، و"أكل الكمثرى موسى"، الآكل هو موسى، لا مانع أن يتأخر لأنه معروف، "أكرم موسى العاقلَ عيسى"، عيسى أخرناه، لماذا مع أنه فاعل، ويوجد تشابه والحركة غير ظاهرة؟ لا، فيه ظهور وهو أن موسى هذا موصوفٌ بقوله العاقل، معنى هذا أن المتقدم مفعول به وأن الفاعل متأخر، هذا من ناحية التزام الأصل وعدم التزامه.
أحيانًا يجب توسط المفعول به بين الفعل والفاعل، يذكرون من شواهده قول الله عزّ وجلّ ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ﴾ [البقرة: 126]، توسط المفعول به بين الفعل والفاعل وجوبًا، لم؟ لأنك لو أخرت المفعول به وأتيت بالترتيب فقلت في الكلام العادي "وإذ ابتلى ربُه إبراهيم" لعاد الضمير في "ربه" على كلمة إبراهيم وهي متأخرة لفظًا ورتبة، وهذا لا يجيزه معظم النحويين.
ومن مخالفة الأصل وجوبًا، وذلك بتقديم المفعول به على الفعل والفاعل أن يكون المفعول به من الألفاظ التي لها الصدارة، كأن يكون اسم استفهام مثلا، أو أن يكون اسم شرط، كقول الله عزّ وجلّ ﴿ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الإسراء: 110]، ﴿ أَيًّا ﴾ هنا مفعول به مقدم وجوبًا، لم؟ لأن أسماء الشرط لها الصدارة، "أيّ رجلٍ قابلت؟"، هذه أيضًا من الألفاظ التي لها الصدارة فيجب تقديمها.
فإذًا في بعض الأحيان يجب التزام الأصل، في بعض الأحيان يجب مخالفة الأصل، وفي بعض الأحيان تكون المسألة جائزة، والحمد لله رب العالمين.
بقي نقطة أخرى، لكن ربما يذكر المصنف هذا الكلام فيما بعد، لكن إن ذكرها ما أعدنا شرحها، وإن لم يذكرها فنكون قد شرحناها، وهي أن الفاعل قد يكون مؤنثًا، وقد يكون مؤنثًا تأنيثًا حقيقيًّا، فيجب أن تُلحق علامة بالفعل تدل على أن الفاعل مؤنث، كقولك "أكرمت هندٌ جارتها"، فالتاء في "أكرمت" واجبة الذكر، لأن "هند" مؤنث حقيقي التأنيث غير مفصولٍ عن عامله. هل يجوز لنا مع كون الفاعل مؤنثًاحقيقي التأنيث ألا نؤنث الفعل أو ألا نلحق به علامة دالة على التأنيث؟ نعم، لكن بشرط أن يُفصل بين الفعل والفاعل، يعني يمكن أن تقول "أكرمت اليوم هندٌ جارتها"، ويمكن أن تقول "أكرم اليوم هندٌ جارتها"، لأن هند فُصلت عن العامل مع أنها مؤنث حقيقي التأنيث.
وجه ثاني، وهو أنه إذا كان الفاعل مؤنثًا مجازي التأنيث فإن لك أن تؤنث الفعل ولك أن تذكره، فتقول مثلا "نمتْ الشجرة"، و"طلعت الشمس"، ويمكن أن تقول "نمى الشجرة" و"طلع الشمس"، ولا إشكال فيه، إذًا إذا كان الفاعل مجازيًّ التأنيث أو كان الفاعل مؤنثًا مفصولا عن عامله جاز لك أن تؤنث الفعل وأن تذكره.
بقيت نقطة من أحكام الفاعل ضرورية جدًا، وهي أن الفاعل قد يكون مثنًّى، وقد يكون مجموعًا، فهل نلحق بالعامل علامة تدل على أن الفاعل مثنًّى أو مجموع كما فعلنا مع المؤنث؟ الجواب أن الكثير في كلام العرب ألا يُلحق، وهذا هو الوارد في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كثيرٍ مما ثبت عمن يُحتج بكلامهم، قال الله عزّ وجلّ ﴿ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ﴾ [الفرقان: 8]، وقال سبحانه ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ﴾ [يوسف: 30]، فلم يرد هنا دلالة على أن الفاعل جماعة، وقال الله سبحانه وتعالى ﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ ﴾ [المائدة: 23]، فـ ﴿ قَالَ ﴾ مسند إلى مثنّى وهو ﴿ رَجُلَانِ ﴾، ومع ذلك لم يلحق بالفعل علامة تدل على أنه فاعل مثنى، وهذا هو الغالب الكثير من كلام العرب.
ولكن قد ورد في القرآن الكريم وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وفي بعض كلام العرب ـ وهو كثير ـ، لكنه ليس مقاربًا أبدًا لعدم ذكر هذا، ورد إلحاق علامة تدل على أن الفاعل مثنى أو مجموع، ومنه قول الله عزّ وجلّ ﴿ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ [الأنبياء: 3]، وقوله سبحانه ﴿ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 71]، وقوله صلى الله عليه وسلم ( يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكة بالنهار ). وقول الشاعر:
