النوع الرابع والستون في إعجاز القرآن
 
أفرده بالتصنيف خلائق‏:‏ منهم الخطابي والرماني والزملكاني والإمام الرازي وابن سراقة والقاضي أبو بكر الباقلاني‏.‏
قال ابن العربي‏:‏ ولم يصنف مثل كتابه‏.‏
اعلم أن المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة وهي إما حسية وإما عقلية‏.‏
وأكثر معجزات بني إسرائيل كانت حسية لبلادتهم وقلة بصيرتهم وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية لفرط ذكائهم وكمال أفهامهم ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خصت بالمعجزة العقلية الباقية ليراها ذووا البصائر كما قال صلى الله عليه وسلم ما من الأنبياء نبي إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أحاه الله إليّ فأرجوأن أكون أكثرهم تابعًا أخرجه البخاري‏.‏
قيل إن معناه‏:‏ إن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشهدها إلا من حضرها ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة وخرقه العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه‏.‏
وقيل‏:‏ المعنى أن المعجزات الواضحة الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصا موسى ومعجزات القرآن تشاهد بالبصيرة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرًا‏.‏
قال في فتح الباري‏:‏ ويمكن لنظم القولين في كلام واحد فإن محصلهما لا ينافي بعضه بعضًا ولا خلاف بين العقلاء أن كتاب الله تعالى معجز لم يقدر أحد على معارضته بعد تحديهم بذلك قال تعالى وإن أحد من لمشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله فلولا أن سماعه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه ولا يكون حجة إلا وهومعجزة‏.‏
وقال تعالى وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم فأخبر أن الكتاب آيات من آياته كاف في الدلالة قائم مقام معجزات غيره وآيات من سواه من الأنبياء ولما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء وتحداهم على أن يأتوا بمثله وأمهلهم طول السنين فلم يقدروا كما قال تعالى فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ثم تحداهم بعشر سور منه في قوله تعالى أم يقولون افتراه قل فائتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا إنما أنزل بعلم الله ثم تحداهم بسورة في قوله ‏{‏أم يقولون افتراه قل فائتوا بسورة مثله‏}‏ الآية ثم كرر في قوله ‏{‏وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فائتوا بسورة من مثله‏}‏ الآية فلما عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشبهه على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء نادى عليهم بإظهار العجز وإعجاز القرآن قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولوكان بعضهم لبعض ظهيرًا فهذا وهم الفصحاء اللد وقد كانوا أحرص شيء على إطفاء نوره وإخفاء أمره فلوكان في مقدرتهم معارضته لعدلوا إليها قطعًا للحجة ولم ينقل عن أحد منهم أنه حدث نفسه بشيء من ذلك ولا رامه بل عدلوا إلى العناد تارة وإلى الاستهزاء أخرى فتارة قالوا سحر وتارة قالوا شعر وتارة قالوا أساطير الأولين كل ذلك من التحير والانقطاع ثم رضوا بتحكيم السيف في أعناقهم وسبي ذراريهم وحرمهم واستباحة أموالهم وقد كانوا آنف شيء وأشده حمية فلوعلموا أن الإتيان بمثله في قدرتهم لبادروا إليه لأنه أهون عليهم‏.‏
كيف وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس قال‏:‏ جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال‏:‏ يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالًا ليعطوكه لئلا تأتي محمدًا لتعرض لما قاله قال‏:‏ قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا قال‏:‏ فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنك كاره له قال‏:‏ وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا بزجره ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي تقول شيئًا من هذا ووالله إن لقوله يقول حلاوة وغ عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلوولا يعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته قال‏:‏ لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال‏:‏ فدعني حتى أفكر فلما فكر قال‏:‏ هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره‏.‏
