النوع السادس عشر في كيفية إنزاله : مسألة الكيفية
 
قال الأصفهاني أوائل تفسيره‏:‏ اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله منزل واختلفوا في معنى الإنزال‏.‏
فمنهم من قال‏:‏ إظهار القراءة‏.‏
ومنهم من قال‏:‏ إن الله تعالى ألهم كلامه جبريل وهو في السماء وهو عال من المكان وعلمه قراءته ثم جبريل أداه في الأرض وهويهبط في المكان‏.‏
وفي التنزيل طريقان‏.‏
أحدهما‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل‏.‏
والثاني‏:‏ أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه الرسول منه والأول اصعب الحالين انتهى‏.‏
وقال الطيبي‏:‏ لعل نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقفه الملك من الله تعالى تلقفاً روحانياً أويحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول فيلقيه عليه‏.‏
وقال القطب الرازي في حواشي الكشاف‏:‏ والإنزال لغة بمعنى الإيواء وبمعنى تحريك الشيء من العلوإلى أسفل وكلاهما يتحققان في الكلام فهومستعمل فيه في معنى مجازي فمن قال‏:‏ القرآن معنى قائم بذات الله تعالى فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ‏.‏
ومن قال‏:‏ القرآن هو الألفاظ فإنزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ وهذا المعنى مناسب لكونه منقولاً عن المعنيين اللغويين‏.‏
ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ وهذا مناسب للمعنى الثاني‏.‏
والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تلقفاً روحانياً أويحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها عليهم اه‏.‏
وقال غيره‏:‏ في المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال‏.‏
أحدها‏:‏ أنه اللفظ والمعنى وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به‏.‏
وذكر بعضهم أن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ كل حرف منها بقدر جبل قاف وأن تحت كل حرف منها معاني لا يحيط بها إلا الله‏.‏
والثاني‏:‏ أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة وأنه صلى الله عليه وسلم علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب وتمسك قائل هذا بظاهر قوله تعالى نزل به الروح الأمين على قلبك‏.‏
والثالث‏:‏ أن جبريل ألقى غليه المعنى وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب وأن أهل السماء يقرءونه بالعربية ثم إنه نزل به كذلك بعد ذلك‏.‏
وقال البيهقي في معنى في قوله تعالى ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة القدر‏}‏ يريد والله أعلم‏:‏ إنا أسمعنا الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه بما سمع فيكون الملك منتقلاً من علوإلى أسفل‏.‏
قال أبو شامة‏:‏ هذا المعنى مطرد في جميع ألفاظ الإنزال المضافة إلى القرآن أوإلى شيء منه يحتاج إليه أهل أسنة المقتعدون قدم القرآن وأنه صفة قائمة بذات الله تعالى‏.‏
قلت‏:‏ ويؤيد ا جبريل تلقفه سماعاً من الله تعالى ما أخرجه الطبراني من حديث النواس بن سمعان مرفوعاً إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا وخروا سجداً فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فينتهي به حيث أمر‏.‏
وأخرج ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون ويرون أنه من أمر السرعة وأصل الحديث في الصحيح‏.‏
وفي تفسير عليّ بن سهل النيسابوري‏:‏ قال جماعة من العلماء‏:‏ نزل القرآن جملة في ليلة القدر من اللوح الحفوظ إلى بيت يقال له بيت العزة فحفظه جبريل وغشى على أهل السموات من هيبة كلام الله فمر بهم جبريل وقد أفاقوا وقالوا‏:‏ ماذا قال ربكم قالوا‏:‏ الحق‏:‏ يعني القرآن وهومعنى وله حتى إذا فزّع عن قلوبهم فأتى به جبريل إلى بيت العزة على السفرة الكتبة يعني الملائكة وهومعنى قوله تعالى ‏{‏بأيدي سفرة كرام بررة‏}‏ وقال الجويني‏:‏ كلام الله المنزل قسمان‏:‏ قسم قال الله لجبريل‏:‏ قل للنبي الذي أنت مرسل إليه إن الله يقول افعل كذا وكذا وأمر بكذا ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل على ذلك النبي وقال له ما قاله ربه ولم تلك العبارة تلك العبارة كما يقول الملك لمن يثق به قل لفلان يقول لك الملك اجتهد في الخدمة واجمع جندك للقتال فإن قال الرسول يقول الملك لا تتهاون في خدمتي ولا تترك الجند تتفرق وحثهم على المقاتلة لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة‏.‏
وقسم آخر قال الله لجبريل‏:‏ اقرأ على النبي هذا الكتاب فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير كما يكتب الملك كتاباً ويسلمه إلى أمين ويقول اقرأه على فلان فهولا يغير منه كلمة ولاحرفاً انتهى‏.‏
قلت‏:‏ القرآن هو القسم الثاني والقسم الأول هو السنة كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى لأن جبريل أداه بالمعنى ولم تجز القراءة بالمعنى لأن جبريل أداه باللفظ ولم يبح له إيحاءه بالمعنى‏.‏