يلومونني في اشتراء النخيل أهلي
وقول الآخر:
أُلفيتا عيناك عند القفا          أولى فأولى لك ذا وقيه
وقول الشاعر أيضًا:
نتج الربيعُ محاسنـــاً     ألقحنها غرُّ السحائـــب
هذا كما ترون اتصل بالعامل هنا علامات تدل على أن الفاعل مثنى أو مجموع، وهذا جائز، ولكنه قليلٌ، مادام ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى، وورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي المعتد به من كلام العرب فنحن نستجيزه، ولكنه ليس كثيرًا، بل الغالب خلافه.
فنقف الآن عند هذا الحد، ونستمع منكم الأسئلة إذا كان لديكم أسئلة، أو أنا أسأل.
سأل أحد الطلبة:
جزاكم الله خيرًا فضيلة الشيخ، قال المصنف رحمه الله ( الفاعل هو الاسم المرفوع المذكور قبله فعله )، وقلنا أن المذكور قبله فعله هذا شرط البصريين، وعلمنا أن المصنف رحمه الله من الكوفيين، فلم اختار هذا الشرط؟
وسؤالٌ آخر، في "أكرمت هندٌ"، كيف يكون إعراب التاء هاهنا؟
أجاب الشيخ:
أما سؤالك الأول، وهو لماذا اتبع رأيَ البصريين في هذا الشأن، في الحقيقة أن على الأقل حتى الكوفيون ليس الغالب عندهم أن يتقدم، لكنهم يجيزونه جوازًا، يجيزون أن يتقدم الفاعل على عامله، ولكنه جواز وليس هذا هو الغالب، فلعل هذا اتبع الغالب في كلام العرب وهو أن يتقدم العامل ويتأخر عنه فاعله.
أما سؤالك الثاني وهو كيف نعرب نحو قولنا "أكرمت هندٌ جارتها"، فالتاء هنا بارك الله فيكم جميعًا هي حرف لا محل له من الإعراب، التاء تاء التأنيث لا محل له من الإعراب، وما بعده هو الفاعل، "أكرمت هندٌ"، "هندٌ" هي الفاعل، وأما هذه فأتي بها للدلالة على أن الفاعل مؤنث.
سأل أحد الطلبة:
جزاكم الله خيرًا فضيلة الشيخ، سؤالٌ متعلقٌ بنصب الجوازم، ذكرتم في "إذما" أنها اسمٌ على الأصح وهذا الذي رجحتم، لكن وجدنا بعد الشراح قال هي حرفٌ على الأصح، فهل لهذا الخلاف سبب؟
أجاب الشيخ:
أولا هذه مسألة خلافية فلكلٍ رأيه في الترجيح، ولكن الذي دفعني إلى ترجيح كون كلمة "إذما" اسم هو أن "إذ" وحدها إذا لم تلحقها "ما" باتفاق اسم، فإذا لحقتها "ما" فلا يضيرها ذلك، فتبقى على اسميتها، هذا هو الذي دفعنى إلى ترجيح ذلك، وهي اسمٌ ظرفٌ يدل على الزمن الماضي، هذا هو السبب الذيدفعني إلى ترجيح هذا الجانب.
سأل أحد الطلبة:
فضيلة الشيخ جزاكم الله خيرًا، ذكر في الفاعل أنه مرفوع، فهل يمكن القياس على بعض كلام العرب بأن جعلوا الفاعل منصوبًا كقولهم "كسر الزجاجُ الحجرَ"، فهل يمكن القياس عليها؟
أجاب الشيخ:
طبعًا لا يُقاس عليها، لأن هذا أولا لغة لبعض العرب، وهي لغة إذا سمحنا بها فستضيع المسألة، فنحن لا نقيس عليها لأن الأصل في الفاعل أنه مرفوع، لكن يقولون "خرق الثوبُ المسمارَ"، و"كسر الزجاجُ الحجرَ"، يقولون إذا كانت المسألة واضحة جدًا أين الفاعل وأين المفعول فلا مانع من ذلك، لكن المسألة هي من ناحية الجواز فقط، ولكنها ليست قياسية، فنكتفي بما سُمع فيها، وإلا لو فتحنا الباب فهانت الأمور جدًا.
سأل أحد الطلبة:
فضيلة الشيخ، ما تعريف المضمر؟
أجاب الشيخ:
المضمر المقصود به الضمائر عمومًا، والضمائر ثلاثة أنواع، إما ما يدل على متكلم نحو "أنا"، وإما ما يدل على "مُخاطب" نحو "أنت"، وإما ما يدل على غائب نحو "هو"، فهذا هو الذي يُقال في تعريف الضمائر.
نكتفي بهذا القدر اليوم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



الموضوع التالي


نائب الفاعل

الموضوع السابق


نواصب الفعل المضارع