قال الجاحظ‏:‏ بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعرًا وخطيبًا وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته فدعاهم بالحجة فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة حملهم على حظهم بالسيف فنصب لهم الحرب ونصبوا له وقيل من عليتهم وأعلامهم وبني أعمامهم وهوفي ذلك يحتج عليهم بالقرآن ويدعوهم صباحًا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبًا بسورة واحدة أوبآيات يسيرة فلكما ازداد تحديًا لهم بها وتقريعًا لعجزهم عنها تكشف عن نقصهم ما كان مستورًا وظهر منه ما كان خفيًا فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له‏:‏ أنت تعرف من أخبار الأمم مالا نعرف فلذلك يمكنك مالا يمكننا قال‏:‏ فهاتوها مفتريات فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولا طبع فيه لتكلفه ولوتكلفه لظهر ذلك ولوظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واستحالة لغتهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمتي لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هودون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم فمحال أكرمك الله أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص والتوقيف على العجز وهم أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد عملهم وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر الجليل المنفعة وكما أنه محال أن يطبقوه ثلاثًا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه انتهى‏.‏
فصل لما ثبت كون القرآن معجزة نبيًا صل الله عليه وسلم وجب الاهتمام بمعرفة نوع الإعجاز وقد خاض الناس في ذلك كثيرًا فبين محسن ومسيء فزعم قوم أن التحدي وقع بالكالم القديم الذي هوصفة الذات وأن العرب كلفت في ذلك ما لا يطاق وبه وقع عجزها وهومردود لأن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يتصور التحدي به‏.‏
والصواب ما قاله الجمهور أنه وقع بالدال على القديم وهوالألفاظ ثم زعم النظام أن إعجازه بالصرفة‏:‏ أي أن الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم وكان مقدورًا لهم لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات‏.‏
وهذا قول فاسد بدليل ‏{‏قل لئن اجتمعت الإنس والجن‏}‏ الآية فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ولوسلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم لمنزلته منزلة اجتماع الموتى وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره هذا مع أن الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن فكيف يكون معجزًا وليس فيه صفة إعجاز بل المعجز هو الله تعالى حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله‏.‏
وأيضًا فيلزم من القول بالصرفة زوال الإعجاز بزوال زمان التحدي وخلوالقرآن من الإعجاز وفي ذلك خرق لإجماع الأمة أن معجزة الرسول العظمى باقية ولا معجزة له سوى القرآن‏.‏
قال القاضي أبو بكر‏:‏ ومما يبطل القول بالصرفة أنه لوكانت المعارضة ممكنة وإنما منع منها الصرفة لم يكن الكلام معجزًا وإنما يكون بالمنع معجزًا فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره فينفسه‏.‏
قال‏:‏ وليس هذا بأعجب من قول فريق منهم أن الكل قادرون على الإتيان بمثله وإنما تأخروا عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لوتعلموا لوصلوا إليه به ولا بأعجب من قول آخرين أن العجز وقع منهم وأما من بعدهم ففي قدرته الإتيان بمثله وكل هذا لا يعتد به‏.‏
وقال قوم‏:‏ وجه إعجازه ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة ولم يكن ذلك من شأن العرب‏.‏
وقال آخرون‏:‏ ما تضمنه من الإخبار عن قصص الأولين وسائر المتقدمين حكاية من شاهدها وحضرها‏.‏
وقال آخرون‏:‏ ما تضمنه من الإخبار عن الضمائر من غير أن يظهر ذلك بقول أوفعل كقوله ‏{‏إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله وقال القاضي أبو بكر‏:‏ وجه إعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب ومباين لأساليب خطاباتهم‏.‏
