النوع الخامس والخمسون في الحصر والاختصاص
 
أما الحصر ويقال له القصر فهوتخصيص أمر بآخر بطريق مخصوص‏.‏
ويقال أيضًا إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه‏.‏
وينقسم إلى قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف‏.‏
وكل منهما إما حقيقي وإما مجازي‏.‏
مثال قصر الموصوف على الصفة حقيقيًا نحو‏:‏ ما زيد إلا كاتب‏:‏ أي لا صفة له غيرها وهوعزيز لا يكاد يوجد لتعذر الإحاطة بصفات الشيء حتى يمكن إثبات شيء منها ونفي ما عداها بالكلية وعلى عدم تعذرها يبعد أن تكون للذات صفة واحدة ليس لها غيرها ولذا لم يقع في التنزيل ومثاله مجازيًا ‏{‏وما محمد إلا رسول‏}‏ أي أنه مقصور على الرسالة لا يتعداها إلى التبري من الموت الذي هومن شأن الإله‏.‏
ومثال قصر الصفة على الموصوف حقيقيًا ‏{‏لا إله إلا الله‏}‏ ومثاله مجازيًا ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة‏}‏ الآية لما قال الشافعي فيما تقدم نقله من أسباب النزول أن الكفار لما كانوا يحلون الميتة والدم ولحم الخنزير ‏{‏وما أهل لغير الله ‏}‏ وكانوا يحرمون كثرًا من المباحات وكانت سجيتهم تخالف وضع الشرع ونزلت الآية مسوقة بذكر شبههم في البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وكان الغرض إبانة كذبهم فكأن قال‏:‏ لا حرام إلا ما أحللتموه والغرض الرد عليهم والمضادة لا الحصر الحقيقي وقد تقدم بأبسط من هذا‏.‏
وينقسم الحصر باعتبار آخر إلى ثلاثة أقسام‏:‏ قصر إفراد وقصر قلب وقصر تعيين‏.‏
فالأول‏:‏ يخاطب به من يعتقد الشركة نحو ‏{‏إنما الله إله واحد‏}‏ خوطب به نمرود الذي اعتقد أنه هو المحيي المميت دون الله إلا أنهم هم ال يعتقد اشتراك الله والأصنام في الألوهية‏.‏
والثاني‏:‏ يخاطب به من يعتقد إثبات الحكم لغير من أثبته المتكلم له نحو ربي الذي يحيي ويميت خوطب به نمرود الذي اعتقد أنه هو المحيي المميت دون الله ألا إنهم هم السفهاء خوطب به من اعتقد من المنافقين أن المؤمنين سفهاء دونهم وأرسلناك للناس رسولًا خوطب به من يعتقد من اليهود اختصاص بعثته بالعرب‏.‏
والثالث‏:‏ يخاطب به من تساوى عنده الأمران فلم يحكم بإثبات الصفة لواحد بعينه ولا لواحد بإحدى الصفتين بعينها‏.‏
فصل طرق الحصر كثيرة‏.‏
أحدها‏:‏ النفي والاستثناء سواء كان النفي بلا أوما أوغيرهما والاستثناء بإلا أوغير نحو لا إله إلا الله ‏{‏وما من إله إلا الله‏}‏ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ووجه إفادة الحصر أن الاستثناء المتفرغ لابد أن يتوجه النفي فيه إلى مقدر وهومستثني منه لأن الاستثناء إخراج فيحتاج إلى مخرج منه والمراد التقدير المعنوي لا الصناعي ولا بد أن يكون عامًا لأن الإخراج لا يكون إلا من عام ولابد أن يكون مناسبًا للمستثنى منه في جنسه مثل ما قام إلا زيد‏:‏ أي لا أحد وما أكلت إلا تمرًا‏:‏ أي مأكولًا ولابد أن يوافقه في صفته‏:‏ أي إعرابه وحينئذ يجب القصر إذا وجب منه شيء بإلا ضرورة فيبقى ما عداه على صفة الانتفاء وأصل استعمال هذا الطريق أن يكون المخاطب جاهلًا بالحكم وقد يخرج عن ذلك فينزل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب نحو وما محمد إلا رسول فإنه خطاب للصحابة وهم لم يجهلون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه نزل استعظامهم له عن الموت منزلة من يجهل رسالته لأن كل رسول فلا بد من موته فمن استعبد موته فكأنه استعبد رسالته‏.‏
