النوع الثاني والستون في مناسبة الآيات والسور
 
أفرده بالتأليف العلامة أبوجعفر بن الزبير شيخ أبي حيان في كتاب سماه البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن ومن أهل العصر الشيخ برهان الدين البقاعي في كتاب سماه نظم الدرر في تناسب الآي والسور وكتابي الذي صنفته في أسرار التنزيل كافل بذلك جامع لمناسبات السور والآيات مع ما تضمنه من بيان وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة وقد لخصت منه مناسبة السور خاصة في جزء لطيف سميته تناسق الدرر في تناسب السور وعلم المناسبة علم شريف قل اعتناء المفسرين به لدقته وممن أكثر منه الإمام فخر الدين فقال في تفسيره‏:‏ أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط‏.‏
وقال ابن العربي في سراج المريدين‏:‏ ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة ثم فتح الله لنا فيه فلما لم نجد له حملة ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه‏.‏
وقال غيره‏:‏ أولم ن أظهر علم المناسبة الشيخ أبو بكر النيسابوري وكان غزير العلم في الشريعة والأدب وكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه‏:‏ لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة وكان يزري على علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة‏.‏وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام‏:‏ المناسبة علم حسن لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط ومن ربط ذلك فهومتكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث فضلًا عن أحسنه فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة شرعت لأسباب مختلفة وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض‏.‏
وقال الشيخ ولي الدين الملوي‏:‏ قد وهم من قال‏:‏ لا يطلب للآي الكريمة مناسبة لأنها على حسب الوقائع المفرقة وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلًا وعلى حسب الحكمة ترتيبًا وتأصيلًا فالمصحف على وفق ما في اللوح المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف كما أنزل جملة إلى بيت العزة ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها أومستقلة ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها ففي ذلك علم جم وهكذا فأي السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له أه‏.‏
وقال الإمام الرازي في سورة البقرة‏:‏ ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهوأيضًا بسبب ترتيبه ونظم آياته ولعل الذين قالوا إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين على هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل‏:‏ والنجم تستصغر الأبصار صورته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر فصل المناسبة في اللغة‏:‏ المشاكلة والمقاربة ومرجعها في الآيات ونحوها إلى معنى رابط بينها عام أوخاص عقلي أوحسي أوخيالي أوغير ذلك من أنواع العلاقات أوالتلازم الذهين كالسبب والمسبب والعلة والمعلوم والنظيرين والضدين ونحوهم وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذًا بأعناق بعض فيقوى بذلك الارتباط ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء فنقول ذكر الآية بعد الأخرى إما أن يكون ظاهر الارتباط لتعلق الكلم بعضه ببعض وعدم تمامه بالأولى فواضح وكذلك إذا كانت الثانية للأولى على وجه التأكيد أوالتفسير أوالاعتراض أوالبدل وهذا القسم لا كلام فيه‏.‏