قال‏:‏ ولهذا لم يمكنهم معارضته‏.‏
قال‏:‏ ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التي أودعوها في الشعر لأنه ليس مما يخرق العادة بل يمكن استدراكه بالعلم والتدريب والتصنع به كقول الشعر ووصف الخطب وصناعة الرسالة والحذق في البلاغة وله طريق تسلك فأما شأوونظم القرآن فليس له مثال يحتذى ولا إمام يقتدى به ولا يصح وقوع مثله اتفاقًا‏.‏
قال‏:‏ ونحن نعتقد أن الإعجاز في بعض القرآن أظهر وفي بعضه أدق وأغمض‏.‏
وقال الإمام فخر الدين‏:‏ وجه الإعجاز الفصاحة وغرابة الأسلوب والسلامة من جميع العيوب‏.‏
وقال الزملكاني‏:‏ وجه الإعجاز راجع إلى التأليف الخاص به لا مطلق التأليف بأن اعتدلت مفرداته تركيبًا وزنة وعلة مركباته معنى بأن يوقع كل فن في مرتبته العليا في اللفظ والمعنى‏.‏
وقال ابن عطية‏:‏ الصحيح والذي عليه الجمهور والحذاق في وجه إعجازه أنه بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه وذلك أن الله أحاك بكل شيء علمًا وأحاط بالكلام كله فإذا ترتيب اللفظة من القرآن علوبإحاطته‏:‏ أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول‏.‏
ومعلوم ضرورة أن أحدًا من البشر لا يحيط بذلك فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة وبهذا يبطل قول من قال‏:‏ إن العرب كان في قدرتها الإتيان بمثله فصرفوا عن ذلك‏.‏
والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط ولهذا ترى البليغ ينقح القصيدة أوالخطبة حولًا ثم ينظر فيها فيغير فيها وهلم جرًا وكتاب الله تعالى لونزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد ونحن يتبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وقامت الحجة على العالم بالعرب إذا كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة كما قامت الحجة في معجزة موسى بالسحرة وفي معجزة عيسى بالأطباء فإن الله إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبدع ما يكون في زمن النبي الذي أراد إظهاره فكان السحر قد انتهى في مدة موسى إلى غايته وكذلك الطب في زمن عيسى والفصاحة في زمن محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏
وقال حازم في منهاج البلغاء‏:‏ وجه الإعجاز في القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمرارًا لا يوجد له فترة ولا يقدر عليه أحد من البشر وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير المعدود ثم تعرض الفترات الإنسانية فينقطع طيب الكلام ورونقه فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه بل توجد في تفاريق وأجزاء منه‏.‏
وقال المراكشي في شرح المصباح‏:‏ الجهة المعجزة في القرآن تعرف بالتفكير في علم البيان وهوكما اختاره جماعة في تعريفه ما يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى وعن تعقيده ويعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه لمقتضى الحال لأن جهة إعجازه ليس مفردات ألفاظه وإلا لكانت قبل نزوله معجزة ولا مجرد تأليفها وإلا لكان كل تأليف معجزًا ولا إعرابها وإلا لكان كل كلام معرب معجزًا ولا مجرد أسلوبه وإلا لكان الابتداء بأسلوب الشعر معجزًا والأسلوب الطريق ولكان هذيان مسيلمة معجزًا ولأن الإعجاز يوجد دونه‏:‏ أي الأسلوب في نحو فلما استيأسوا منه خلصوا نجيًا فاصدع بما تؤمر ولا بالصرف عن معارضتهم لأن تعجبهم كان من فصاحته ولأن مسيلمة وابن المقفع والمعري وغيرهم قد تعاطوها فلم يأتوا إلا بما تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع‏.‏
ويضحك منه في أحوال تركيبه وبها‏:‏ أي بتلك الأحوال أعجز البلغاء وأخرص الفصحاء فعلى إعجازه دليل إجمالي وهوأن العرب عجزت عنه وهوبلسانها فغيرها أحرى ودليل تفصيلي مقدمته التفكر في خواص تركيبه ونتيجته العلم بأنه تنزيل من المحيط بكل شيء علمًا‏.‏
وقال الأصبهاني في تفسيره‏:‏ اعلم أن إعجاز القرآن ذكر من وجهين‏:‏ أحدهما إعجاز متعلق بنفسه والثاني بصرف الناس عن معارضته‏.‏
فالأول إما أن يتعلق بفصاحته وبلاغته أوبمعناه‏.‏
أما الإعجاز المتعلق بفصاحته وبلاغته فلا يتعلق بنصره الذي هو اللفظ والمعنى فإن ألفاظه ألفاظهم قال تعالى قرآنًا عربيًا بلسان عربي ولا بمعانيه فإن كثيرًا منها موجود في الكتب المتقدمة قال تعالى وإنه لفي زبر الأولين وما هوفي القرآن من المعارف الإلهية وبيان المبدأ والمعاد والإخبار بالغيب فإعجازه ليس براجع إلى القرآن من حيث هوقرآن بل لكونها حاصلة من غير سبق تعليم وتعلم ويكون الإخبار بالغيب إخبارًا بالغيب سواء كان بهذا النظم أوبغيره مؤدى بالعربية أوبلغة أخرى بعبارة أوإشارة فإن النظم المخصوص صورة القرآن واللفظ والمعنى عنصره وباختلاف الصور يختلف حكم الشيء واسمه لا بعنصره كالخاتم والقرط والسوار فإنه باختلاف صوها اختلفت أسماؤها لا بعنصرها الذي هو الذهب والفضة والحديد فإن الخاتم المتخذ من الفضة ومن الذهب ومن الحديد يسمى خاتمًا وإن كان العنصر مختلفًا وإن اتخذ خاتم وقرط وسوار من ذهب اختلفت أسماؤها باختلاف صورها وإن كان العنصر واحدًا‏.‏
قال‏:‏ فظهر من هذا أن الإعجاز المختص بالقرآن يتعلق بالنظم المخصوص وبيان كون النظم معجزًا يتوقف على بيان نظم الكلام ثم بيان أن هذا النظم مخالف لنظم ما عداه فنقول‏:‏ مراتب تأليف الكلام خمس‏.‏
الأولى‏:‏ ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض لتحصل الكلمات الثلاث الاسم والفعل والحرف‏.‏والثانية‏:‏ تأليف هذت الكلمات بعضها إلى بعض لتحصل الجمل المفيدة وهوالنوع الذي يتداوله الناس جميعًا في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم ويقال له المنثور من الكلام‏.‏
والثالثة‏:‏ يضم بعض ذلك إلى بعض ضمًا له مباد ومقاطع ومداخل ومخارج ويقال له المنظوم‏.‏
والرابعة‏:‏ أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع ويقال له المسجع‏.‏والخامسة‏:‏ أن يجعل مع ذلك وزن ويقال له الشعر والمنظوم إما محاورة ويقال له الخطابة وإما مكاتبة ويقال له الرسالة‏.‏
فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام ولكل من ذلك نظم مخصوص والقرآن جامع لمحاسن الجميع على نظم غير نظم شيء منها يدل على ذلك لأنه لا يصح أن يقال له رسالة أوخطابة أوشعراء أوسجع كما يصح أن يقال هوكلام والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم ولها قال تعالى وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنبيهًا على أن تأليفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر فيمكن أن يغير بالزيادة والنقصان كحالة الكتب الأخر‏.‏
قال‏:‏ وأما الإعجاز المتعلق بصرف الناس عن معارضته فظاهر أيضًا إذا اعتبر وذلك أنه ما من صناعة محمودة كانت أومذمومة إلا وبينها وبين قوم مناسبات خفية واتفاقات جميلة بدليل أن الواحد يؤثر حرفة من الحرف فينشرح صدره بملابستها وتطيعه قواه في مباشرتها فيقبلها بانشراح صدر ويزاولها باتساع قلبه فلما دعا الله أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كل واد من المعاني بسلاطة لسانهم إلى معارضة القرآن وعجزهم عن الإتيان بمثله ولم يتصدوا لمعارضته لم يخف على أولي الألباب أن صارفًا إلهيًا صرفهم عن ذلك وأي إعجاز أعظم من أن يكون كافة البلغاء عجزت في الظاهر عن معارضته مصروفة في الباطن عنها أه‏.‏
وقال السكاكي في المفتاح‏:‏ اعلم أن إعجاز القرآن يدرك وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها وكالملاحة كما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت ولا يدرك تحصيله لغير الفطرة السليمة إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والتمرين فيهما‏.‏
وقال أبوحيان التوحيدي‏:‏ سئل بندار الفارسي عن موضع الإعجاز من القرآن فقال‏:‏ هذه مسألة فيها حيف على المعنى وذلك أنه شبيه بقولك ما موضع الإنسان من الإنسان فليس لإنسان موضع من الإنسان بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ودللت على ذاته كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعنى آية في نفسه ومعجزة لمحاوله وهدى لقائله وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه وأسراره في كتابه فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده‏.‏