الثاني إنما الجمهور على أنها لحصر فقيل بالمنطوق وقيل بالمفهوم‏.‏
وأنكر قوم إفادتها منهم أبوحيان‏.‏
واستدل مثبتوه بأمور منها قوله تعالى ‏{‏إنما حرم عليكم الميتة‏}‏ بالنصب فإن معناه‏:‏ ما حرم عليكم إلا الميتة لأنه المطابق في المعنى لقراءة الرفع فإنها للقصر لكذا قراءة النصب والأصل استواء معنى القراءتين‏.‏
ومنها ا إن للإثبات وما للنفي فلابد أن يحصل القصر لجمع بين النفي والإثبات لكن تعقب بأن ما زائدة كافة لا نافية‏.‏
ومنها‏:‏ إن إن للتأكيد وما كذلك فاجتمع تأكيدان فأفاد الحصر قاله السكاكي‏.‏وتعقب بأنه لوكان اجتماع تأكيدين يفيد الحصر لأفاده نحو‏:‏ إن زيدًا لقائم‏.‏
وأجيب بأن مراده لا يجتمع حرفًا تأكيد متواليان إلا للحصر‏.‏
ومنها قوله تعالى قال ‏{‏إنما العلم عند الله‏}‏ ‏{‏قال إنما يأتيكم به الله‏}‏ ‏{‏قل إنما علمها عند ربي‏}‏ فإنه إنما تحصل مطابقة الجواب إذا كانت إنما للحصر ليكون معناها‏:‏ لا آتيكم به إنما يأتي به الله ولا أعلمها إنما يعلمها الله وكذا قوله ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ما على المحسنين من سبيل إلى قوله ‏{‏إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء}‏.‏
وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ‏{‏وإن تولوا فإنما عليك البلاغ‏}‏ لا يستقيم المعنى في هذه الآيات ونحوها إلا بالحصر وأحسن ما يستعمل إنما هومن مواقع التعريض نحو إنما يتذكر أولوا الألباب‏.‏الثالث إنما بالفتح عدها من طرق الحصر الزمخشري والبيضاوي فقالا في قوله تعالى ‏{‏قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد‏}‏ إنما القصر الحكم على شيء أولقصر الشيء على حكم نحو‏:‏ إنما زيد قائم وإنما يقوم زيد وقد اجتمع الأمران في هذه الآية لأن إنما يوحي إلي مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد وإنما إلهكم بمنزلة إنما زيد قائم وفائدة اجتماعهما الدلالة على أ الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله بالوحدانية وصرح التنوخي في الأقصى القريب بكونها للحصر فقال‏:‏ كلما أوجب أن إنما بالكسر لحصر أوجب أن إنما بالفتح للحصر لأنها فرع عنها وما ثبت للأصل ثبت للفرع ما لم يثبت مانع منه والأصل عدمه‏.‏ورد أبوحيان على الزمخشري ما زعمه بأنه يلزمه انحصار الوحي في الوحدانية‏.‏
وأجيب بأنه حصر مجازي باعتبار المقام‏.‏
الرابع‏:‏ العطف بلا أوبل ذكره أهل البيان ولم يحكوا فيه خلافًا نازع فيه الشيخ بهاء الدين في عروس الأفراح فقال‏:‏ أي قصر في العطف بلا إنما فيه نفي وإثبات فقولك زيد شاعر لا كاتب لا تعرض فيه لنفي صفة ثالثة والقصر إنما يكون بنفي جميع الصفات غير المثبت حقيقة أومجازًا وليس هوخاصًا بنفي الصفة التي يعتقدها المخاطب وأما العطف ببل فأبعد منه لأنه لا يستمر فيها النفي والإثبات‏.‏