وإما أن لا يظهر الارتباط بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى وأنها خلاف النوع المبدوء به فإما أن تكون معطوفة على الأولى بحرف من حروف العطف المشركة في الحكم أولًا فإن كانت معطوفة فلا بد أن يكون بينهما جهة جامعة على ما سبق تقسيمه كقوله تعالى يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرف فيها وقوله ‏{‏والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون} للتضاد بين القبض والبسط والولوج والخروج والنزول والعروج وشبه التضاد بين السماء والأرض‏.‏
ومما الكلام فيه التضاد ذكر الرحمة بعد ذكر العذاب والرغبة بعد الرهبة وقد جرت عادة القرآن إذا ذكر أحكامًا ذكر بعدها وعدًا ووعيدًا ليكون باعثًا على العمل بما سبق ثم يذكر آيات توحيد وتنزيه ليعلم عظم الآمر والناهي‏.‏
وتأمل سورة البقرة والنساء والمائدة تجده كذلك وإن لم تكن معطوفة فلا بد من دعامة تؤذن باتصال الكلام وهي قرائن معنوية تؤذن بالربط وله أسباب‏.‏أحدها‏:‏ التنظير فإن إلحاق النظير بالنظير من شأن العقلاء كقوله ‏{‏كما أخرجك ربك من بيتك بالحق}‏.‏
عقب قوله أولئك هم المؤمنون حقًا فإنه تعالى أمر رسوله أن يمضي لأمره في الغنائم على كره من أصحابه كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير أوللقتال وهم له كارهون والقصد أن كراهتهم لما فعله من قسمة الغنائم ككراهتهم للخروج وقد تبين في الخروج الخير من الظفر والنصر والغنيمة وعز الإسلام فكذا يكون فيما فعله في القسمة فليطيعوا ما أمروا به ويتركوا هوى أنفسهم‏.‏
الثاني‏:‏ المضادة كقوله في سورة البقرة ‏{‏إن الذين كفروا سواء عليهم‏}‏ الآية فإن أول السورة كان حديثًا عن القرآن وأن من شأنه الهداية للقوم الموصوفين بالإيمان فلما أكمل وصف المؤمنين عقب بحديث الكافرين فبينهما جامع وهمي ويسمى بالتضاد من هذا الوجه وحكمته التشويق والثبوت على الأول كما قيل وبضدها تتبين الأشياء فإن قيل‏:‏ هذا جامع بعيد لأن كونه حديثًا عن المؤمنين بالعرض لا بالذات والمقصود بالذات الذي هومساق الكلام إنما هو الحديث عن القرآن لأنه مفتتح القول‏.‏
قيل لا يشترط في الجامع ذلك بل يكفي التعلق على أي وجه كان ويكفي في وجه الربط ما ذكرناه لأن القصد تأكيدًا أمر القرآن والعمل به والحث على الإيمان ولهذا لما فرغ من ذلك قال وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فرجع إلى الأول‏.‏
الثالث‏:‏ الاستطراد كقوله تعالى ‏{‏يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم وريشًا ولباس التقوى ذلك خير‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدوالسوات وخصف الورق عليهما إظهارًا للمنة في ما خلق من اللباس ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة وإشعارًا بأن الستر باب عظيم من أبواب التقوى وقد خرجت على الاستطراد قوله تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله ولا الملائكة المقربون فإن أول الكلام ذكر للرد على النصارى الزاعمين نبوة المسيح ثم استطرد للرد على العرب الزاعمين نبوة الملائكة ويقرب من الاستطراد حتى لا يكادان يفترقان حسن التخلص وهوأن ينتقل مما ابتدئ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاسًا دقيق المعنى بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع عليه الثاني لشدة الالتئام بينهما وقد غلط أبو العلاء محمد بن غانم في قوله لم يقع منه في القرآن شيء لما فيه من التكلف وقال‏:‏ إن القرآن إنما ورد على الاقتضاب الذي هوطريقة العرب من الانتقال إلى غير ملائم وليس كما قال‏:‏ ففيه من التخلصات العجيبة ما يحير العقول‏.‏وانظر إلى سورة الأعراف كيف ذكر فيها الأنبياء والقرون الماضية والأمم السالفة ثم ذكر موسى إلا أن قص حكاية السبعين رجلًا ودعائه لهم ولسائر أمته بقوله ‏{‏واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة } وجوابه تعالى عنه ثم تخلص بمناقب سيد المرسلين بعد تخلصه لأمته بقوله ‏{‏قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين‏}‏ من صفاتهم كيت وكيت وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمي وأخذ في صفاته الكريمة وفضائله‏.‏
وفي سورة الشعراء حكى قول إبراهيم ولا تحزني يوم يبعثون فتخلص منه إلى وصف المعاد بقوله ‏{‏يوم لا ينفع مال ولا بنون‏}‏ الخ‏.‏
وفي سورة الكهف حكى قول ذي القرنين في السد بعد دكه الذي هومن أشراط الساعة ثم النفخ في السور وذكر الحشر ووصف ما للكفار والمؤمنين‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ الفرق بين التخلص والاستطراد‏:‏ أنك في التخلص تركت ما كنت فيه بالكلية وأقبلت على ما تخلصت إليه وفي الاستطراد تمر بذكر الأمر الذي استطردت إليه مرورًا كالبرق الخاطف ثم تتركه وتعود إلى ما كنت فيه كأنك لم تقصده وإنما عرض عروضًا‏.‏
قيل وبهذا يظهر أن ما في سورتي الأعراف والشعراء من باب الاستطراد لا التخلص لعوده في الأعراف إلى قصة موسى بقوله ‏{‏ومن قوم موسى أمة‏}‏ الخ‏.‏
وفي الشعراء إلى ذكر الأنبياء والأمم‏.‏
ويقرب من حسن التخلص الانتقال من حديث إلى آخر تنشيطًا للسامع مفصولًا بهذا كقوله في سورة ص بعد ذكر الأنبياء هذا ذكر وإنا للمتقين لحسن مآب فإن هذا القرآن نوع الذكر لما أنهى ذكر الأنبياء وهونوع من التنزيل أراد أن يذكر نوعًا آخر وهوذكر الجنة وأهلها‏.‏
ثم لما فرغ قال‏:‏ هذا وإن للطاغين لشر مآب فذكر النار وأهلها‏.‏قال ابن الأثير‏:‏ هذا في هذا المقام من الفصل الذي هواحسن من الوصل وهي علاقة أكيدة بين الخروج من كلام إلى آخر‏.‏
ويقرب منه أيضًا حسن المطلب‏.‏
قال الزنجاني والطيبي وهوأن يخرج إلى الغرض بعد تقدم الوسيلة كقوله ‏{‏إياك نعبد وإياك نستعين} قال الطيبي‏:‏ ومما اجتمع حسن التخلص والمطلب معًا قوله حكاية عن إبراهيم فإنه عدولي إلا رب العالمين الذي خلقني فهويهدين إلى قوله ‏{‏رب هب لي حكمًا وألحقني بالصالحين}‏.‏
قاعدة قال بعض المتأخرين‏:‏ الأمر الكلي المفيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هوأنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له التي تقتضي البلاغة شفاء الغليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن فإذا عقلته تبين لك وجه النظم مفصلًا بين كل آية وآية في كل سورة انتهى‏.‏
تنبيه من الآيات ما أشكلت مناسبتها لما قبلها من ذلك قوله تعالى في سورة القيامة لا تحرك به لسانك لتعجل به الآيات فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عسر جدًا فإن السورة كلها في أحوال القيامة حتى زعم بعض الرافضة أنه سقط من السورة شيء وحتى ذهب القفال فيما حكاه الفخر الرازي أنها نزلت في الإنسان المذكور قبل في قوله ‏{‏ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر‏}‏ قال‏:‏ يعرض عليه كتابه فإذا أخذ في القراءة تلجلج خوفًا فأسرع في القراءة فيقال له‏:‏ لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا أن نجمع عملك وأن نقرأ عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار بأنك فعلت ثم إن علينا بيان أمر الإنسان وما يتعلق بعقوبته أه‏.‏