وقال الخطابي‏:‏ ذهب الأكثرون من علماء النظر إلى وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة لكن صعب عليهم تفصيلها وصغوا فيه إلى حكم الذوق‏.‏
قال‏:‏ والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في درجات البيان متفاوتة فمنها البليغ الرصين الجزل ومنها الفصيح القريب السهل ومنها الجائز المطلق الرسل‏.‏
وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود‏.‏
فالأول أعلاها والثاني أوسطها والثالث أدناها وأقربها‏.‏
فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة وأخذت من كل نوع شعبة فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة وهما على الانفراد في نعومتهما كالمتضادين لأن العذوبة نتاج السهولة والجزالة والمتانة يعالجان نوعًا من الذعورة فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبوكل واحد منهما على الآخر فضيلة خص بها القرآن ليكون آية بينة لنبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏
وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور‏.‏
منها‏:‏ أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه المنظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض فيتواصلوا باختيار الأفضل من الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة‏:‏ لفظ حاصل ومعنى قائم ورباط لهما ناظم وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئًا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولاأعذب من ألفاظه ولا ترى نظمًا أحسن تأليفًا وأشد تلاوة وتشاكلًا من نظمه‏.‏
وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام فإما أن توجد مجموعة في نوع واحد فلم توجد إلا في كلام العليم القدير فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزًا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنًا أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته ودعائه إلى طاعته وبيان لطريق عبادته من تحليل وتحريم وحظر وإباحة ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعًا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه مودعًا أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعائد منهم منبئًا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الآتية من الزمان جامعًا في ذلك بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا عليه وأداء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتنسق أمر يعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله أومناقضته في شكله ثم صار المعاندون له يقولون مرة أنه شعر لما رأوه منظومًا ومرة أنه سحر لما رأوه ومعجوز عنه غير مقدور عليه وقد كانوا يجدون له وقعًا في القلوب وقرعًا في النفوس يرهبهم ويحيرهم فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعًا من الاعتراف ولذلك قالوا‏:‏ إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وكانوا مرة بجهلهم يقولون أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلًا مع علمهم أن صاحبهم أمي وليس بحضرته من يملي أويكتب في نحوذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز‏.‏
ثم قال‏:‏ وقد قلت في إعجاز القرآن وجهًا ذهب عنه الناس وهوصنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس فإنك لا تسمع كلامًا غير القرآن منظومًا ولا منثورًا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ذوي الروعة والمهابة في حال آخر ما يخلص منه إليه قال تعالى لوأنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله وقال الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم وقال ابن سراقة‏:‏ اختلف أهل العلم في وجه إعجاز القرآن فذكروا في ذلك وجوهًا كثيرة كلها حكمة وصوابًا وما بلغوا في وجوه إعجازه جزءًا واحدًا من عشر معشاره فقال قوم‏:‏ هو الإيجاز مع البلاغة‏.‏
وقال آخرون‏:‏ هو البيان والفصاحة‏.‏
وقال آخرون‏:‏ هو الوصف والنظم‏.‏
وقال آخرون‏:‏ هوكونه خارجًا عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر مع كون حروفه في كلامهم ومعانيه في خطابهم وألفاظه من جنس كلماتهم وهوبذاته قبيل غير قبيل كلامهم وجنس آخر متميز عن أجناس خطابهم حتى أ من اقتصر على معانيه وغير حروفه أذهب رونقه ومن اقتصر على حروفه وغير معانيه أبطل فائدته فكان في ذلك أبلغ دلالة على إعجازه‏.‏
وقال آخرون‏:‏ هوكون قار إنه لا يكل وسامعه لا يمل وإن تكررت عليه تلاوته‏.‏
وقال آخرون‏:‏ هوما فيه من الإخبار عن الأمور الماضية‏.‏
وقال آخرون‏:‏ هوما فيه من علم الغيب والحكم على الأمور بالقطع‏.‏
وقال آخرون‏:‏ هوكونه جامعًا لعلوم يطول شرحها ويشق حصرها أه‏.‏
وقال الزركشي في البرهان‏:‏ أهل التحقيق على أن الإعجاز وقع بجميع ما سبق من الأقوال لا بكل واحد على انفراده فإنه جمع ذلك كله فلا معنى لنسبته إلى واحد منها بمفرده مع اشتماله على الجميع بل وغير ذلك مما لم يسبق فمنها‏:‏ الروعة التي له في قلوب السامعين وأسماعهم سواء المقر والجاحد‏.‏
ومنها‏:‏ أنه لم يزل ولا يزال غضًا طريًا في أسماع السامعين وعلى ألسنة القارئين‏.‏
ومنها‏:‏ جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادين لا يجتمعان غالبًا في كلام البشر‏.‏
ومنها‏:‏ جعله آخر الكتب غنيًا عن عثره وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد تحتاج إلى بيان يرجع فيه إليه كما قال تعالى إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وقال الرماني‏:‏ وجوه إعجاز القرآن تظهر من جهات ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة والتحدي للكافة والصرفة والبلاغة والإخبار عن الأمور المستقبلة ونقض العادة وقياسه بكل معجزة‏.‏
قال‏:‏ ونقض العادة هوا العادة كانت جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة‏:‏ منها الشعر ومنها السجع ومنها الخطب ومنها الرسائل ومنها المنثور الذي يدور بين الناس في الحديث فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن تفوق به كل طريقة ويفوق الموزون الذي هوأحسن الكلام‏.‏
قال‏:‏ وأما قياسه بكل معجزة فإنه يظهر إعجازه من هذه الجهة إذا كان سبيل فلق البحر وقلب العصا حية وما جرى هذا المجرى في ذلك سبيلًا واحدًا في الإعجاز إذ خرج عن العادة فصد الخلق عن المعارضة‏.‏
وقال القاضي عياض في الشفا‏:‏ اعلم أن القرآن منطوعلى وجوه من الإعجاز كثيرة وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه‏.‏
أولها‏:‏ حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إيجازه وبالغته الخارقة عادة العرب الذين هم فرسان الكلام وأرباب هذا الشأن‏.‏
والثاني‏:‏ صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومنها نظمها ونثرها الذي جاء عليه ووقفت عليه مقاطع آياته وانتهت إليه فواصل كلماته ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له‏.‏
قال‏:‏ وكل واحد من هذين النوعين الإيجاز والبلاغة بذاتها والأسلوب الغريب بذاته نوع إعجاز على التحقيق لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما إذ كل واحد خارج عن قدرتها مباين لفصاحتها وكلامها خلافًا لمن زعم أن الإعجاز في مجموع البلاغة والأسلوب‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات وما لم يكن فوجد كما ورد‏.‏
الرابع‏:‏ ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الدائرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك فيورده صلى الله عليه وسلم على وجهه ويأتي به على نصه وهوأمي لا يقرأ ولا يكتب‏.‏
قال‏:‏ فهذه الوجوه الأربعة من إعجاز بينة لا نزاع فيها‏.‏
ومن الوجوه في إعجازه غير ذلك آي وردت بتعجيز قوم في قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا على ذلك كقوله لليهود فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدًا فما تمناه أحد منهم وهذا الوجه داخل في الوجه الثالث‏.‏
ومنها‏:‏ الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعهم والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته وقد أسلم جماعة عند سماع آيات منه كما وقع لجبير بن مطعم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور قال‏:‏ فلما بلغ هذه الآية أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون إلى قوله المسيطرون كاد قلبي أن يطير‏.‏