الخامس‏:‏ تقديم المعمول نحو ‏{‏إياك نعبد‏}‏ ‏{‏لإلى الله تحشرون‏}‏ وخالف فيه قوم وسيأتي بسط الكلام فيه قريبًا‏.‏
السادس‏:‏ ضمير الفصل نحو ‏{‏فالله هو الولي‏}‏ أي لا غيره ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ إن هذا لهوقصص الحق إن شأنئك هو الأبتر وممن ذكر أنه للحصر البيانيون في بحث المسند إليه واستدل له السهيلي بأنه أتى به في كل موضع ادعى فيه نسبة ذلك المعنى إلى غير الله ولم يؤت به حيث لم يدع وذلك في قوله ‏{‏وأنه هو أضحك وأبكى} إلى آخر الآيات فلم يؤت به في وأنه خلق الزوجين وإن عليه النشأة وأنه أهلك لأن ذلك لم يدع لغير الله وأتى به في الباقي لادعائه لغيره‏.‏
قال في عروس الأفراح‏:‏ وقد استنبطت دلالته على الحصر من قوله ‏{‏فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم} لأنه لولم يكن للحصر لما حسن لأن الله لم يزل رقيبًا عليهم وإنما الذي حصل بتوفيته أنه لم يبق لهم رقيب غير الله تعالى ومن قوله ‏{‏لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم} الفائزون فإنه ذكر لتبيين عدم الاستواء وذلك لا يحسن إلا بأن يكون الضمير للاختصاص‏.‏
السابع‏:‏ تقديم المسند إليه على ما قاله الشيخ عبد القاهر‏:‏ قد يقدم المسند إليه ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلي والحاصل على رأيه أن له أحوالًا‏.‏أحدها‏:‏ أن يكون المسند إليه معرفة والمسند مثبتًا فيأتي للتخصيص نحو‏:‏ أنا قمت وأنا سعيت في حاجتك فإن قصد به قصر الإفراد أكد بنحووحدي أوقصر القلب أكد بنحولا غيري ومنه في القرآن ‏{‏بل أنتم بهديتكم تفرحون‏}‏ فإن ما قبله من قوله ‏{‏أتمدونني بمال} ولفظ بل المشعر بالإضراب يقضي بأن المراد‏:‏ بل أنتم لا غيركم على أن المقصود نفي فرحه هوبالهدية لا إثبات الفرح لهم بهديتهم قاله في عروس الأفراح‏.‏قال‏:‏ وكذا قوله ‏{‏لا تعلمهم نحن نعلمهم‏}‏ أي لا يعلمهم إلا نحن‏.‏
وقد يأتي للتقوية والتأكيد دون التخصيص‏.‏
قال الشيخ بهاء الدين‏:‏ ولا يتميز ذلك إلا بما يقتضيه الحال وسياق الكلام‏.‏
ثانيها‏:‏ أن يكون المسند منفيًا نحو‏:‏ أنت لا تكذب فإنه أبلغ في نفي الكذب من لا تكذب ومن لا تكذب أنت‏.‏
وقد يفيد التخصيص ومنه فهم لا يتساءلون‏.‏
ثالثها‏:‏ أن يكون المسند إليه نكرة مثبتًا نحو‏:‏ رجل جاءني فيفيد التخصيص إما بالجنس‏:‏ أي ل امرأة أوالوحدة‏:‏ أي لا رجلان‏.‏
رابعها‏:‏ أن يلي المسند إليه حرف النفي فيفيده نحو‏:‏ ما أنا قلت هذا‏:‏ أي لم أقله مع أ غيري قاله ومنه وما أنت علينا بعزيز‏:‏ أي العزيز علينا رهطك لا أنت ولذا قال أرهطي أعز عليكم من الله هذا حاصل رأى الشيخ عبد القاهر ووافقه السكاكي وزاد شروطًا وتفاصيل بسطناها في شرح ألفية المعاني‏.‏
الثامن‏:‏ تقديم المسند ذكر ابن الأثير وابن النفيس وغيرهما أن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد الاختصاص ورده صاحب الفلك الدائر بأنه لم يقل به أحد وهوممنوع فقد صرح السكاكي وغيره بأن تقديم ما رتبته التأخير يفيده ومثلوه بنحو‏:‏ تميمي أنا
التاسع‏:‏ ذكر المسند إليه ذكر السكاكي أنه قد يذكر ليفيد التخصيص وتعقبه صاحب الإيضاح وصرح الزمخشري بأنه أفاد الاختصاص في قوله ‏{‏الله يبسط الرزق} في سورة الرعد وفي قوله ‏{‏الله نزل أحسن الحديث‏}‏ وفي قوله ‏{‏والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏}‏ ويحتمل أنه أراد أن تقديمه أفاده فيكون من أمثلة الطريق السابع‏.‏
العاشر‏:‏ تعريف الجزأين ذكر الإمام فخر الدين في نهاية الإيجاز أنه يفيد الحصر حقيقة أومبالغة نحو‏:‏ المنطلق زيد ومنه في القرآن فيما ذكر الزملكاني في أسرار التنزيل الحمد لله قال إنه يفيد الحصر كما في إياك نعبد أي الحمد لله لا لغيره‏.‏
الحادي عشر‏:‏ نحو‏:‏ جاء زيد نفسه نقل بعض شراح التلخيص عن بعضهم أنه يفيد الحصر‏.‏
الثاني عشر‏:‏ نحو‏:‏ إن زيدًا لقائم نقله المذكور أيضًا‏.‏
الثالث عشر‏:‏ نحو‏:‏ قائم في جواب زيد إما قائم أوقاعد ذكره الطيبي في شرح البيان‏.‏
الرابع عشر‏:‏ قلب بعض حروف الكلمة فإنه يفيد الحصر على ما نقله في الكشاف في قوله ‏{‏والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها‏}‏ قال‏:‏ القلب للاختصاص بالنسبة إلى لفظ الطاغوت لأن وزنه على قول فعلوت من الطغيان كملكوت ورحموت قلب بتقديم اللام على العين فوزنه فلعوت ففيه مبالغات التسمية وبالمصدر والبناء بناء مبالغة والقلب وهولاختصاص إذ لا يطلق على غير الشيطان‏.‏
تنبيه كان أهل البيان يطبقون على أن تقديم المعمول يفيد الحصر سواء كان مفعولًا أوظرفًا أومجرورًا ولهذا قيل في ‏{‏إياك نعبد وإياك نستعين‏}‏ معناه‏:‏ نحصل بالعبادة والاستعانة وفي ‏{‏لإلى الله تحشرون‏}‏ معناه‏:‏ إليه لا إلى غيره وفي لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا أخرت الصلة في الشهادة الأولى وقدمت في الثانية لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم وفي الثاني إثبات اختصاصهم بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم وخالف في ذلك ابن الحاجب فقال في شرح المفصل‏:‏ الاختصاص الذي يتوهمه كثير من الناس من تقديم المعمول وهم واستدل على ذلك بقوله ‏{‏فاعبد الله مخلصًا له الدين‏}‏ ثم قال بل الله فاعبد ورد هذا الاستدلال بأن مخلصًا له الدين أغنى عن أداة الحصر في الآية الأولى ولولم يكن فما المانع من ذكر المحصور في محل بغير صيغة الحصر كما قال تعالى واعبدوا ربكم وقال أمر أن لا تعبدوا إلا إياه بل قوله ‏{‏بل الله فاعبد} من أقوى أدلة الاختصاص فإن قبلها ‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏ فلولم يكن لاختصاص وكان معناها أعبد الله لما جعل الإضراب الذي هومعنى بل‏.‏
واعترض أبوحيان على مدعي الاختصاص بنحو أفغير الله تأمروني أعبد وأجيب بأنه لما كان من أشرك بالله غيره كأنه لم يعبد الله كان أمرهم بالشرك كأنه أمر بتخصيص غير الله بالعبادة‏.‏
ورد صاحب الفلك الدائر والاختصاص بقوله كلا هدينا ونوحًا هدينا من قبل وهوأقوى ما رد به‏.‏
وأجيب بأنه لا يدعي فيه اللزوم بل الغلبة وقد يخرج الشيء عن الغالب‏.‏
قال الشيخ بهاء الدين‏:‏ وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة وهي ‏{‏أغير الله تدعون إن كنتم صادقين‏}‏ ‏{‏بل إياه تدعون‏}‏ فإن التقديم في الأول قطعًا ليس للاختصاص وفي إياه قطعًا للاختصاص‏.‏
وقال والده الشيخ تقي الدين في كتاب الاقتناص في الفرق بين الحصر والاختصاص اشتهر كلام الناس في أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص ومن الناس من ينكر ذلك ويقول‏:‏ إنما يفيد الاهتمام وقد قال سيبويه في كتابه‏:‏ وهم يقدمون ما هم به‏:‏ أعني والبيانيون على إفادته الاختصاص ويفهم كثير من الناس من الاختصاص الحصر وليس كذلك وإنما الاختصاص شيء والحصر شيء آخر والفضلاء لم يذكروا في ذلك لفظة الحصر وإنما عبروا بالاختصاص‏.‏
والفرق بينهما أن الحصر نفي غير المذكور وإثبات المذكور والاختصاص قصد الخاص من جهة خصوصه وبيان ذلك أن الاختصاص افتعال من الخصوص والخصوص مركب من شيئين‏:‏ أحدهما عام مشترك بين شيئين أوأشياء‏.‏
والثاني معنى منضم إليه يفصله عن غيره كضرب زيد فإنه أخص من مطلق الضرب‏.‏
فإذا قلت‏:‏ ضربت زيدًا أخبرت بضرب عام وقع منك لي شخص خاص فصار ذلك الضرب الخبر به خاصًا لما انضم إليه منك ومن زيد وهذه المعاني الثلاثة‏:‏ أعني مطلق الضرب وكونه واقعًا منك وكونه واقعًا على زيد قد يكون قصد المتكلم لها ثلاثتها على السواء وقد يترجح قصده لبعضها على بعض ويعرف ذلك بما ابتدأ به كلامه فإن الابتداء بالشيء يدل على الاهتمام به وأنه هو الأرجح في غرض المتكلم‏.‏
فإذا قلت زيدًا ضربت علم أن خصوص الضرب على زيد هو المقصود ولا شك في أن كل مركب من خاص وعام له جهتان فقد يقصد من جهة عمومه وقد يقصد من جهة خصوصه‏.‏
والثاني هو الاختصاص وأنه هو الأهم عند المتكلم وهوالذي قصد إفادته السامع من غير تعرض ولا قصد لغيره بإثبات ولا نفي ففي الحصر معنى زائد عليه وهونفي ما عدا المذكور وإنما جاء في هذا إياك نعبد للعلم بأن قائليه لا يعبدون غير الله تعالى ولذا لم يطرد في بقية الآيات فإن قوله ‏{‏أفغير دين الله يبغون‏}‏ لوجعل في معنى ما يبغون إلا غير دين الله وهمزة الإنكار داخلة عليه لزم أن يكون المنكر الحصر لا مجرد غيهم غير دين الله وليس المراد وكذلك ‏{‏آلهة دون الله تريدون‏}‏ المنكر إرادتهم آلهة دون الله من غير حصر وقد قال الزمخشري في ‏{‏وبالآخرة هم يوقنون‏}‏ في تقديم الآخرة وبناء يوقنون على هم تعريض بأهل الكتاب وما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته وإن قولهم ليس بصادر عن إيقان وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وهذا الذي قاله الزمخشري في غاية الحسن‏.‏
وقد اعترض عليه بعضهم فقال‏:‏ تقديم الآخرة أفاد إن إيقانهم مقصور على أنه إيقان بالآخرة لا بغيرها وهذا الاعتراض من قائله مبني على ما فهمه من أن تقديم المعمول يفيد الحصر وليس كذلك‏.‏