وهذا يخالف ما ثبت في الصحيح أنها نزلت في تحريك النبي صلى الله عليه وسلم لسانه حالة نزول الوحي عليه وقد ذكر الأئمة لها مناسبات منها‏:‏ أنه تعالى لما ذكر القيامة وكان من شأن أن يقصر عن العمل لها حب العاجلة وكان من اصل الدين أن المبادرة إلى أفعال الخير مطلوبة فنبه على أنه قد يعترض على هذا المطلوب ما هوأجل منه وهوالإصغاء إلى الوحي وتفهم ما يرد منه والتشاغل بالحفظ قد يصد عن ذلك فأمر بأن لا يبادر إلى التحفظ لأن تحفيظه مضمون على ربه وليصغ إلى ما يرد عليه إلى أن ينقضي فيتبع ما اشتمل عيه ثم لما انقضت الجملة المعترضة رجع الكلام إلى ما يتعلق بالإنسان المبدأ بذكره ومن هومن جنسه فقال كلا وهي كلمة ردع كأنه قال‏:‏ بل أنتم يا بني آدم لكونكم خلقتم من عجل تعجلون في كل شيء ومن ثم تحبون لي العاجلة‏.‏
ومنها‏:‏ أن عادة القرآن إذا ذكر الكتاب المشتمل على عمل العبد حيث يعرض يوم القيامة أردفه بذكر الكتاب المشتمل على الأحكام الدينية في الدنيا التي تنشأ عنها المحاسبة عملًا وتركًا كما قال في الكهف ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه إلا أن قال ‏{‏ولقد صرفنا في هذا القرآن من كل مثل‏}‏ الآية وقال في سبحان فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم إلا أن قال ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن‏}‏ الآية‏.‏
وقال في طه ‏{‏يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقًا‏}‏ إلا أن قال ‏{‏فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه‏}‏‏.‏
ومنها‏:‏ أن أول السورة لما نزل إلى ولوألقي معاذيره صادف أنه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بادر إلى تحفظ الذي نزل وحرك به لسانه من عجلته خشية من تفلته فنزل ‏{‏لا تحرك به لسانك لتعجل به‏}‏ إلى قوله ‏{‏ثم إن علينا بيانه‏}‏ ثم عاد الكلام إلى تكملة ما ابتدئ به‏.‏
قال الفخر الرازي‏:‏ ونحوه ما لو ألقى المدرس على الطالب مثلًا مسئلة فتشاغل الطالب بشيء عرض له فقال له‏:‏ ألق إلى بالك وتفهم ما تقول ثم كمل المسئلة فمن لا يعرف السبب يقول‏:‏ ليس هذا الكلام مناسبًا للمسئلة بخلاف من عرف ذلك‏.‏
ومنها‏:‏ أن النفس لما تقدم ذكرها في أول السورة عدل إلى ذكر نفس المصطفى كأنه قيل هذا شأن النفوس وأنت يا محمد نفسه أشرف النفوس فلتأخذ بأكمل الأحوال‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى ‏{‏يسئلونك عن الأهلة‏}‏ الآية فقد يقال‏:‏ أي رابط بين أحكام الأهلة وبين حكم إتيان البيوت وأجيب بأنه من باب الاستطراد لما ذكر أنها مواقيل للحج وكان هذا من أفعالهم في الحج كما ثبت في سبب نزولها ذكر معه من باب الزيادة في الجواب على ما في السؤال كما سئل عن ماء البحر فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى ‏{‏ولله المشرق والمغرب‏}‏ الآية فقد يقال ما وجه اتصاله بما قبله وهوقوله ‏{‏ومن أظلم ممن منع مساجد الله‏}‏ الآية وقال الشيخ أبومحمد الجويني في تفسيره‏:‏ سمعت أبا الحسن الدهان يقول‏:‏ وجه اتصاله هوأن ذكر تخريب بيت المقدس قد سبق‏:‏ أي فلا يجر منكم ذلك واستقبلوه فإن له المشرق والمغرب‏.‏
فصل من هذا النوع مناسبة فواتح السور وخواتمها وقد أفردت فيه جزءًا لطيفًا سميته مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع وانظر إلى سورة القصص كيف بدئت بأمر موسى ونصرته وقوله ‏{‏فلن أكون ظهيرًا للمجرمين‏}‏ وخروجه من وطنه وختمت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يكون ظهيرًا للكافرين وتسليته عن إخراجه من مكة وعده بالعود إليها لقوله في أول السورة إنا راد قال الزمخشري‏:‏ وقد جعل الله فاتحة سورة قد أفلح المؤمنون وأورد في خاتمتها أنه لا يفلح الكافرون فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة‏.‏
وذكر الكرماني في العجائب مثله وقال‏:‏ في سورة ص بدأها بالذكر وختمها به إن هوإلا ذكر للعالمين في سورة بدأها بقوله ‏{‏ما أنت بنعمة ربك بمجنون‏}‏ وختمها بقوله ‏{‏إنه لمجنون} ومنه مناسبة فاتحة السورة لخاتمة ما قبلها حتى أن منها ما يظهر تعلقها به لفظًا كما في فجعلهم كعصف مأكول لئيلاف قريش فقد قال الأخفش اتصالها بها من باب فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا وقال الكواشي في تفسير المائدة‏:‏ لما ختم سورة النساء أمر بالتوحيد والعدل بين العباد أكد ذلك بقوله ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وقال غيره‏:‏ إذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها ثم هويخفي تارة ويظهر أخرى كافتتاح سورة الأنعام بالحمد فإنه مناسب لختام المائدة من فصل القضاء كما قال تعالى وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين وكافتتاح سورة فاطر بالحمد لله فإنه مناسب لختام ما قبلها من قوله ‏{‏وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل‏}‏ كما قال تعالى ‏{‏فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين‏}‏ وكافتتاح سورة الحديد بالتسبيح فإنه مناسب لختام سورة الواقعة بالأمر به وكافتتاح سورة البقرة بقوله ‏{‏الم ذلك الكتاب‏}‏ فإنه إشارة إلى الصراط في قوله ‏{‏إهدنا الصراط المستقيم‏}‏ كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب وهذا معنى حسن يظهر فيه ارتباط سورة البقرة بالفاتحة‏.‏
ومن لطائف سورة الكوثر أنها كالمقابلة للتي قبلها لأن السابقة وصف الله فيها المنافق بأربعة أمور‏:‏ البخل وترك الصلاة والرياء فيها ومنع الزكاة‏.‏
فذكر فيها في مقابلة البخل ‏{‏إنا أعطيناك الكوثر‏}‏ أي الخير الكثير وفي مقابلة ترك الصلاة فصل أي دم عليها وي مقابلة الرياء لربك أي لرضاه لا للناس وفي مقابلة منع الماعون وانحر وأراد به التصدق بلحم الأضاحي‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ لترتيب وضع السور في المصحف أسباب تطلع على أنه توقيفي صادر عن حكيم‏.‏
أحدها‏:‏ بحسب الحروف كما في الحواميم‏.‏
الثاني‏:‏ الموافقة أول السورة لآخر ما قبلها كآخر الحمد في المعنى وأول البقرة‏.‏
الثالث‏:‏ للتوازن في اللفظ كآخر تبت وأول الإخلاص‏.‏الرابع‏:‏ لمشابهة جملة السورة لجملة الأخرى كالضحى وألم نشرح‏.‏
قال بعض الأئمة‏:‏ وسورة الفاتحة تضمنت الإقرار بالربوبية والالتجاء إليه في دين الإسلام والصيانة عن دين اليهودية والنصرانية وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين وآل عمران مكملة لمقصودها‏.‏
فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم ولهذا ورد فيها ذكر المتشابه لما تمسك به النصارى وأوجب الحج في آل عمران وأما في البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه‏.‏
وكان خطاب النصارى في آل عمران أكثر كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر لأن التوراة اصل والإنجيل فرع لها والنبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب‏.‏
ولهذا كانت السور المكية فيها الدين الذي اتفق عليه والأنبياء فخوطب به جميع الناس‏.‏
والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين فخوطبوا بيا أهل الكتاب يا بني إسرائيل يا أيها الذين آمنوا وأما سورة النساء متضمنة أحكام الأسباب التي بين الناس وهي نوعان‏:‏ مخلوقة لله ومقدورة لهم كالنسب والصهر ولهذا افتتحت بقوله ‏{‏اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها‏}‏ ثم قال ‏{‏واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام‏}‏ فانظر هذه المناسبة العجيبة في الافتتاح وبراعة الاستهلال حيث تضمنت الآية المفتتح بها ما أكثر السورة في أحكامه من نكاح النساء ومحرماته والمواريث المتعلقة بالأرحام فإن ابتداء هذا الأمر كان بخلق آدم ثم خلق زوجه منه ثم بث منهما رجالًا كثيرًا ونساء في غاية الكثرة‏.‏وأما المائدة فسور العقود تضمنت بيان تمام الشرائع ومكملات الدين والوفاء بعهود الرسل وما أخذ على الأمة وبها تم الدين فهي سورة التكميل لأن فيها تحريم الصيد على المحرم الذي هومن تمام الإحرام وتحريم الخمر الذي هومن تمام حفظ العقل والدين وعقوبه المعتدين من السراق والمحاربين الذي هومن تمام حفظ الدماء والأموال وإحلال الطيبات الذي هومن تمام عبادة الله تعالى ولهذا ذكر فيها ما يختص شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كالضوء والتيمم والحكم بالقرآن على كل ذي دين ولهذا أكثر فيها من لفظ الإكمال والإتمام وذكر فيها أن من ارتد عوض الله بخير منه ولا يزال هذا الدين كاملًا ولها أورد أنها آخر ما نزل فيها من إشارات الختم والتمام وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب‏.‏
وقال أبوجعفر بن الزبير‏:‏ حكى الخطابي أن الصحابة لما اجتمعوا على القرآن وضعوا سورة القدر عقب العلق استدلوا بذلك على أن المراد بها الكناية في قوله ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة القدر‏}‏ الإشارة إلى قوله اقرأ‏.‏
قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ وهذا بديع جدًا‏.‏
فصل قال في البرهان‏:‏ ومن ذلك افتتاح السور بالحروف المقطعة واختصاص كل واحدة بما بدئت به حتى لم يكن لترد الم في موضع الر ولا حم في موضع طس‏.‏
قال‏:‏ وذلك أن كل سورة بدئت بحرف منها فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له فحق لكل سورة منها أن لا يناسبها غير الواردة فيها فلووضع ق موضع ن لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله وسورة ق بدئت به لما تكرر فيها من الكلمات بلفظ القاف من ذكر القرآن والخلق وتكرير القول ومراجعته مرارًا والقرب من ابن آدم وتلقى المكيين وقول العتيد والرقيب والسائق والإلقاء في جهنم والتقدم بالوعد وذكر المتقين والقلب والقرون والتنقيب في البلاد وتشقق الأرض وحقوق الوعيد وغير ذلك وقد تكرر في سورة يونس من الكلم الواقع فيها الر مائتا كلمة أوأكثر فلهذا افتتحت بالر واشتملت سورة ص على خصومات متعددة فأولها خصومة النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار وقولهم أجعل الآلهة إلهًا واحدًا ثم اختصام الخصمين عند داود ثم تخاصم أهل النار ثم اختصام الملأ الأعلى ثم تخاصم إبليس في شأن آدم ثم في شأن بنيه وإغوائهم‏.‏
والم جمعت المخارج الثلاثة‏:‏ الخلق واللسان والشفتين على ترتيبها وذلك إشارة إلى البداية التي هي بدء الخلق والنهاية التي هي بدء الميعاد والوسط الذي هو المعاش من التشريع بالأوار والنواهي وكل سورة افتتحت بها فهي مشتملة على الأمور الثلاثة‏.‏
وسورة الأعراف زيد فيها الصاد على الم لما فيها من شرح القصص قصة آدم فمن بعده من الأنبياء ولما فيها من ذكر فلا يكن في صدرك حرج ولهذا قال بعضهم‏:‏ معنى المص‏:‏ ألم نشرح لك صدرك وزيد في الرعد راء لأجل قوله رفع السموات ولأجل ذكر الرعد والبرق وغيرهما‏.‏واعلم أن إعادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن كقوله ‏{‏الم ذلك الكتاب‏}‏‏.‏
{الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق} ‏ {‏المص كتاب أنزل إليك} { الر تلك آيات الكتاب‏}‏ ‏{‏طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى‏}‏ ‏{‏طسم تلك آيات الكتاب‏}‏ ‏{‏يس والقرآن‏}‏ ‏{‏ص والقرآن‏}‏ ‏{‏حم تنزيل الكتاب‏}‏ ‏{‏ق والقرآن‏}‏ إلا ثلاث سور‏:‏ العنكبوت والروم ون ليس فيها ما يتعلق به وقد ذكرت حكمة ذلك في أسرار التنزيل‏.‏
وقال الحراني في معنى حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف‏:‏ زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال‏.‏
واعلم أن القرآن منزل عند انتهاء الخلق وكمال كل الأمر بدا فكان المتحلي به جامعًا لانتهاء كل خلق وكمال كل أمر فلذلك هوصلى الله عليه وسلم قسيم الكون وهوالجامع الكامل ولذلك كان خاتمًا وكتابه كذلك‏.‏
وبدء المعاد من حين ظهوره فاستوفي في صلاح هذه الجوامع الثلاث التي قد خلت في الأولين بداياتها وتمت عنده غاياتها بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وهي صلاح الدنيا والدين والمعاد التي جمعها عليه الصلاة والسلام اللهم اصلح لي ديني الذي هوعصمة أمري واصلح لي دنياي التي فيها معاشي واصلح لي آخرتي التي إليها معادي وفي كل صلاح إقدام وإحجام فتصير الثلاثة الجوامع مع ستة هي حروف القرآن الستة ثم وهب حرفًا جامعًا سابعًا فردّ الأزواج له فتمت سبعة‏:‏ فأدنى تلك الحروف هوحرف إصلاح الدنيا فلها حرفان‏:‏ أحدهما حرف الحرام الذي لا تصلح النفس والبدن إلا بالتطهير منه لبعده عن تقويمها‏.‏
والثاني حرف الحلال الذي تصلح النفس والبدن عليه لموافقته تقويمها وأصل هذين الحرفين في التوراة وتمامهما في القرآن‏.‏
ويلي ذلك حرفا صلاح المعاد‏.‏
أحدهما حرف الزجر والنهي الذي لا تصلح الآخرة إلا بالتطهير منه لبعده عن حسناتها‏.‏
والثاني حرف الأمر الذي تصلح الآخرة عليه لتقاضيه لحسناتها وأصل هذين الحرفين في الإنجيل وتمامهما في القرآن‏.‏
ويلي ذلك حرفا صلاح الدين‏:‏ أحدهما حرف المحكم الذي بان للعبد فيه خطاب ربه‏.‏
والثاني حرف المتشابه الذي لا يتبين للعبد فيه خطاب ربه من جهة قصور عقله عن إدراكه فالحروف الخمسة للاستعمال وهذا الحرف السادس للوقوف والاعتراف بالعجز وأصل هذين الحرفين في الكتب المتقدمة كلها وتمامهما في القرآن ويختص القرآن بالحرف السابع الجامع وهوحرف المثل المبين للمثل الأعلى ولما كان هذا الحرف هو الحمد افتتح الله به أم القرآن وجمع فيها جوامع الحروف السبعة التي بثها في القرآن‏.‏
فالآية الأولى تشتمل على حرف الحمد السابع‏.‏
والثانية تشتمل على حرفي الحلال والحرام اللذين أقامت الرحمانية بهما الدنيا والرحيمية الآخرة‏.‏
والثالثة تشتمل على أمر الملك القيم على حرفي الأمر والنهي اللذين يبدأ أمرهما في الدين‏.‏
والرابعة تشتمل على حرفي المحكم في قوله ‏{‏إياك نعبد‏}‏ والمتشابه في قوله ‏{‏وإياك نستعين} ولما افتتح أم القرآن بالسابع الجامع الموهوب ابتدئت البقرة بالسادس المعجوز عنه وهوالمتشابه أه كلام الحراني‏.‏
والمقصود منه هو الأخير وبقيته ينبوعنه السمع وينفر عنه القلب ولا تميل إليه النفوس وأنا أستغفر الله من حكايته على أني أقول في مناسبة ابتداء البقرة بالم أحسن ما قال وهوأنه لما ابتدئت الفاتحة بالحرف المحكم الظاهر لكل أحد حيث لا يعذر أحد في فهمه ابتدئت البقرة بمقابله وهوالحرف المتشابه البعيد التأويل أوالمستحيلة‏.‏
فصل ومن هذا النوع مناسبة أسماء السور لمقاصدها وقد تقدم في النوع السابع عشر الإشارة إلى ذلك‏.‏
وفي عجائب الكرماني‏:‏ إنما سميت السور السبع حم على الاشتراك في الاسم لما بينهن من المتشاكل الذي اختصت به وهوأن كل واحدة منها استفتحت بالكتاب أوصفة الكتاب مع تقارب المقادير في الطول والقصر وتشاكل الكلام في النظام‏.‏
فوائد منثورة في المناسبات في تذكرة الشيخ تاج الدين السبكي ومن خطه نقلت‏:‏ سأل الإمام ما الحكمة في افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح والكهف بالتحميد وأجاب بأن التسبيح حيث جاء يقدم على التحميد نحو فسبح بحمد ربك سبحان الله والحمد لله‏.‏
وأجاب ابن الزملكاني بأن سورة سبحان لما اشتملت على الإسراء الذي كذب المشركون به النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه تكذيب لله سبحانه وتعالى أتى بسبحان لتنزيه الله تعالى عما نسب إليه نبيه من الكذب‏.‏
وسورة الكهف لما أنزلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف وتأخر الوحي نزلت مبينة أن الله لم يقطع نعمته عن نبيه ولا عن المؤمنين بل أتم عليهم النعمة بإنزال الكتاب فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة‏.‏
في تفسير الخويبي‏:‏ ابتدئت الفاتحة بقوله الحمد لله رب العالمين بوصف أنه مالك جميع المخلوقين وفي الأنعام والكهف وسبأ وفاطر لم يوصف بذلك بل بفرد من أفراد صفاته وهوخلق السموات والأرض والظلمات والنور في الأنعام وأنزل الكتاب في الكهف وملك ما في السموات وما في الأرض في سبأ وخلقهما في فاطر لأن الفاتحة أم القرآن ومطلعه فناسب الإتيان فيها بأبلغ الصفات وأعمها واشملها‏.‏
في العجائب للكرماني‏:‏ إن قيل كيف جاء يسألونك أربع مرات بغير واو يسألونك عن الأهلة يسألونك ماذا ينفقون يسألونك عن الشهر الحرام يسألونك عن الخمر ثم جاء ثلاث مرات بالواو ويسألونك ماذا ينفقون ويسألونك عن اليتامى ويسألونك عن اليتامى ويسألونك عن المحيض قلنا‏:‏ لأن سؤالهم عن الحوادث الأول وقع متفرقًا وعن الحوادث الأخر وقع في وقت واحد فجئ بحرف الجمع دلالة على ذلك‏.‏
فإن قيل‏:‏ كيف جاء ويسألونك عن الجبال فقل وعادة القرآن مجيء قل في الجواب بلا فاء‏.‏
وأجاب الكرماني بأن التقدير‏:‏ لوسئلت عنها فقل‏.‏
فإن قيل‏:‏ كيف جاء ‏{‏وإذا سألك عبادي عني فإني قريب‏}‏ وعادة السؤال يجيء جوابه في القرآن بقل قلنا‏:‏ حذفت للإشارة إلى أن العبد في حال الدعاء في أشرف المقامات لا واسطة بينه وبين مولاه‏.‏
ورد في القرآن سورتان أولهما يا أيها الناس في كل نصف سورة فالتي في النصف الأول تشتمل على شرح المبدأ والتي في الثاني على شرح المعاد‏
*******************