والسر في ذلك أن المقصود منه التعبد بلفظه والإعجاز به فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه وإن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين‏:‏ قسم يروونه بلفظه الموحى به وقسم يروونه بالمعنى‏.‏
ولوجعل كله مما يروى باللفظ لشق أوبالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف فتأمل‏.‏
وقد رأيت عن السلف ما يعضد كلام الجويني‏.‏
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عقيل عن الزهري سئل عن الوحي فقال‏:‏ الوحي ما يوحى إلى نبي من الأنبياء فيثبته فيقلبه فيتكلم به ويكتبه وهوكلام الله‏.‏
ومنه ما لا يتكلم به ولا يكتبه لأحد ولا يأمر بكتابته ولكنه يحدث به الناس حديثاً ويبين لهم أن الله أمره أن يبينه للناس ويبلغهم إياه‏.‏
فصل وقد ذكر العلماء للوحي كيفيات‏.‏
إحداها‏:‏ أن يأتيه الملك في مثل صلصلة الجرس كما في الصحيح‏.‏
وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمر سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل تحس بالوحي فقال‏:‏ أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلىّ إلا ظننت أن نفسي تقبض‏.‏
قال الخطابي‏:‏ والمراد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد‏.‏
وقيل هو صوت خفق أجنحة الملك‏.‏
والحكمة في تقدمه أن يفرغ سمعه للوحي فلا يبقى فيه مكاناً لغيره‏.‏
وقيل هو صوت خفق أجنحة الملك‏.‏
والحكمة في تقدمه أن يفرغ سمعه للوحي فلا يبقى فيه مكاناً لغيره‏.‏
وفي الصحيح أن هذه الحالة أشد حالات الوحي عليه‏.‏
وقيل إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أوتهديد‏.‏
الثانية‏:‏ أن ينفث في روعه الكلام نفثاً كما قال صلى الله عليه وسلم إن روح القدس نفث في روعي أخرجه الحاكم‏.‏
وهذا قد يرجع إلى الحالة الأولى والتي بعدها بأن يأتيه في إحدى الكيفيتين وينفث في روعه‏.‏
والثالثة‏:‏ أن يأتيه في صورة الرجل فيكلمه كما في الصحيح وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول‏.‏
زاد أبو عوانه في صحيحه وهوأهونه عليّ‏.‏
الرابعة‏:‏ أن يأتيه الملك في النوم وعدّ قوم من هذا سورة الكوثر وقد تقدم ما فيه‏.‏
الخامسة‏:‏ أن يكلمه الله إما في اليقظة كما في ليلة الإسراء أوفي النوم كما في حديث معاذ أتاني ربي فقال‏:‏ فيم يختصم الملأ الأعلى الحديث وليس في القرآن من هذا النوع شيء فيما أعلم‏.‏
نعم يمكن أن يعد منه آخر سورة البقرة لما تقدم وبعض سورة الضحى وألم نشرح فقد أخرج ابن أبي حاتم من حديث عدي بن ثابت قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت ربي مسئلة وددت أني لم اكن سألته قلت‏:‏ أي رب اتخذت إبراهيم خليلاً وكلمت موسى تكليماً فقال‏:‏ يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويت وضالاً فهديت وعائلاً فأغنيت وشرحت لك صدرك وحططت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا اذكر إلا ذكرت معي‏.‏
فائدة أخرج الإمام أحمد في تاريخه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي قال‏:‏ أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم النبوة وهوابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة‏.‏
قال ابن عساكر‏:‏ والحكمة في توكيل إسرافيل به أنه الموكل بالصور الذي فيه هلاك الخلق وقيام الساعة ونبوته صلى الله عليه وسلم مؤذنة بقرب الساعة وانقطاع الوحي كما وكل بذي القرنين ريافيل الذي يطوي الأرض وبخالد بن سنان مالك خازن النار‏.‏
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن سابط قال‏:‏ في أم الكتاب كل شيء هوكائن إلى يوم القيامة فوكل ثلاثة بحفظه إلى يوم القيامة من الملائكة فوكل جبريل بالكتب والوحي إلى الأنبياء وبالنصر عند الحروب وبالهلكات إذا أراد الله أن يهلك قوماً ووكل ميكائيل بالقطر والنبات ووكل ملك الموت بقبض الأنفس فإذا كان يوم القيامة عارضوا بين حفظهم وبين ما كان في أم الكتاب فيجدونه سواء‏.‏
وأخرج أيضاً عن عطاء بن السائب قال‏:‏ أول ما يحاسب جبريل لأنه كان أمين الله على رسله‏.‏
فائدة ثانية أخرج الحاكم والبيهقي عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنزل القرآن بالتفخيم كهيئته عذراً نذراً و الصدفين و ‏{‏ألا له الخلق والأمر‏}‏ وأشباه هذا‏.‏
قلت‏:‏ أخرجه ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء فبين أن المرفوع منه أنزل القرآن بالتفخيم فقط وأن الباقي مدرج من كلام عمار بن عبد الملك أحد رواة الحديث‏.‏
فائدة أخرى أخرج ابن سعد عن عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يغط في رأسه ويتبرد وجهه‏:‏ أي يتغير لونه بالجريذة ويجد برداً في ثناياه ويعرق حتى يتحدر منه مثل الجمان‏.‏