النوع السادس والأربعون في مجمله ومبينه
 
المجمل ما لم تتضح دلالته وهوواقع في القرآن خلافًا لداود الظاهري‏.‏
وفي جواز بقائه مجملًا أقوال‏.‏
أصحها‏:‏ لا يبقى المكلف بالعمل به بخلاف غيره‏.‏
وللإجمال أسباب‏:‏ منها الاشتراك نحو ‏{‏والليل إذا عسعس‏}‏ فإنه موضوع لأقبل وأدبر ‏{‏ثلاثة قروء‏}‏ فإن القرء موضوع للحيض والطهر ‏{‏أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح‏}‏ يحمل الزوج والولي فإن كلًا منهما بيده عقدة النكاح‏.‏
ومنها الحذف نحو ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ يحمل في وعن ومنها‏:‏ اختلاف مرجع الضمير نحو ‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب‏}‏ والعمل الصالح يرفعه يحتمل عود ضمير الفاعل في يرفعه إلى ما عاد عليه ضمير إليه وهوالله ويحتمل عودة إلى العمل والمعنى‏:‏ أن العمل الصالح هو الذي يرفعه الكلم الطيب ويحتمل عوده إلى الكلم‏:‏ أي أن الكلم الطيب وهوالتوحيد يرفع العمل الصالح لأنه لا يصح العمل إلا مع الإيمان‏.‏
ومنها‏:‏ احتمال العطف والاستئناف نحو ‏{‏إلا الله والراسخون في العلم‏}‏ يقولون ومنها غرابة اللفظ نحو فلا تعضلوهن ومنها عدم كثرة الاستعمال نحو يلقون السمع أي يسمعون ثاني عطفه أي متكبر فأصبح يقلب كفيه أي نادمًا‏.‏
ومنها التقديم والتأخير نحو ‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزامًا وأجل مسمى‏}‏ أي ولولا كلمة وأجل مسمى لكان لزامًا ‏{‏يسألونك كأنك حفي عنها‏}‏ أي يسألونك عنها كأنك خفي‏.‏
ومنها‏:‏ قلب المنقول نحو ‏{‏طور سينين‏}‏ أي سينًا على آل ياسين أي على إلياس‏.‏
ومنها‏:‏ التكريم القاطع لووصل الكلام في الظاهر نحو للذين استضعفوا لمن آمن منهم‏.‏
فصل قد يقع التبيين متصلًا نحو من الفجر بعد قوله ‏{‏الخيط الأبيض من الخيط الأسود‏}‏ ومنفصلًا في آية أخرى نحو فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيرها بعد قوله ‏{‏الطلاق مرتان‏}‏ بينت أن المراد به الطلاق الذي تملك الرجعة بعده ولولاها لكان الكل منحصرًا في الطلقتين‏.‏
وقد أخرج أحمد وأبوداود في ناسخه وسعيد بن منصور وغيرهم عن أبي رزين الأسدي قال قال رجل‏:‏ يا رسول الله أرأيت قول الله الطلاق مرتان فأين الثالثة قال أوتسريح بإحسان‏.‏
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال قال رجل‏:‏ يا رسول الله ذكر الله الطلاق مرتين فأين الثالثة قال إمساك بمعروف أوتسريح بإحسان وقوله ‏{‏وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‏}‏ دال على جواز الرؤية ويفسره ا المراد بقوله ‏{‏لا تدركه الأبصار‏}‏ قال‏:‏ لا تحيط به‏.‏
وأخرج عن عكرمة أنه قيل له عند ذكر الرؤية‏:‏ أليس قد قال لا تدركه الأبصار فقال‏:‏ ألست ترى السماء أفكلها ترى وقوله ‏{‏أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم‏}‏ فسره قوله ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ الآية‏.‏
وقوله ‏{‏مالك يوم الدين‏}‏ فسره قوله ‏{‏وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين‏}‏ الآية‏.‏
وقوله ‏{‏فتلقى آدم من ربه كلمات‏}‏ فسره قوله ‏{‏قالا ربنا ظلمنا أنفسنا‏}‏ الآية‏.‏

