النوع السابع والستون في أقسام القرآن
 
أفرده ابن القيم بالتصنيف في مجلد سماه التبيان والقصد بالقسم تحقيق الخير وتوكيده حتى جعلوا مثل ‏{‏والله يشهد إن المنافقين لكاذبون‏}‏ قسمًا وإن كان فيه إخبار بشهادة لأنه لما جاء توكيدًا للخبر سمى قسمًا‏.‏
وقد قيل ما معنى القسم منه تعالى فإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن مصدق بمجرد الإخبار من غير قسم وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده‏.‏
وأجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب ون عادتها القسم إذا أرادت أن تؤكد أمرًا‏.‏
وأجاب أبو القاسم القشيري بان الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها وذلك أن الحكم يفصل باثنين‏:‏ إما بالشهادة وإما بالقسم فذكر تعالى في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حجة فقال ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم