النوع السادس والخمسون في الإيجاز والإطناب ب
 
وبيان أخذه منه أن مواضع الحذف من الكلام شبهت بالفرج بين الخيوط فلما أدركها الناقد البصير بصوغه الماهر في نظمه وحوكه فوضع المحذوف مواضعه كان حائكًا له مانعًا من خلل يطرقه فسد بتقديره ما يحصل به الخلل مع ما أكسبه من الحسن والرونق‏.‏
النوع الرابع‏:‏ ما يسمى بالاختزال وهوما ليس واحدًا مما سبق وهوأقسام لأن المحذوف إما كلمة اسم أوفعل أوحرف أوأكثر‏.‏
أمثلة حذف الاسم‏:‏ حذف المضاف وهوكثير في القرآن جدًا حتى قال ابن جني‏:‏ في القرآن منه زهاء ألف موضع وقد سردها الشيخ عز الدين في كتابه المجاز على ترتيب السور والآيات ومنه الحج أشهر أي حج أشهرًا أوأشهر الحج ولكن البر من آمن أي ذا البر أوبر من ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ أي نكاح أمهاتكم ‏{‏لاذقناكم ضعف الحياة وضعف الممات‏}‏ أي ضعف عذاب وفي الرقاب أي وفي تحرير الرقاب‏.‏
وحذف المضاف إليه يكثر من ياء المتكلم نحو ‏{‏رب اغفر لي‏}‏ وفي الغايات نحو لله الأمر من قبل ومن بعد أي من قبل الغلب ومن بعده‏.‏
وفي كل وأي وبعض وجاء في غيرهن كقراءة فلا خوف عليهم بضم بلا تنوين‏:‏ أي فلا خوف شيء عليهم حذف المبتدأ يكثر في جواب الاستفهام نحو وما أدراك ماهية نار أي هي نار‏.‏وبعد فاء الجواب نحو ‏{‏من عمل صالحًا فلنفسه‏}‏ أي فعمله لنفسه ‏{‏ومن أساء فعليها‏}‏ أي فإساءته عليها‏.‏
وبعد القول نحو ‏{‏وقالوا أساطير الأولين‏}‏ قالوا أضغاث أحلام وبعدما الخبر صفة له في المعنى نحو ‏{‏التائبون العابدون‏}‏ ونحو ‏{‏صم بكم عمي‏}‏ ووقع في غير ذلك نحو ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل‏}‏ ‏{‏لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ‏}‏ أي هذا سورة أنزلناها أي هذه‏.‏
ووجب في النعت المقطوع إلى الرفع حذف الخبر أكلها دائم وظلها أي دائم ويحتمل الأمرين فصبر جميل أي أجمل أوفأمري صبر ‏{‏فتحرير رقبة‏}‏ أي عليه‏.‏
أوقال واجب حذف الموصوف ‏{‏وعندهم قاصرات الطرف‏}‏ أي حور قاصرات أن اعمل سابغات أي دروعًا سابغات أيها المؤمنون أي القوم المؤمنون‏.‏
حذف الصفة يأخذ كل سفينة أي صالحة بدليل أنه قرئ كذلك وأن تعييبها لا يخرجها عن كونها سفينة الآن جئت بالحق أي الواضح وإلا لكفروا بمفهوم ذلك فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا أي نافعًا‏.‏
حذف المعطوف عليه ‏{‏أن اضرب بعصاك البحر فانفلق‏}‏ أي فضرب فانفلق‏.‏
وحيث دخلت واوالعطف على لام التعليل ففي تخريجه وجهان‏.‏
أحدهما‏:‏ أن يكون تعليلًا معلله محذوف كقوله ‏{‏وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسنًا‏}‏ فالمعنى‏:‏ وللإحسان إلى المؤمنين فعل ذلك‏.‏والثاني‏:‏ أنه معطوف على علة أخرى مضمرة لتظهر صحة العطف‏:‏ أي فعل ذلك ليذيق الكافرين بئسه وليبلي حذف المعطوف مع العاطف ‏{‏لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح‏}‏ وقاتل أي ومن أنفق بعده بيدك الخير أي والشر‏.‏
حذف المبدل منه خرج عليه ‏{‏ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب‏}‏ أي لما تصفه والكذب بدل من الهاء حذف الفاعل لا يجوز إلا في فاعل المصدر نحو لا يسأم الإنسان من دعاء الخير أي دعائه الخير وجوزه الكسائي مطلقًا لدليل وخرج عليه إذا بلغت التراقي أي الروح حتى توارت بالحجاب أي الشمس‏.‏
حذف المفعول تقدم أنه كثير في مفعول المشيئة والإرادة ويرد في غيرهما نحو إن الذين اتخذوا العجل أي إلهًا كلا سوف تعلمون أي عاقبة أمركم‏.‏حذف الحال يكثر إذا كان قولًا نحو ‏{‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام‏}‏ أي قائلين‏.‏
حذف المنادى ألا يا اسجدوا أي يا هؤلاء ليت أي يا قوم‏.‏
حذف العائد يقع على أربعة أبواب الصلة نحو أهذا الذي بعث الله رسولًا أي بعثه‏.‏
والصفة نحو ‏{‏واتقوا يومًا لا تجزي نفس عن نفس‏}‏ أي فيه‏.‏
والخبر نحو ‏{‏وكلا وعد الله الحسنى‏}‏ أي وعده‏.‏
والحال حذف مخصوص نعم إنا وجدناه صابرًا نعم العبد أي أيوب فقدرنا فنعم القادرون أي نحن ‏{‏ولنعم دار المتقين‏}‏ أي الجنة‏.‏حذف الموصول ‏{‏آمنًا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم‏}‏ أي والذي أنزل إليكم لأن الذي أنزل إلينا ليس هو الذي أنزل إلى من قبلنا ولهذا أعيدت ما في قوله ‏{‏قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم} أمثلة‏.‏ حذف الفعل يطرد إذا كان مفسرًا نحو ‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك‏}‏ ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ ‏{‏قل لو أنتم تملكون‏}‏ ويكثر في جواب الاستفهام نحو ‏{‏وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا‏}‏ أي أنزل وأكثر منه‏.‏
حذف القول نحو ‏{‏وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا‏}‏ أي يقولان ربنا‏.‏قال أبوعلي‏:‏ حذف القول من حديث البحر قل ولا حرج ويأتي من غير ذلك نحو انتهوا خيرًا لكم أي وائتوا ‏{‏والذين تبوءوا الدار والإيمان‏}‏ أي وألفوا الإيمان أواعتقدوا ‏{‏اسكن أنت وزوجك الجنة‏}‏ أي وليسكن زوجك ‏{‏وامرأته حمالة الحطب‏}‏ أي أذم ‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏ أي امدح ولكن رسول الله أي كان وأن كل لما أي يوفوا أعمالهم أمثلة حذف الحرف‏.‏
قال ابن جني في المحتسب‏:‏ أخبرنا أبوعلي قال‏:‏ قال أبو بكر حذف الحرف ليس بقياس لأن الحروف إنما دخلت الكلام لضرب من الاختصار فلوذهبت تحذفها لكنت مختصرًا لها هي أيضًا
واختصار المختصر إجحاف به حذف همزة الاستفهام‏.‏
قرأ بن محيصن ‏{‏سواء عليهم أأنذرتهم‏}‏ وخرج عليه هذا ربي في المواضع الثلاثة وتلك نعمة تمنها أي أوتلك‏.‏
حذف الموصول الحرفي‏.‏
قال ابن مالك‏:‏ لا يجوز إلا في أن نحو ‏{‏ومن آياته يريكم البرق‏}‏ حذف الجار يطرد مع أن وأنّ نحويمنون عليك أن أسلموا بل الله يمن عليكم أن هداكم أطمع أن يغفر لي أيعدكم أنكم أي بأنكم وجاء مع غيرهما نحو قدرناه منازل أي قدرناه له ويبغونها عوجًا أي لها يخوف أولياءه أ يخوفكم بأولياءه واختار موسى قومه أي من قومه ‏{‏ولا تعزموا عقدة النكاح‏}‏ أي على عقدة النكاح حذف العاطف خرج عليه الفارسي ‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا‏}‏ أي وقلت ‏{‏وجوه يومئذ ناعمة‏}‏ أي ووجوه عطفًا على وجوه يومئذ خاشعة حذف فاء الجواب خرج عليه الأخفش إن ترك خيرًا الوصية للوالدين حذف حرف النداء كثير ‏{‏هاأنتم أولاء‏}‏ يوسف أعرض قال رب إني وهن العظم مني فاطر السموات والأرض وفي العجائب للكرماني‏:‏ كثر حذف يا في القرآن من الرب تنزيهًا وتعظيمًا لأن في النداء طرفًا من الأمر‏.‏
حذف قد في الماضي إذ وقع حالًا نحو أوجاءوكم حصرت صدورهم أنؤمن لك واتبعك الأرذلون‏.‏حذف لا لانافية يطرد في جواب القسم إذا كان المنفي مضارعًا نحو تا لله تفتؤا وورد في غيره نحو ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية‏}‏ أي لا يطيقونه وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم أي لئلا تميد‏.‏
حذف لام التوطئة وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن وإن أطعتموهم إنكم لمشركون حذف لام الأمر خرج عليه قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا أي ليقيموا‏.‏
حذف لام لقد يحسن مع طول الكلام نحو ‏{‏قد أفلح من زكاها‏}‏ حذف نون التوكيد خرج عليه قراءة ألم نشرح بالنصب‏.‏
حذف نون الجمع خرج عليه قراءة وما هم بضاري به من أحد حذف التنوين خرج عليه قراءة ‏{‏قل هو الله أحد الله الصمد‏}‏ ‏{‏ولا الليل سابق النهار‏}‏ بالنصب‏.‏
حذف حركة الإعراب والبناء خرج عليه قراءة فتوبوا إلى بارئكم ويأمركم وبعولتهن أحق بسكون الثلاثة وكذا أويعفوالذي بيده عقدة النكاح فأواري سوءة أخي ما بقي من الربا أمثلة‏.‏
حذف أكثر من كلمة حذف مضافين فإنها من تقوى القلوب أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فقبضت قبضة من أثر الرسول أي من أثر حافر فرس الرسول ‏{‏تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت‏}‏ أي كدوران عين الذي وتجعلون رزقكم أي بدل شكر رزقكم حذف ثلاثة متضايقات فكان قاب قوسين أي فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب‏.‏حذف ثلاثة 7 من اسم كان وواحد من خبرها‏.‏
حذف مفعولي باب ظن ‏{‏أين شركائي الذين كنتم تزعمون‏}‏ أي تزعمونهم شركائي‏.‏
حذف الجار مع المجرور ‏{‏خلطوا عملًا صالحًا‏}‏ أي بسيء وآخر سيئًا أي بصالح‏.‏
حذف العاطف مع المعطوف تقدم‏.‏
حذف حرف الشرط وفعله يطرد بعد الطلب نحو فاتبعوني يحببكم الله أي إن اتبعتموني ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة‏}‏ أي إن قلت لهم يقيموا وجعل منه الزمخشري ‏{‏فلن يخلف الله عهده‏}‏ أي إن اتخذتم عند الله عهدًا فلن يخلف الله وجعل منه أبوحيان ‏{‏فلم تقتلون أنبياء الله من قبل‏}‏ أي إن كنتم آمنتم بما أنزل إليكم فلم تقتلون‏.‏
حذف جواب الشرط فإن استطعت ا ‏{‏تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء‏}‏ أي فافعل وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون أي أعرضوا بدليل ما بعده أئن ذكرتم أي تطيرتم ‏{‏ولو جئنا بمثله مددًا‏}‏ أي لنفذ ‏{‏ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم‏}‏ أي لرأيت أمرًا فظيعًا ‏{‏ولو لا فضل الله عليكم ورحمته‏}‏ ‏{‏وإن الله رءوف رحيم‏}‏ أي لعذبكم ‏{‏لولا أن ربطنا على قلبها‏}‏ أي لأبدت به ‏{‏لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم‏}‏ أي لسلطكم على أهل مكة‏.‏
حذف جملة القسم ‏{‏لأعذبنه عذابًا شديدًا‏}‏ أي والله‏.‏
حذف جوابه ‏{‏والنازعات غرقًا‏}‏ الآيات‏:‏ أي لتبعثن ‏{‏ص والقرآن ذي الذكر‏}‏ أي إنه لمعجز ‏{‏ق والقرآن المجيد‏}‏ أي ما الأمر كما زعموا‏.‏
حذف جملة مسببة عن المذكور نحو ‏{‏ليحق الحق ويبطل الباطل‏}‏ أي فعل ما فعل
حذف جمل كثيرة نحو ‏{‏فأرسلون يوسف أيها الصديق‏}‏ أي فأرسلون إلى يوسف لأستعبره الرؤيا ففعلوا فأتاه فقال له يا يوسف‏.‏
خاتمة تارة لا يقام شيء مقام المحذوف كما تقدم وتارة يقام ما يدل عليه نحو ‏{‏فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم‏}‏ فليس الإبلاغ هو الجواب لتقدمه على توليهم وإنما التقدير‏:‏ فإن تولوا فلا لوم علي أوفلا عذر لكم لأني أبلغتكم وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك‏:‏ أي فلا تحزن واصبر ‏{‏وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين‏}‏‏:‏ أي يصيبهم مثل ما أصابهم‏.‏
فصل كما انقسم الإيجاز إلى إيجاز قصر وإيجاز حذف كذلك انقسم الأطناب إلى بسط وزيادة فالأول الإطناب بتكثير الجمل كقوله تعالى ‏{‏إن في خلق السموات والأرض‏}‏ الآية في سورة البقرة أطنب فيها أبلغ إطناب لكون الخطاب مع الثقلين وفي كل عصر وحين للعالم منهم والجاهل والموافق منهم والمنافق‏.‏
وقوله ‏{‏الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به‏}‏ فقوله ويؤمنون به إطناب لأن إيمان حملة العرش معلوم وحسنه إظهار شرف الإيمان ترغيبًا فيه ‏{‏وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة‏}‏ وليس من المشركين مزك والنكتة الحث للمؤمنين على أدائها والتحذير من المنع حيث جعل من أوصاف المشركين‏.‏
والثاني يكون بأنواع‏:‏ أحدها دخول حرف فأكثر من حروف التأكيد السابقة في نوع الأدوات وهي أن وأنّ ولام الابتداء والقسم وألا الاستفتاحية وأما وهاء التنبيه وأن وكأن في تأكيد التشبيه ولكن في تأكيد الاستدراك وليت في تأكيد التمني ولعل في تأكيد الترجي وضمير الشأن وضمير الفصل وأما في تأكيد الشرط وقد والسين وسوف والنونان في تأكيد الفعلية ولا التبرئة ولن ولما في تأكيد النفي وإنما يحسن تأكيد الكلام بها إذا كان المخاطب به منكرًا أومترددًا ويتفاوت التأكيد بحسب قوة الإنكار وضعفه كقوله تعالى حكاية عن رسل عيسى إذ كذبوا في المرة لأولى إنا إليكم مرسلون فأكد بإن وإسمية الجملة وفي المرة الثانية ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون فأكد بالقسم وإن واللام وإسمية الجملة لمبالغة المخاطبين في الإنكار حيث قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون وقد يؤكد بها والمخاطب به غير منكر لعدم جريه على مقتضى إقراره فينزل منزلة المنكر وقد يترك التأكيد وهومعه منكر لأن معه أدلة ظاهرة لوتأملها لرجع عن إنكاره ولذلك يخرج قوله ‏{‏ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون‏}‏ أكد الموت تأكيدين وإن لم ينكر لتنزيل المخاطبين لتماديهم في الغفلة تنزيل من ينكر الموت وأكد إثبات البعث تأكيدًا واحدًا وإن كان أشد نكيرًا لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرًا بأن لا ينكر فنزل المخاطبون منزلة غير المنكر حثًا لهم على النظر في أدلته الواضحة ونظيره قوله تعالى لا ريب فيه نفى عنه الريبة بلا على سبيل الاستغراق مع انه ارتاب فيه المرتابون لكن نزل منزلة العدم تعويلًا على ما يزيله من الأدلة الباهرة كما نزل الإنكار منزلة عدمه لذلك‏.‏وقال الزمخشري‏:‏ بولغ في تأكيد الموت تنبيهًا للإنسان على أن يكون الموت نصب عينيه ولا يغفل عن ترقبه فإن مآله إليه فإنه أكدت جملته ثلاث مرات لهذا المعنى لأن الإنسان في الدنيا يسعى فيها غاية السعي حتى كأنه يخلد ولم يؤكد جملة البعث إلا بأن لأنه أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ولا يقبل إنكارًا‏.‏
وقال التاج بن الفركاح‏:‏ أكد الموت ردًا على الدهرية القائلين ببقاء النوع الإنساني خلفًا عن سلف واستغنى عن تأكيد البعث هنا لتأكيده والرد على منكره في مواضع كقوله ‏{‏قل بلى وربي لتبعثن} وقال غيره‏:‏ لما كان العطف يقتضي الاشتراك استغنى عن إعادة اللام لذكرها في الأول وقد يؤكد بها‏:‏ أي باللام للمستشرف الطالب الذي قدم له ما يلوح بالخبر فاستشرفت نفسه إليه نحو ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي لا تدعني يا نوح في شأن قومك فهذا الكلام يلوح بالخبر تلويحًا ويشعر بأنه قد حق عليهم العذاب فصار المقام مقام أن يتردد المخاطب في أنهم هل صاروا محكومًا عليهم بذلك أولا فقيل إنهم مغرقون بالتأكيد وكذا قوله ‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم} لما أمرهم بالتقوى وظهور ثمرتها والعقاب على تركها محله الآخرة تشوقت نفوسهم إلى وصف حال الساعة فقال إن زلزلة الساعة شيء عظيم بالتأكيد ليتقرر عليه الوجوب وكذا قوله ‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏ فيه تحيير للمخاطب وتردد في أنه كيف لا يبرئ نفسه وهي برية زكية ثبتت عصمتها وعدم مواقعتها السوء فأكده بقوله ‏{‏إن النفس لأمارة بالسوء‏}‏ وقد يؤكد لقصد الترغيب نحو فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم أكد بأربع تأكيدات ترغيبًا للعباد في التوبة وقد سبق على أدوات التأكيد المذكورة ومعانيها ومواقعها في النوع الأربعين‏.‏
فائدة إذا اجتمعت إن واللام كان بمنزلة تكرير الجملة ثلاث مرات لأن إن أفادت التكرير مرتين فإذا دخلت اللام صارت ثلاثًا‏.‏
وعن الكسائي أن الام لتوكيد الخبر وإن لتوكيد الاسم وفيه تجوز لأن التوكيد للنسبة لا للاسم ولا للخبر وكذلك نون التوكيد الشديدة بمنزلة تكرير الفعل ثلاثًا والخفيفة بمنزلة تكريره مرتين‏.‏
وقال سيبويه في نحو يا أيها الألف والهاء لحقتا أيا توكيدًا فكأنك كررت يا مرتين وصار الاسم تنبيهًا هذا كلامه وتابعه الزمخشري‏.‏
فائدة قوله تعالى ‏{‏ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيًا‏}‏ قال الجرجاني في نظم القرآن‏:‏ ليست اللام فيه للتأكيد فإنه منكر فكيف يحقق ما ينكر وإنما قاله حكاية لكلام النبي صلى الله عليه وسلم الصادر منه بأداء التأكيد فحكاه فنزلت الآية على ذلك‏.‏
النوع الثاني‏:‏ دخول الأحرف الزائدة قال ابن جني‏:‏ كل حرف زيد في كلام العرب فهوقائم مقام إعادة الجملة مرة أخرى‏.‏
وقال الزمخشري‏:‏ في كشافه القديم‏:‏ الباء في خبر ما وليس لتأكيد النفي كما أن اللام لتأكيد الإيجاب‏.‏
وسئل بعضهم عن التأكيد بالحرف وما معناه إذ إسقاطه لا يخل بالمعنى فقال‏:‏ هذا يعرفه أهل الطباع يجدون من زيادة الحرف معنى لا يجدونه بإسقاطه‏.‏
قال‏:‏ ونظيره العارف بوزن الشعر طبعًا إذا تغير عليه البيت بنقص أنكره‏.‏
وقال‏:‏ أجد نفسي على خلاف ما أجدها بإقامة الوزن فكذلك هذه الحروف تتغير نفس المطبوع بنقصانها ويجد نفسه بزيادتها على معنى بخلاف ما يجدها بنقصانه‏.‏
ثم باب الزيادة في الحروف وزيادة الأفعال قليل والأسماء أقل‏.‏
أما الحروف فيزاد منها إن وإنّ وإذ وإذا وإلى وأم والباء والفاء وفي والكاف واللام ولا وما ومن والواو وتقدمت في نوع الأدوات مشروحة‏.‏
وأما الأفعال فزيد منها كان وخرج عليه كيف نكلم من كان في المهد صبيًا وأصبح وخرج عليه فأصبحوا خاسرين وقال الرماني‏:‏ العادة أن من به علة تزاد بالليل أن يرجوالفرج عند الصباح فاستعمل أصبح لأن الخسران حصل لهم في الوقت الذي يرجون فيه الفرج فليست زائدة‏.‏
وأما الأسماء فنص أكثر النحوين على أنها لا تزاد‏.‏
ووقع في كلام المفسرين الحكم عليها بالزيادة في مواضع كلفظ مثل في قوله ‏{‏فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} أي بما‏.‏
النوع الثالث‏:‏ للتأكيد الصناعي وهوأربعة أقسام‏:‏ أحدها‏:‏ التوكيد المعنوي بكل وأجمع وكلا وكلتا نحو فسجد الملائكة كلهم أجمعون وفائدته رفع توهم المجاوز وعدم الشمول‏.‏
وادعى الفراء أن كلهم أفادت ذلك وأجمعون أفادت اجتماعهم على السجود وأنهم لم يسجدوا متفرقين‏.‏
ثانيها‏:‏ التأكيد اللفظي وهوتكرار اللفظ الأول إما بمرادفه نحوضيقًا حرجًا بكسر الراء غرابيب سود وجعل منه الصفار في ما إن مكناهم فيه على القول بأن كليهما للنفي وجعل منه غيره قيل ارجعوا ورائكم فالتمسوا نورًا ليس وراء ها هنا ظرفًا لأن اللفظ ارجعوا ينبئ عنه بل هوا سم فعل بمعنى ارجعوا فكأنه قال‏:‏ ارجعوا ارجعوا‏.‏
وإما بلفظه ويكون في الاسم والفعل والحرف والجملة فالاسم نحو قوارير قوارير دكا دكا والفعل فمهل الكافرين أمهلهم واسم الفعل نحو هيهات هيهات لما توعدون والحرف نحو ففي الجنة خالدين فيها أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابًا وعظامًا أنكم والجملة نحو ‏{‏إن مع العسر يسرًا إن مع العسر يسرًا‏}‏ والأحسن اقتران الثانية بثم نحو ‏{‏وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين‏}‏ ‏{‏كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون‏}‏ ومن هذا النوع تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل نحو ‏{‏أسكن أنت وزوجك الجنة‏}‏ ‏{‏اذهب أنت وربك‏}‏ ‏{‏وإما أن نكون نحن الملقين‏}‏ ومنه تأكيد المنفصل بمثله ‏{‏وهم بالآخرة هم كافرون‏}‏‏.‏
ثالثها‏:‏ تأكيد الفعل بمصدره وهوعرض من تكرار الفعل مرتين وفائدته رفع توهم المجاز في الفعل بخلاف التوكيد السابق فإنه لرفع توهم المجاز في السند إليه كذا فرق به ابن عصفور وغيره ومن ثم رد بعض أهل السنة على بعض المعتزلة في دعواه نفي التكليم حقيقة بقوله ‏{‏وكلم الله موسى تكليمًا‏}‏ لأن توكيد رفع المجاز في العمل ومن أمثلته ‏{‏ويسلموا تسليمًا‏}‏ ‏{‏تمور السماء مورًا وتسير الجبال سيرًا‏}‏ ‏{‏جزاؤكم جزاء موفورًا‏}‏ وليس منه ‏{‏وتظنون بالله الظنونا‏}‏ بل هوجمع ظن لاختلاف أنواعه‏.‏
وأما إلا أن يشاء ربي شيئًا فيحتمل أن يكون منه وأن يكون الشيء بمعنى الأمر والشأن والأصل في هذا النوع أن ينعت بالوصف المراد نحو ‏{‏اذكروا الله ذكرًا كثيرًا‏}‏ ‏{‏وسرحوهن سراحًا جميلًا‏}‏ وقد يضاف وصفه إليه نحو ‏{‏اتقوا الله حق تقاته‏}‏ وقد يؤكد بمصدر فعل آخر واسم عين نيابة عن المصدر نحو ‏{‏وتبتل إليه تبتيلًا‏}‏ والمصدر تبتلًا والتبتيل مصدر بتل ‏{‏أنبتكم من الأرض نباتًا‏}‏ أي إنباتًا إذ النبات اسم عين‏.‏
رابعها‏:‏ الحال المؤكدة نحو يوم أبعث أبعث حيًا ولا تعثوا في الأرض مفسدين وأرسلناك للناس رسولًا ثم توليتم إلا قليلًا منكم وأنتم معرضون وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد وليس منه ولي مدبرًا لأن التولية قد لا تكون إدبارًا بدليل قوله ‏{‏فول وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ ولا ‏{‏فتبسم ضاحكًا‏}‏ لأن التبسم قد لا يكون ضحكًا ولا ‏{‏وهو الحق مصدقًا‏}‏ لاختلاف المعينين إذ كونه حقًا في نفسه غير كونه مصدقًا لما قبله‏.‏
النوع الرابع‏:‏ التكرير وهوأبلغ من التأكيد وهومن محاسن الفصاحة خلافًا لبعض من غلط‏.‏
وله فوائد‏.‏
منها‏:‏ التقرير وقد قيل الكلام إذا تكرر تقرر وقد نبه تعالى على السبب الذي لأجله كرر الأقاصيص والإنذار في القرآن بقوله ‏{‏وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرًا‏}‏‏.‏
ومنها‏:‏ التأكيد‏.‏
ومنها‏:‏ زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة ليكمل تلقي الكلام بالقبول ومنه وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع فإنه كرر فيه النداء لذلك‏.‏
ومنها‏:‏ إذا طال الكلام وخشي تناسي الأول أعيد ثانيها تطرية له وتجديدًا لعهده ومنه ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها ‏{‏ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها‏}‏ ‏{‏ولما جاءهم كتاب من عند الل‏}‏ه إلى قوله ‏{‏فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به‏}‏ ‏{‏لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب‏}‏ ‏{‏إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم‏}‏‏.‏ومنها‏:‏ التعظيم والتهويل نحو ‏{‏الحاقة ما الحاقة‏}‏ ‏{‏القارعة ما القارعة‏}‏ ‏{‏وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين‏}‏‏.‏
فإن قلت‏:‏ هذا النوع أحد أقسام النوع الذي قبله فإن منها التأكيد بتكرار اللفظ فلا يحسن عده نوعًا مستقلًا‏.‏
قلت هويجامعه ويفارقه ويزيد عليه وينقص عنه فصار أصلًا برأسه فإنه قد يكون التأكيد تكرارًا كما تقدم في أمثلته وقد لا يكون تكرارًا كما تقدم أيضًا وقد يكون التكرير غير تأكيد صناعة وإن كان مفيدًا لتأكيد معنى ومنه ما وقع فيه الفصل بين المكررين فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكده نحو اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله وإن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على النساء العالمين فإن هذه الآيات من باب التكرير لا التأكيد اللفظي الصناعي ومنه الآيات المتقدمة في التكرير للطول ومنه ما كان لتعدد المتعلق بأن يكون المكرر ثانيًا متعلقًا بغير ما تعلق به الأول وهذا القسم يسمى بالترديد كقوله ‏{‏الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري} وقع فيها الترديد أربع مرات جعل منه قوله ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان} فإنها وإن تكررت نيفًا وثلاثين مرة فكل واحدة تتعلق بما قبلها ولذلك زادت على ثلاثة ولوكان الجميع عائدًا إلى شيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يزيد عليها قاله ابن عبد السلام وغيره وإن كان بعضها ليس بنعمة فمذكر النقمة للتحذير نعمة
وقد سئل‏:‏ أي نعمة في قوله ‏{‏كل من عليها فان‏}‏ فأجيب بأجوبة أحسنها‏:‏ النقل من دار الهموم إلى دار السرور وإراحة المؤمن والبار من الفاجر‏.‏
وكذا قوله ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ في سورة المرسلات لأنه تعالى ذكر قصصًا مختلفة وأتبع كل قصة بهذا القول فكأنه قال عقب كل قصة‏:‏ ويل يومئذ للمكذبين بهذه القصة‏.‏
وكذا قوله في سورة الشعراء ‏{‏إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏ كررت ثمان مرات كل مرة عقب كل قصة فالإشارة في كل واحد بذلك إلى قصة النبي المذكور قبلها وما اشتملت عليه من الآيات والعير‏.‏
وقوله ‏{‏وما كان أكثرهم مؤمنين‏}‏ إلى قومه خاصة وما كان مفهومه أن الأقل من قومه آمنوا أتى بوصف العزيز الرحيم للإشارة إلى أن العزة على من لم يؤمن والرحمة لمن آمن‏.‏
وكذا قوله في سورة القمر ‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ كرر ليجدوا عند سماع كل نبأ منها اتعاظًا وتنبيهًا وأن كلًا من تلك الأنباء يستحق لاعتبار يختص به وأن يتنبهوا كي لا يغلبهم السرور والغفلة‏.‏قال في عروس الأفراح‏:‏ فإن قلت‏:‏ إذا كان المراد بكل ما قبله فليس ذلك بإطناب بل هي ألفاظ‏.‏
كل أريد به غير ما أريد الآخر‏.‏
قلت‏:‏ إذا قلنا العبرة بعموم اللفظ فكل واحد أريد به ما أريد بالآخر ولكن كرر ليكون نصًا فيما يليه وظاهرًا في غيره‏.‏
فإن قلت‏:‏ يلزم التأكيد‏.‏
قلت‏:‏ والأمر كذلك ولا يرد عليه أن التأكيد لا يزاد به عن ثلاثة لأن ذاك في التأكيد الذي هوتابع أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع أه‏.‏ويقرب من ذلك ما ذكره ابن جرير في قوله تعالى ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين إلى قوله ‏{‏وكان الله غنيًا حميدًا ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلًا} قال‏:‏ فإن قيل ما وجه تكرار قوله ‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض} في آيتين إحداهما في أثر الأخرى قلنا‏:‏ لاختلاف معنى الخبرين عما في السموات والأرض وذلك لأن الخبر عنه في إحدى الآيتين ذكر حاجته إلى بارئه وغنى بارئه عنه وفي الأخرى حفظ بارئه إياه وعلمه به وبتدبيره قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ أفلا قيل‏:‏ وكان الله غنيًا حميدًا وكفى بالله وكيلًا قيل‏:‏ ليس في الآية الأولى ما يصلح أن يختم بوصفه معه بالحفظ والتدبير أه‏.‏
وقال تعالى ‏{‏وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب‏}‏ قال الراغب‏:‏ الكتاب الأول ما كتبوه بأيديهم المذكور في قوله تعالى ‏{‏فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ والكتاب الثاني في التوراة والثالث لجنس كتب الله كلها‏:‏ أي ما هومن شيء من كتب الله وكلامه‏.‏
ومن أمثلة ما يظن تكرارًا وليس منه ‏{‏قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون‏}‏ إلى آخرها فإن ‏{‏لا أعبد ما تعبدون‏}‏ أي في المستقبل ‏{‏ولا أنتم عابدون‏}‏ أي في الحال ما أعبد في المستقبل ولا أنا عابد أي في الحال ما عبدتم في الماضي ولا أنتم عابدون أي في المستقبل ما أعبد أي في الحال‏.‏
فالحاصل أن القصد نفي عبادته لآلهتهم في الأزمنة الثلاثة وكذا ‏{‏فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم‏}‏ ثم قال ‏{‏فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم‏}‏ ثم قال ‏{‏واذكروا الله في أيام معدودات‏}‏ فإن المراد بكل واحد من هذه الأذكار غير المراد بالآخر‏.‏
فالأول الذكر في مزدلفة عند الوقوف بقزح وقوله ‏{‏واذكروه كما هداكم‏}‏ إشارة إلى تكرره ثانيًا وثالثًا ويحتمل أن يراد به طواف الإفاضة بدليل تعقيبه بقوله ‏{‏فإذا قضيتم} والذكر الثالث إشارة إلى رمي جمرة العقبة والذكر الأخير لرمي أيام التشريق ومنهم تكرير حرف الإضراب في قوله ‏{‏بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر‏}‏ وقوله ‏{‏بل أدارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عموم‏}‏ ومنه قوله ‏{‏ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعًا بالمعروف حقًا على المحسنين‏}‏ ثم قال ‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف حقًا على المتقين‏}‏ فكرر الثاني ليعم كل مطلقة فإن الآية الأولى في المطلقة قبل الفرض والمسيس خاصة‏.‏
وقيل لأن الأولى لا تشعر بالوجوب ولهذا لما نزلت قال بعض الصحابة إن شئت أحسنت وإن شئت فلا فنزلت الثانية‏.‏
أخرجه ابن جرير ومن ذلك تكرير الأمثال كقوله ‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور ‏وما يستوي الأحياء ولا الأموات‏}‏ وكذلك ضرب مثل المنافقين أول البقرة بالمستوقد نارًا ثم ضربه بأصحاب الصيب‏.‏
قال الزمخشري‏:‏ والثاني أبلغ من الأول لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته‏.‏
قال‏:‏ ولذلك آخرهم يتدرجون في نحوهذا من الأهون إلى الأغلظ‏.‏
ومن ذلك تكرير القصص كقصة آدم وموسى ونوح وغيرهم من الأنبياء‏.‏قال بعضهم‏:‏ ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعًا من كتابه‏.‏
وقال ابن العربي في القواصم‏:‏ ذكر الله قصة نوح في خمس وعشرين آية وقصة موسى في تسعين آية‏.‏
وقد ألف البدر بن جماعة كتابًا سماه المقتنص في فوائد تكرار القصص وذكر في تكرير القصص فوائد‏.‏
منها‏:‏ أن في كل موضع زيادة شيء لم يذكر في الذي قبله أوإبدال كلمة بأخرى لنكتة وهذه عادة البلغاء‏.‏
ومنها‏:‏ أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن ثم يعود إلى أهله ثم يهاجر بعده آخرون يحكون ما نزل بعد صدور من تقدمهم فلولا تكرار القصص لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى آخرين وكذا سائر القصص فأراد الله اشتراك الجميع فيها فيكون فيه إفادة لقوم وزيادة تأكيد لآخرين‏.‏
ومنها‏:‏ أن في إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة ما لا يخفي من الفصاحة‏.‏
ومنها‏:‏ أنه تعالى أنزل هذا القرآن وعجز القوم عن الإتيان بمثله ثم أوضح الأمر في عجزهم بأن كرر ذكر القصة في مواضع إعلامًا بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأي نظم جاءوا وبأي عبارة عبروا‏.‏ومنها‏:‏ أنه لما تحداهم قال ‏{‏فائتوا بسورة من مثله‏}‏ فلوذكرت القصة في موضع واحد واكتفى بها لقال العربي ائتون أنتم بسورة من مثله فأنزلها الله سبحانه وتعالى في تعداد السور فعالجتهم من كل وجه‏.‏
ومنها‏:‏ أن القصة الواحدة لما كررت كان في ألفاظها في كل موضع زيادة أونقصان وتقديم وتأخير وأتت على أسلوب غير أسلوب الأخرى فأفاد ذلك ظهور الأمر العجيب في إخراج المعنى الواحد في صور متباينة في النظر وجذب النفوس إلى سماعها لما جبلت عليه من حب التنقل في الأشياء المتجددة واستلذاذها بها وإظهار خاصة القرآن حيث لم يصل مع تكرير ذلك فيه هجنة في اللفظ ولا ملل عند سماعه فباين ذلك كلام المخلوقين‏.‏
وقد سئل ما الحكمة في عدم تكرير قصة يوسف وسوقها مساقًا واحدًا في موضع واحد دون غيرها من القصص وأجيب بوجه‏.‏
أحدها‏:‏ أن فيها تشبيب النسوة به وحال امرأة ونسوة افتتنوا بأبدع الناس جمالًا فناسب عدم تكرارها لما فيه من الإغضاء والستر‏.‏
وقد صحح الحاكم في مستدركه حديث النهي عن تعليم النساء سورة يوسف‏.‏
ثانيها‏:‏ أنها اختصت بحصول الفرج بعد الشدة بخلاف غيرها من القصص فإن مآلها إلى الوبال كقصة إبليس وقوم نوح وهود وصالح وغيرهم فلما اختصت بذلك اتفقت الدواعي على نقلها لخروجها عن سمت القصص‏.‏
ثالثها‏:‏ قال الأستاذ أبوإسحاق الإسفرايني‏:‏ إنما كرر الله قصص الأنبياء وساق قصة يوسف مساقًا واحدًا إشارة إلى عجز العرب كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ أن كان من تلقاء نفسي فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في سائر القصص‏.‏
قلت‏:‏ وظهر لي جواب رابع وهوأن سورة يوسف نزلت بسبب طلب الصحابة أن يقص عليهم كما رواه الحاكم في مستدركه فنزلت مبسوطة تامة ليحصل لهم مقصود القصص من استيعاب القصة وترويح النفس بها والإحاطة بطرفيها‏.‏
وجواب خامس وهوأقوى ما يجاب به‏:‏ إن قصص الأنبياء إنما كررت لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم والحاجة داعية إلى ذلك لتكرير تكذيب الكفار للرسول صلى الله عليه وسلم فكلما كذبوا نزلت قصة منذرة بحلول العذاب كما حل على المكذبين ولهذا قال تعالى في آيات ‏{‏فقد مضت سنة الأولين‏}‏ ‏{‏ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن‏}‏ وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك وبهذا أيضًا يحصل الجواب عن حكمة عدم تكرير قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنبن وقصة موسى مع الخضر وقصة الذبيح‏.‏
فإن قلت‏:‏ قد تكررت قصة ولادة يحيى وولادة عيسى مرتين وليس من قبيل ما ذكرت‏.‏
قلت‏:‏ الأولى في سورة كهيعص وهي مكية أنزلت خطابًا لأهل مكة والثانية في سورة آل عمران وهي مدنية أنزلت خطابًا لليهود ولنصارى نجران حين قدموا ولهذا اتصل بها ذكر المحاجة والمباهلة‏.‏
النوع الخامس‏:‏ الصفة وترد لأسباب‏.‏
أحدها‏:‏ التخصيص في النكرة نحو ‏{‏فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ الثاني‏:‏ التوضيح في المعرفة‏:‏ أي زيادة البنان نحو ‏{‏ورسوله النبي الأمي‏}‏ الثالث‏:‏ المدح والثناء ومنه صفات الله تعالى نحو ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين‏}‏ ‏{‏الخالق البارئ المصور‏}‏ ومنه ‏{‏يحكم به النبيون الذين أسلموا للذين هادوا‏}‏ فهذا الوصف للمدح وإظهار شرف الإسلام والتعريض باليهود وأنهم بعداء من ملة الإسلام الذي هودين الأنبياء كلهم وأنهم بمعزل عنها قال الزمخشري‏.‏
الرابع‏:‏ الذم نحو ‏{‏فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم‏}‏‏.‏
الخامس‏:‏ التأكيد لرفع الإبهام نحو ‏{‏لا تتخذوا إلهين اثنين‏}‏ فإن إلهين للتثنية بعده صفة مؤكدة للنهي عن الإشراك والإفادة النهي عن اتخاذ إلهين إنما هولمحض كونهما اثنين فقط لا لمعنى آخر من كونهما عاجزين أو غير ذلك ولأن الوحدة تطلق ويراد بها النوعية كقوله صلى الله عليه وسلم إنما نحن وبنوالمطلب شيء واحد وتطلق ويراد بها نفي العدة فالتثنية باعتبارها‏.‏
فلوقيل لا تتخذوا إلهين فقط لتوهم أنه نهي عن اتخاذ جنسي آلهة وإن جاز أن يتخذ من نوع واحد عدد آلهة ولهذا أكد بالواحدة قوله ‏{‏إنما هو إله واحد‏}‏ ومثله ‏{‏فاسلك فيها من كل زوجين اثنين‏}‏ على قراءة تنوين كل وقوله ‏{‏فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة‏}‏ فهوتأكيد لرفع توهم تعدد النفخة لأن هذه الصيغة قد تدل على الكثرة بدليل وإن تعدوا نعمة الله ال تحصوها ومن ذلك قوله ‏{‏فإن كانتا اثنتين‏}‏ فإن لفظ كانتا يفيد التثنية فتفسيره باثنتين لم يفد زيادة عليه‏.‏
وقد أجاب عن ذلك الأخفش والفارسي بأنه أفاد العدد المحض مجردًا عن الصفة لأنه قد كان يجوز أن يقال‏:‏ فإن كانتا صغيرتين أوكبيرتين أوصالحتين أوغير ذلك من الصفات فلما قال اثنتين أفهم أن فرض الثنتين تعلق بمجرد كونهما اثنتين فقط وهي فائدة لا تحصل من ضمير المثنى‏.‏
وقيل أراد‏:‏ فإن كانتا اثنتين فصاعدًا فعبر بالأدنى عنه وعما فوقه اكتفاء ونظيره فإن لم يكونا رجلين والأحسن فيه أن الضمير عائد على الشهيدين المطلقين ومن الصفات المؤكدة قوله ‏{‏ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ فقوله يطير لتأكيد أن المراد بالطائر حقيقته فقد يطلق مجازًا على غيره‏.‏
وقوله بجناحيه لتأكيد حقيقة الطيران لأنه يطلق مجازًا على شدة العدووالإسراع في المشي ونظيره يقولون بألسنتهم لأن القول يطلق مجازًا على غير اللساني بدليل ويقولون في أنفسهم وكذا ولكن تعمى القلوب التي في الصدور لأن القلب قد يطلق مجازًا على العين كما أطلقت العين مجازًا على القلب في قوله ‏{‏الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكرى‏}‏‏.‏
قاعدة الصفة العامة لا تأتي بعد الخاصة لا يقال رجل فصيح متكلم بل متكلم فصيح وأشكل على هذا قوله تعالى في إسماعيل ‏{‏وكان رسولًا نبيًا‏}‏ وأجيب بأنه حال لا صفة‏:‏ أي مرسلًا في حال نبوته وقد تقدم في نوع التقديم والتأخير أمثلة عن هذه‏.‏
قاعدة إذا وقعت الصفة بعد متضايفين أولهما عدد جاز إجراؤهما على المضاف وعلى المضاف إليه فمن الأول ‏{‏سبع سموات طباق‏}‏ ومن الثاني ‏{‏سبع بقرات سمان‏}‏‏.‏
فائدة إذا تكررت النعوت لواحد فالأحسن أن تباعد معنى الصفات العطف نحو ‏{‏هو الأول والآخر الظاهر والباطن‏}‏ وإلا تركه نحو ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتم بعد ذلك زنيم فائدة قطع النعوت في مقام المدح والذم أبلغ من إجرائها‏.‏
قال القارسي‏:‏ إذا ذكرت الصفات في معرض المدح أوالذم فالأحسن أن يخالف في إعرابهاقش لأن المقام يقتضي الإطناب فإذا خولف في الإعراب كان المقصود أكمل لأن المعاني عند الاختلاف تتنوع وتتفنن وعند الاتحاد تكون نوعًا واحدًا مثاله في المدح والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ولمقيمين الصلاة وآتون الزكاة ولكن البر من آمن بالله إلى قوله ‏{‏والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين‏}‏ وقرئ شاذًا الحمد لله رب العالمين برفع رب ونصبه ومثاله في الذم وامرأته حمالة الحطب‏.‏
النوع السادس‏:‏ البدل والقصد به الإيضاح به بعد الإبهام وفائدته البيان والتأكيد‏.‏
أما الأول فواضح أنك إذا قلت رأيت زيدًا أخاك بينت أنك تريد بزيد الأخ لا غير وأما التأكيد فلأنه على نية تكرار العامل فكأنه من جملتين ولأنه دل على ما دل عليه الأول‏:‏ إما بالمطابقة في بدل الكل وإما بالتضمين في بدل البعض أوبالالتزام في بدل الاشتمال‏.‏مثال الأزل ‏{‏أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم‏}‏ ‏{‏إلى صراط العزيز الحميد الله‏}‏ ‏{‏لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة‏}‏ ومثال الثاني ‏{‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا‏}‏ ‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} ومثال الثالث ‏{‏وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره‏}‏ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير قتل أصحاب الأخدود النار لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم وزاد بعضهم بدل الكل من البعض وقد وجدت له مثالًا في القرآن وهوقوله ‏{‏يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئًا جنات عدن} فجنات عدن بدل من الجنة التي هي بعض وفائدته تقرير أنها جنان كثيرة لا جنة واحدة‏.‏
قال ابن السيد‏:‏ وليس كل بذل يقصد به رفع الإشكال الذي يعرض في المبدل منه بل من البدل ما يراد به التأكيد وإن كان ما قبله غنيًا عنه كقوله ‏{‏وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله‏}‏ ألا ترى أنه لولم يذكر الصراط الثاني لم يشك أحد في أن الصراط المستقيم هوصراط الله وقد نص سيبويه على أن من المبدل ما الغرض منه التأكيد أه‏.‏
وجعل منه ابن عبد السلام ‏{‏وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر‏}‏ قال‏:‏ ولا بيان فيه لأن الأب لا يلتبس بغيره ورد بأنه يطلق على الجد فأبدل لبيان إرادة الأب حقيقة‏.‏
النوع السابع‏:‏ عطف البيان وهوكالصفة في الإيضاح لكن ما يفارقها في أنه وضع البدل على الإيضاح باسم يختص به بخلافها فإنها وضعت لتدل على معنى حاصل في متبوعها‏.‏
وفرق ابن كيسان بينه وبين البدل بأن البدل هو المقصود وكأنك قررته في موضع المبدل منه وعطف البيان وما عطف عليه كل منهما مقصود‏.‏
وقال ابن مالك في شرح الكافية‏:‏ عطف البيان يجري مجرى النعت في تكميل متبوعه ويفارقه في أن تكميل متبوعه بشرح وتبيين لا بدلالة على معنى المتبوع أوسببية ومجرى التأكيد في تقوية دلالته ويفارقه في أنه لا يرفع توهم مجاز ومجرى البدل في صلاحيته للاستقلال ويفارقه في أنه غير منوي الإطراح ومن أمثلته فيه آيات بينات مقام إبراهيم من شجرة مباركة زيتونة وقد يأتي لمجرد المدح بلا إيضاح ومنه جعل الله الكعبة البيت الحرام فالبيت الحرام عطف بيان للمدح لا للإيضاح‏.‏
النوع الثامن‏:‏ عطف أحد المترادفين على الآخر والقصد منه التأكيد أيضًا وجعل منه إنما أشكوبثي وحزني فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا فلا يخافوا ظلمًا ولا هضمًا لا تخاف دركًا ولا تخشى لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا قال الخليل‏:‏ العوج والأنت بمعنى واحد سرهم ونجواهم شرعة ومنهاجًا لا تبقى والتذر إلا دعاء ونداء أطعنا سادتنا وكبراءنا لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب فإن نصب كلغب وزنًا ومعنى صلوات من ربهم ورحمة عذرًا أونذرًا قال ثعلب‏:‏ هما بمعنى وأنكر المبرد وجود هذا النوع في القرآن وأول ما سبق على اختلاف المعنيين‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ المخلص في هذا أن تعتقد أن مجموع المترادفين يحصل معنى لا يوجد عند انفرادهما فإن التركيب يحدث معنى زائدًا وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك كثرة الألفاظ‏.‏
النوع التاسع‏:‏ عطف الخاص على العام وفائدته التنبيه على فضله حتى كأنه ليس من جنس العام تنزيلًا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات‏.‏
وحكى أبوحيان عن شيخه أبي جعفر بن الزبير أنه كان يقول‏:‏ هذا العطف يسمى بالتجريد كأنه جرد من الجملة وأفرد بالذكر تفضيلًا‏.‏
ومن أمثلته ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏}‏ ‏{‏من كان عدوًا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال‏}‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏ ‏{‏والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة‏}‏ فإن إقامتها من جملة التمسك بالكتاب وخصت بالذكر إظهار لرتبتها لكونها عماد الدين وخص جبريل وميكائيل بالذكر ردًا على اليهود في دعوى عداوته وضم إليه ميكائيل لأنه ملك الرزق الذي هوحياة الأجساد كما أن جبريل ملك الوحي الذي هوحياة القلوب والأرواح‏.‏
وقيل إن جبريل وميكائيل لما كانا أميري الملائكة لم يدخلا في لفظ الملائكة أولًا كما أن الأمير لا يدخل في مسمى الجند حكاه الكرماني في العجائب‏.‏
ومن ذلك ‏{‏ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه‏}‏ ‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء‏}‏ بناء على أنه لا يختص بالواوكما هورأي ابن مالك فيه وفيما قبله‏.‏
وخص المعطوف في الثانية بالذكر تنبيهًا على زيادة قبحه‏.‏
تنبيه المراد بالخاص والعام هنا ما كان فيه الأول شاملًا للثاني لا المصطلح عليه في الأصول‏.‏
النوع العاشر‏:‏ عطف العام على الخاص وأنكر بعضهم وجوده فأخطأ والفائدة فيه واضحة وهوالتعميم وأفرد الأول بالذكر اهتمامًا بشأنه‏.‏
ومن أمثلته ‏{‏إن صلاتي ونسكي‏}‏ والنسك العبادة فهوأعم آتيناك سعًا من المثاني والقرآن العظيم ‏{‏رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنًا وللمؤمنين والمؤمنات‏}‏ ‏{‏فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير‏}‏ جعل منه الزمخشري ومن يدبر الأمر بعد قوله ‏{‏قل من يرزقكم‏}‏‏.‏
النوع الحادي عشر‏:‏ الإيضاح بعد الإبهام قال أهل البيان‏:‏ إذا أردت أن تبهم ثم توضح فإنك تطنب‏.‏
وفائدته إما رؤية المعنى في صورتين مختلفتين‏:‏ الإبهام والإيضاح أولتمكن المعنى في النفس تمكنًا زائدًا لوقوعه بعد الطلب فإنه أعز من المنساق بلا تعب أولتكمل لذة العلم به فإن الشيء إذا علم من وجه ما تشوقت النفس للعلم به من باقي وجوهه وتألمت فإذا حصل العلم من بقية الوجوه كانت لذته أشد من علمه من جميع وجوهه دفعة واحدة‏.‏
ومن أمثلته رب اشرح لي صدري فإن اشرح يفيد طلب شرح شيء ما له وصدري يفيد تفسيره وبيانه كذلك ‏{‏ويسر لي أمري‏}‏ والمقام يقتضي التأكيد للإرسال المؤذن بتلقي الشدائد وكذلك ‏{‏ألم نشرح لك صدرك‏}‏ فإن المقام يقتضي التأكيد لأنه مقام امتنان وتفخيم وكذا ‏{‏وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين‏}‏ ومنه التفضيل بعد الإجمال نحو ‏{‏إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا‏}‏ إلى قوله ‏{‏منها أربعة حرم‏}‏ وعكسه كقوله ‏{‏ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشر كاملة‏}‏ أعيد ذكر العشرة لرفع توهم أوالواوفي وسبعة بمعنى أو فتكون الثلاثة داخلة فيها كما في قوله ‏{‏خلق الأرض في يومين} ثم قال ‏{‏وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام‏}‏ فإن في جملتها اليومين المذكورين أولًا وليست أربعة غيرهما وهذا احسن الأجوبة في الآية وهوالذي أشار إليه الزمخشري ورجحه ابن عبد السلام وجزم به الزملكاني في أسرار التنزيل‏.‏
قال‏:‏ ونظيره ‏{‏وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر‏}‏ فإنه رافع لاحتمال أن تكون تلك العشرة من غير مواعدة‏.‏
قال ابن عسكر‏:‏ وفائدة الوعد بثلاثين أولًا ثم بعشر ليتجدد له أقرب انقضاء المواعدة ويكون فيه متأهبًا مجتمع الرأي حاضر الذهن لأنه لووعد بالأربعين أولًا كانت متساوية فلما فصلت استشعرت النفس قرب التمام وتجدد بذلك عزم لم يتقدم‏.‏
وقال الكرماني في العجائب في قوله ‏{‏تلك عشرة كاملة‏}‏ ثمانية أجوبة‏:‏ جوابان من التفسير وجواب من الفقه وجواب من النحو وجواب من اللغة وجواب من المعنى وجوابان من الحساب وقد سقتها في أسرار التنزيل‏.‏
النوع الثاني عشر‏:‏ التفسير قال أهل البيان‏:‏ وهوأن يكون في الكلام لبس وخفاء فيؤتى بما يزيله ويفسره‏.‏
ومن أمثلته ‏{‏إن الإنسان خلق هلوعًا إذا مسه الشر جزوعًا وإذا مسه الخير ممنوعًا‏}‏ فقوله إذا مسه الخ تفسير لهلوع كما قاله أبو العالية وغيره القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم قال البيهقي في شرح الأسماء الحسنى‏:‏ قوله لا تأخذه سنة تفسير للقيوم ‏{‏يسومونكم سوء العذاب يذبحون‏}‏‏.‏ الآية فيذبحون وما بعده تفسير للسوم ‏{‏إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب‏}‏ الآية فخلقه وما بعده تفسير للمثل ‏{‏لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة‏}‏ فتلقون الخ تفسير لاتخاذهم أولياء ‏{‏الصمد لم يلد ولم يولد‏}‏ الآية‏.‏قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ لم يلد الخ تفسير للصمد وهوفي القرآن كثير‏.‏
قال ابن جني‏:‏ ومتى كانت الجملة تفسير لم يحسن الوقف على ما قبلها دونها لأن تفسير الشيء لاحق به ومتمم له وجار مجرى بعض أجزائه‏.‏
النوع الثالث عشر‏:‏ وضع الظاهر موضع الضمر ورأيت فيه تأليفًا مفردًا لابن الصائغ وله فوائد منها‏:‏ زيادة التقرير والتمكين نحو ‏{‏قل هو الله أحد الله الصمد‏}‏ والأصل هو الصمد ‏{‏وبالحق أنزلناه وبالحق نزل‏}‏ ‏{‏إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون‏}‏ ‏{‏لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله‏}‏‏.‏
ومنها‏:‏ قصد التعظيم نحو ‏{‏واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم‏}‏ ‏{‏أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون‏}‏ ‏{‏وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا‏}‏ ‏{‏ولباس التقوى ذلك خير‏}‏‏.‏
ومنها‏:‏ قصد الإهانة والتحقير نحو ‏{‏أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون‏}‏ ‏{‏إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان‏}‏ الخ‏.‏
ومنها‏:‏ إزالة اللبس حيث يوهم الضمير أنه غير الأول نحو ‏{‏قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك‏}‏ لوقال تؤتيه لأوهم أنه الأول قاله ابن الخشاب ‏{‏يظنون بالله ظن السوء‏}‏ ‏{‏عليهم دائرة السوء‏}‏ لأنه قال عليهم دائرته لأوهم أن الضمير عائد إلى الله تعالى ‏{‏فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه‏}‏ لم يقل منه لئلا يتوهم عود الضمير إلى الأخ فيصير كأنه مباشر بطلب خروجها وليس كذلك لما في المباشرة من الأذى الذي تأباه النفوس الآبية فأعيد لفظ الظاهر لنفي هذا ولم يقل من وعائه لئلا يتوهم عود الضمير إلى يوسف لأنه العائد عليه ضمير استخراجها‏.‏