وقوله ‏{‏وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلًا‏}‏ فسره قوله في آية النحل بالأنثى وقوله ‏{‏وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم‏}‏ قال العلماء‏:‏ بيان هذا العهد قوله ‏{‏لئن اقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي‏}‏ الخ فهذا عهده وعهدهه لأكفرن عنكم سيئاتكم الخ‏.‏
وقوله ‏{‏صراط الذين أنعمت عليهم‏}‏ بينه قوله ‏{‏فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين‏}‏ الآية وقد يقع التبيين بالسنة مثل وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ولله على الناس حج البيت وقد بينت السنة أفعال الصلاة والحج ومقادير نصب الزكوات في أنواعها‏.‏
تنبيه اختلف في آيات هل هي من قبيل المجمل أولا آية السرقة قيل إنها مجملة في اليد لأنها تطلق على العضوإلى الكوع وإلى المرفق وإلى المنكب‏.‏
وفي القطع لأنه يطلق على الإبانة وعلى الجرح ولا ظهور لواحد من ذلك وإبانة الشارع من الكوع تبيين أن المراد ذلك‏.‏
وقيل لا إجمال فيها لأن القطع ظاهر في الإبانة ومنها وامسحوا بؤوسكم قيل إنها مجملة لترددها بين مسح الكل والبعض ومسح الشارع الناصية مبين لذلك وقيل لا وإنما هي لمطلق المسح الصادق بأقل ما ينطلق عليه الاسم وبغيره ومنها حرمت عليكم أمهاتكم قيل مجملة لأن إسناد التحريم إلى العين لا يصح لأنه إنما يتعلق بالفعل فلا بد من تقديره وهومحتمل لأمور لا حاجة إلى جميعها والمرجح لبعضها‏.‏
وقيل لا لوجود المرجح وهوالعرف فإنه يقضي بأن المراد تحريم الاستمتاع بوطء أونحوه ويجري ذلك في كل ما علق فيه التحريم والتحليل بالأعيان‏.‏
ومنها وأحل الله البيع وحرم الربا قيل إنها مجملة لأن الربا الزيادة وما من بيع إلا وفيه زيادة فافتقر إلى بيان ما يحل وما يحرم‏.‏
وقيل لأن البيع منقول شرعًا فحمل على عمومه ما لم يقل دليل التخصيص‏.‏
وقال الماوردي‏:‏ للشافعي في هذه الآية أربعة أقوال‏.‏
أحدها‏:‏ أنها عامة فإن لفظها لفظ عموم يتناول كل بيع ويقتضي إباحة جميعها إلا ما خصه الدليل وهذا القول أصحها عند الشافعي وأصحابه لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيوع كانوا يعتادونها ولم يبين الجائز فدل على أن الآية تناولت إباحة جميع البيوع إلا ما خص منها فبين صلى الله عليه وسلم الخصوص قال‏:‏ فعلى هذا في العموم قولان‏.‏
أحدهما‏:‏ أنه عموم أريد به العموم وإن دخله التخصيص‏.‏
والثاني‏:‏ أنه عموم أريد به الخصوص‏.‏
قال‏:‏ والفرق بينهما أن البيان في الثاني متقدم على اللفظ وفي الأول متأخر عنه مقترن به‏.‏
قال‏:‏ وعلى القولين يجوز الاستدلال بالآية في المسائل المختلف فيها ما لم يقل دليل تخصيص‏.‏
والقول الثاني‏:‏ أنها مجملة لا يعقل منها صحة بيع من فساده إلا ببيان النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
ثم قال‏:‏ هل هي مجملة بنفسها أم بعارض ما نهى عنه من البيوع وجهان‏.‏
وهل الإجمال في المعنى المراد دون لفظها لأن لفظ البيع اسم لغوي معناه معقول لكن لما قام بإزائه من السنة ما يعارضه تدافع معمومان ولم يتعين المراد إلا ببيان السنة فصار مجملًا لذلك دون اللفظ وفي اللفظ أيضًا لأنه لما يكن المراد منه ما وقع عليه الاسم وكانت له شرائط غير معقولة في اللغة كان مشكلًا أيضًا وجهان‏.‏
قال‏:‏ وعلى الوجهين لا يجوز الاستدلال بها على صحة بيع ولا فساده وإن دلت على صحة البيع من أصله‏.‏
قال‏:‏ وهذا هو الفرق بين العام والمجمل حيث جاز الاستدلال بظاهر العموم ولم يجز الاستدلال بظاهر المجمل‏.‏
والقول الثالث‏:‏ أنها عامة مجملة معًا‏.‏
قال‏:‏ واختلف في وجه ذلك على أوجه‏.‏
أحدها‏:‏ أن العموم في اللفظ والإجمال في المعنى فيكون اللفظ عامًا مخصوصًا والمعنى مجملًا لحقه التفسير‏.‏
والثاني‏:‏ أن العموم في وأحل الله البيع والإجمال في وحرم الربا والثالث‏:‏ أنه كان مجملا فلما بينه النبي صلى الله عليه وسلم صار عامًا فيكون داخلًا في المجمل قبل البيان وفي العموم بعد البيان فعلى هذا يجوز الاستدلال بظاهرها في البيوع المختلف فيها‏.‏
والقول الرابع‏:‏ أنها تناولت بيعًا معهودًا ونزلت بعد أن أحل النبي صلى الله عليه وسلم بيوعًا وحرم بيوعًا فللام للعهد فعلى هذا لا يجوز الاستدلال بظاهرها أه‏.‏
ومنها‏:‏ الآيات التي فيها الأسماء الشرعية نحو ‏{‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ‏{‏ولله على الناس حج البيت‏}‏ قيل إنها مجملة لاحتمال الصلاة لكل دعاء والصيام لكل إمساك والحج لكل قصد والمراد بها لا تدل عليه اللغة وافتقر إلى البيان‏.‏
وقيل لا بل يحمل على كل ما ذكر إلا ما خص بدليل‏.‏
تنبيه قال ابن الحصار‏:‏ من الناس من جعل المجمل والمحتمل بإزاء شيء واحد‏.‏
قال‏:‏ والصواب بأن المجمل اللفظ المبهم الذي لا يفهم المراد منه والمحتمل اللفظ الواقع بالوضع الأول على معنيين مفهومين فصاعدًا سواء كان حقيقة في كلها أوبعضها‏.‏
قال‏:‏ بينهما أن المحتمل يدل على أمور معروفة واللفظ مشترك متردد بينهما والمبهم لا يدل على أمر معروف مع القطع بأن الشارع لويفوض لأحد بيان المجمل بخلاف المحتمل‏.‏

*******************