ثم قال المعترض‏:‏ وتقديم هم أفاد أن هذا القصر مختص بهم فيكون إيقان غيرهم بالآخرة إيمانًا بغيرها حيث قالوا لن تمسنا النار وهذا منه أيضًا استمرار على ما في ذهنه من الحصر‏:‏ أي أن المسلمين لا يوقنون إلا بالآخرة وأهل الكتاب يوقنون بها وبغيرها وها فهم عجيب ألجأه إليه فهمه الحقير وهوممنوع وعلى تقدير تسليمه فالحصر على ثلاثة أقسام‏:‏ أحدها بما وإلا كقولك‏:‏ ما قام إلا زيد صريح في نفي القيام عن غير زيد ويقتضي إثبات لزيد قيل بالمنطوق وقيل بالمفهوم وهوالصحيح لكنه أقوى المفاهيم لأن إلا موضوعة للاستثناء وهوالإخراج فدلالتها على الإخراج بالمنطوق لا بالمفهوم ولكن الإخراج من عدم القيام ليس هوعين القيام بل قد يستلزمه فلذلك رجحنا أنه بالمفهوم والتبس على بعض الناس لذلك فقال بالمنطوق‏.‏
والثاني الحصر بإنما وهوقريب من الأول فيما نحن فيه وإن كان جانب الإثبات فيه أظهر فكأنه يفيد إثبات قيام زيد إذا قلت إنا قام زيد بالمنطوق ونفيه عن غيره بالمفهوم‏.‏
الثالث‏:‏ الحصر الذي قد يفيده التقديم وليس هوعلى تقدير تسليمه مثل الحصرين الأولين بل هوفي قوة جملتين‏:‏ إحداهما ما صدر به الحكم نفيًا كان أوإثباتًا وهوالمنطرق والأخرى ما فهم من التقديم والحصر يقتضي نفي المنطوق فقط دون ما دل عليه من المفهوم لأن المفهوم لا مفهوم له فإذا قلت أنا لا أكرم إلا إياك أفاد التعريض بأن غيرك يكرم غيره ولا يلزم أنك لا تكرمه وقد قال تعالى ‏{‏الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة‏}‏ أفاد أن العفيف قد ينكح غير الزانية وهوساكت عن نكاح الزانية فقال سبحانه وتعالى بعده ‏{‏والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك‏}‏ بيانًا لما سكت عنه في الأول فلوقال بالآخرة يوقنون أفاد بمنطوقه إيقانهم بها ومفهومه عند من يزعم أنهم لا يوقنون بغيرها وليس ذلك مقصودًا بالذات والمقصود بالذات قوة إيمانهم بالآخرة حتى صار غيرها عندهم كالمدحوض فهوحصر مجازي وهودون قولنا يوقنون بالآخرة لا بغيرها فالضبط هذا وإياك أن تجعل تقديره‏:‏ لا يوقنون إلا بالآخرة‏.‏
إذا عرفت هذا فتقديم هم أفاد أن غيرهم ليس كذلك فلوجعلنا التقدير‏:‏ لا يوقنون إلا بالآخرة كان المقصود المهم النفي فيتسلط المفهوم عليه فيكون المعنى إفادة أن غيرهم يوقن بغيرها كما زعم المعترض ويطرح إفهام أنه لا يوقن بالآخرة ولا شك أن هذا ليس بمراد بل المراد إفهام أن غيرهم لا يوقن بالآخرة فلذلك حافظنا على أن الغرض الأعظم إثبات الإيقان بالآخرة ليتسلط المفهوم عليه وأن المفهوم لا يتسلط على الحصر لأن الحصر لم يدل عليه بجملة واحدة مثل ما وإلا ومثل إنما وإنما دل عليه بمفهوم مستفاد من منطوق وليس أحدهما متقيدًا بالآخر حتى تقول إن المفهوم أفاد نفي الإيقان المحصور بل أفاد نفي الإيقان مطلقًا عن غيرهم وهذا كله على تقدير تسليم الحصر ونحن نمنع ذلك ونقول‏:‏ إنه اختصاص وإن بينهما فرقًا أه كلام السبكي‏.‏
*******************