قال‏:‏ وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي‏.‏
وقد مات جماعة عند سماع آيات منه أفردوا بالتصنيف‏.‏
ثم قال‏:‏ ون وجوه إعجازه كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدنيا مع ما تكفل الله بحفظه‏.‏
ومنها‏:‏ أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة وترديده يوجب له محبة وغيره من الكلام يعادي 7 إذا أعيد ويمل مع الترديد ولهذا وصف صلى الله عليه وسلم القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الرد‏.‏
ومنها‏:‏ جمعه لعلوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب ولا أحاط بعلمها أحد في كلمات قليلة وأحرف معدودة‏.‏قال‏:‏ وهذا الوجه داخل في بلاغته فلا يجب أن يعد فنًا مفردًا في إعجازه‏.‏
قال‏:‏ والأوجه التي قبله تعد في خواصه وفضائله لا إعجازه وحقيقة الإعجاز الوجوه الأربعة الأول فليعتمد عليها‏.‏
تنبيهات
الأول اختلف في قدر المعجز من القرآن فذهب بعض المعتزلة إلى أنه متعلق بجميع القرآن والآيتان السابقتان ترده‏.‏
وقال القاضي‏:‏ يتعلق الإعجاز بسورة طويلة أوقصيرة تشبثًا بظاهر قوله بسورة‏.‏
وقال في موضع آخر‏:‏ يتعلق بسورة أوقدرها من الكلام بحيث يتبين فيه تفاضل قوى البلاغة‏.‏
قال‏:‏ فإذا كانت آية بقدر حروف سورة وإن كانت كسورة الكوثر فذلك معجز‏.‏
قال‏:‏ ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر‏.‏
وقال قوم‏:‏ لا يحصل الإعجاز بآية بل يشترط الآيات الكثيرة‏.‏
وقال آخرون‏:‏ يتعلق بقليل القرآن وكثيره لقوله ‏{‏فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين‏}‏ قال القاضي‏:‏ ولا دلالة في الآية لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة‏.‏
الثاني اختلف في أنه هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة قال القاضي ‏"‏ فذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن ظهور ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ضرورة وكونه معجزًا يعلم الاستدلال‏.‏
قال‏:‏ والذي نقوله أن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالًا وكذلك من ليس ببليغ‏.‏
فأما البليغ الذي قد أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه وعجز غيره عن الإتيان بمثله‏.‏
الثالث اختلف في تفاوت القرآن في مراتب الفصاحة بعد اتفاقهم على أنه أعلى مراتب البلاغة بحيث لا يوجد في التراكيب ما هوأشد تناسبًا ولا اعتدالًا في إفادة ذلك المعنى منه فاختار القاضي المنع وأن كل كلمة فيه موصوفة بالذروة العليا وإن كان بعض الناس أحسن إحساسًا له من بعض‏.‏
واختار أبونصر القشيري وغيره التفاوت فقال‏:‏ لا ندعي أن كل ما في القرآن على أرفع الدرجات في الفصاحة وكذا قال غيره‏:‏ في القرآن الأفصح والفصيح وإلى هذا نحا الشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم أورد سؤالًا وهوأنه لم لم يأت القرآن جميعه بالأفصح وأجاب عنه الصدر موهوب الجزري بما حاصله أنه لوجاء القرآن على ذلك لكان على غير النمط المعتاد في كلام العرب من الجمع بين الأفصح والفصيح فلا تتم الحجة في الإعجاز فجاء على نمط كلامهم المعتاد ليتم ظهور العجز عن معارضته ولا يقولوا مثلًا‏:‏ أتيت بما لا قدرة لنا على جنسه كما لا يصح من البصير أن يقول للأعمى‏:‏ قد غلبتك بنظري لأنه يقول له‏:‏ إنما تتم لك الغلبة لوكنت قادرًا على النظر وكان نظرك أقوى من نظري وأما إذا فقد أصل النظر فكيف تصح مني المعارضة‏.‏
الرابع قيل الحكمة في تنزيل القرآن عن الشعر الموزون مع أن الموزون من الكلام رتبته فوق رتبة غيره أن القرآن منبع الحق ومجمع الصدق وقصارى أمر الشاعر التخييل بتصور الباطل في صورة الحق والإفراط في الإطراء والمبالغة في الذم والإيذاء دون إظهار الحق وإثبات الصدق ولهذا نزه الله نبيه عنه ولأجل شهرة الشعر بالكذب سمى أصحاب البرهان القياسات المؤدية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب شعرية‏.‏
وقال بعض الحكماء‏:‏ لم ير متدين صادق اللهجة مفلق في شعره‏.‏
وأما ما وجد في القرآن مما صورته صورة الموزون فالجواب عنه أن ذلك لا يسمى شعرًا لأن شرط الشعر القصد ولوكان شعرًا لكان كل من اتفق له في كلامه شيء موزون شاعرًا فكان الناس كلهم شعراء لأنه قل أن يخلوكلام أحد عن ذلك وقد ورد ذلك على الفصحاء فلواعتقدوه شعرًا لبادروا إلى معارضته والطعن عليه لأنهم كانوا أحرص شيء عن ذلك وإنما يقع ذلك لبلوغ الغاية القصوى في الانسجام‏.‏
وقيل البيت الواحد وما كان على وزنه لا يسمى شعرًا وأقل الشعر بيتان فصاعدًا‏.‏
وقيل الرجز لا يسمى شعرًا أصلًا وقيل أقل ما يكون من الرجز شعرًا أربعة أبيات وليس ذلك في القرآن بحال‏.‏
الخامس قال بعضهم‏:‏ التحدي إنما وقع للإنس دون الجن لأنهم ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه وإنما ذكروا في قوله ‏{‏قل لئن اجتمعت الإنس والجن} تعظيمًا لإعجازه لأن الهيئة الاجتماعية من القوة ما ليس للأفراد فإذا فرض اجتماع الثقلين فيه وظاهر بعضهم بعضًا وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد أعجز‏.‏
وقال غيره‏:‏ بل وقع للجن أيضًا والملائكة منوبون في الآية لأنهم لا يقدرون أيضًا على الإتيان بمثل القرآن‏.‏
وقال الكرماني في غرائب التفسير‏:‏ إنما اقتصر في الآية على ذكر الإنس والجن لأنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثًا إلى الثقلين دون الملائكة‏.‏
السادس سئل الغزالي عن معنى قوله تعالى ‏{‏ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا ‏}‏فأجاب‏:‏ الاختلاف لفظ مشترك بين معان وليس المراد نفي اختلاف الناس فيه بل نفي الاختلاف عن ذات القرآن‏.‏ويقال هذا كلام مختلف‏:‏ أي لا يشبه أوله آخره في الفصاحة أوهومختلف الدعوة‏:‏ أي بعضه يدعوإلى الدين وبعضه يدعوإلى الدنيا وهومختلف النظم فبعضه على وزن الشعر وبعضه منزحف وبعضه على أسلوب مخصوص في الجزالة وبعضه على أسلوب يخالفه وكلام الله منزه عن هذه الاختلافات فإنه على منهاج واحد في النظم مناسب أوله آخره وعلى درجة واحدة في غاية الفصاحة فليس يشتمل على الغث والسمين ومسوق لمعنى واحد وهودعوة الخلق إلى الله تعالى وصرفهم عن الدنيا إلى الدين وكلام الغث والسمين ومسوق لمعنى واحد وهودعوة الخلق إلى الله تعالى وصرفهم عن الدنيا إلى الدين وكلام الآدميين تتطرق إليه هذه الاختلافات إذ كلام الشعراء والمترسلين إذا قيس عليه وجد فيه اختلاف في منهاج النظم ثم اختلاف في درجات الفصاحة بل في أصل الفصاحة حتى يشتمل على الغث والسمين ولا يتساوى رسالتان ولا قصيدتان بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات سخيفة وكذلك تشتمل القصائد والأشعار على أغراض مختلفة لأن الشعراء والفصحاء في كل واد يهيمون فتارة يمدحون الدنيا وتارة يذمونها وتارة يمدحون الجبن ويسمونه حزمًا وتارة يذمونه ويسمونه ضعفًا وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صرامة وتارة يذمونها ويسمونها تهورًا ولا ينفك كلام آدمي عن هذه الاختلافات لأن منشأها اختلاف الأغراض بالأحوال والإنسان تختلف أحواله فتساعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه وتتعذر عليه عند الانقباض وكذلك تختلف أغراضه فيميل إلى الشيء مرة ويميل عنه أخرى فيوجب ذلك اختلافًا في كلامه بالضرورة فلا يصادف إنسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة وهي مدة نزول القرآن فيتكلم على غرض واحد ومنهاج واحد ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بشرًا تختلف أحواله فلوكان هذا كلامه أوكلام غيره من البشر لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا‏.‏
السابع قال القاضي‏:‏ فإن قيل هل تقولون أن غير القرآن من كلام الله معجزًا كالتوراة والإنجيل قلنا‏:‏ ليس شيء من ذلك بمعجز في النظم والتأليف وإن كان معجزًا كالقرآن فيما يتضمن من الأخبار بالغيوب وإن لم يكن معجزًا لأن الله تعالى لم يصفه بما وصف به القرآن ولأنا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما وقع في القرآن ولان ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حد الإعجاز‏.‏
وقد ذكر ابن جني في الخاطريات في قوله ‏{‏قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى‏}‏ أن العدول عن قوله ‏{‏وإما