ومنها‏:‏ قصد تربية المهابة وإدخال الروع على ضمير السامع بذكر الاسم المقتضي لذلك كما تقول‏:‏ الخليفة أمير المؤمنين يأمرك بكذا ومنه إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها إن الله يأمر بالعدل ومنها‏:‏ قصد تقوية داعية الأمور ومنه فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين‏.‏
ومنها‏:‏ تعظيم الأمر نحو ‏{‏أو لم يروا كيف يبدأ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق‏}‏ ‏{‏هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا إنا خلقنا الإنسان‏}‏ ومنها‏:‏ الاستلذاذ بذكره ومنه ‏{‏وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة‏}‏ لم يقل منها ولهذا عدل عن ذكر الأرض إلى الجنة‏.‏
ومنها‏:‏ قصد التوسل من الظاهر إلى الوصف ومنه ‏{‏فآمنوا بالله ورسوله النبي الأميّ الذي يؤمن بالله‏}‏ بعد قوله ‏{‏إني رسول الله‏}‏ لم يقل فآمنوا بالله ربي ليتمكن من إجراء الصفات التي ذكرها ليعلم أن الذي وجب الإيمان به والأتباع له هومن وصف بهذه الصفات ولوأتى بالضمير لم يمكن ذلك لأنه لا يوصف‏.‏
ومنها‏:‏ التنبيه على علية الحكم نحو ‏{‏فبدل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزًا ‏}‏ ‏{‏فإن الله عدو للكافرين‏}‏ لم يقل لهم إعلامًا بأن من عادى هؤلاء فهوكافر وإن الله إنا عاداه لكفره ‏{‏فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون‏}‏ ‏{‏والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين‏}‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملًا‏}‏ ومنها‏:‏ قصد العموم نحو ‏{‏وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة‏}‏ لم يقل إنها لئلا يفهم تخصيص ذلك بنفسه ‏{‏أولئك هم الكافرون حقًا وأعتدنا للكافرين عذابًا‏}‏ ومنها‏:‏ قصد الخصوص نحو ‏{‏وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي‏}‏ لم يقل لك تصريحًا بأنه خاص به‏.‏
ومنها‏:‏ الإشارة إلى عدم دخول الجملة في حكم الأولى نحو ‏{‏فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل‏}‏ فإن ويمح الله استئناف لا داخل في حكم الشرط‏.‏
ومنها‏:‏ مراعاة الجناس ومنه ‏{‏قل أعوذ برب الناس‏}‏ السورة ذكره الشيخ عز الدين ومثله ابن الصائغ بقوله ‏{‏خلق الإنسان من علق‏}‏ ثم قال ‏{‏علم الإنسان ما لم يعلم كلا إن الإنسان ليطغى‏}‏ فإن المراد بالإنسان الأول الجنس وبالثاني آدم أومن يعلم الكتابة أوإدريس وبالثالث أبوجهل‏.‏
ومنها‏:‏ مراعاة الترصيع وتوازن الألفاظ في التركيب ذكره بعضهم في قوله ‏{‏أن تضل إحداهما فتذكر} إحداهما الأخرى‏.‏
ومنها‏:‏ أن يتحمل ضميرًا لا بد منه ومنه ‏{‏أتيا أهل قرية استطعما أهلها‏}‏ لوقال استطعما لم يصح لأنهما لم يستطعما القرية أواستطعماهم فكذلك لأن جملة استطعما صفة لقرية النكرة لا لأهل فلا بد أن يكون فيها ضمير يعود عليه ولا يمكن إلا مع التصريح بالظاهر وكذا حرره السبكي في جواب سؤال الصلاح الصفدي في ذلك حيث قال‏:‏ ومن كفه يوم الندى ويراعه على طرسه بحران يلتقيان ومن إن دجت في المشكلاتمسائل جلاها بفكر دائم اللمعان رأيت كتاب الله أكبر معجز لأفضل من يهدي به الثقلان ومن جملة الإعجاز كون اختصاره بإيجاز ألفاظ وبسط معان ولكنني في الكهف أبصرت آية بها الكفر في طول الزمان عيان وما هي إلا استطعما أهلها فقد نرى استطعماهم مثله ببيان فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر مكان ضمير إن ذاك لشان فأرشد على عادات فضلك حيرتي فمالي بها عند البيان يدان تنبيه إعادة الظاهر بمعناه أحسن من إعادته بلفظه كما مر في آيات إنا لا نضيع أجر المصلحين أجر من أحسن عملًا ونحوها ومنه ‏{‏ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء‏}‏ فإن إنزال الخير مناسب للربوبية وأعاده بلفظ الله لأن تخصيص الناس بالخير دون غيرهم مناسب للإلهية لأن دائرة الربوبية أوسع ومنه ‏{‏الحمد لله الذي خلق السموات والأرض‏}‏ إلى قوله ‏{‏بربهم يعدلون‏}‏ وإعادته في جملة أخرى أحسن منه في الجملة الواحدة لانفصالها وبعد الطول أحسن من الإضمار لئلا يبقى الذهن متشاغلًا بسبب ما يعود عليه فيفوته ما شرع فيه كقوله ‏{‏وتلك حجتنا آتيناهم إبراهيم على قومه} بعد قوله ‏{‏وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر‏}‏‏.‏
النوع الرابع عشر‏:‏ الإيغال وهوالإمعان وهوختم الكلام بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها‏.‏
وزعم بعضهم أنه خاص بالشعر ورد بأنه وقع في القرآن من ذلك ‏{‏يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسئلكم أجرًا وهم مهتدون‏}‏ فقوله وهم مهتدون إيغال لأنه يتم المعنى بدونه إذا الرسول مهتد لا محالة لكن فيه زيادة مبالغة في الحث على أتباع الرسل والترغيب فيه‏.‏
وجعل ابن أبي الأصبع منه ‏{‏ولا يسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين‏}‏ فإن قوله إذا ولوا مدبرين زائد على المعنى مبالغة في عدم انتفاعهم ‏{‏ومن احسن من الله حكمًا لقوم يوقنون‏}‏ زائد على المعنى لمدح المؤمنين والتعريض بالذم لليهود وأنهم بعيدون عن الإيقان ‏{‏إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون‏}‏ فقوله مثل ما الخ إيغال زائد على المعنى لتحقيق هذا الوعد وأنه واقع معلوم ضرورة لا يرتاب فيه أحد‏.‏
النوع الخامس عشر‏:‏ التذييل وهوأن يأتي بجملة عقب جملة والثانية تشتمل على المعنى الأول لتأكيد منطوقه أومفهومه ليظهر المعنى لمن لم يفهمه ويتقرر عند من فهمه نحو ‏{‏ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور‏}‏ ‏{‏وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا‏}‏ ‏{‏وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت‏}‏ ‏{‏ويوم القيامة يكفرون بشرككم‏}‏ النوع السادس عشر‏:‏ الطرد والعكس قال الطيبي‏:‏ وهوأن يؤتى بكلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس كقوله تعالى ‏{‏ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات‏}‏ إلى قوله ‏{‏ليس عليكم جناح بعدهن‏}‏ فمنطوق الأمر بالاستئذان في تلك الأوقات خاصة مقرر مفهوم رفع الجناح فيما عداها وبالعكس وكذا قوله ‏{‏لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ قلت‏:‏ وهذا النوع يقابله في الإيجاز نوع الاحتباك‏.‏
النوع السابع عشر‏:‏ التكميل ويسمى بالاحتراس وهوأن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفع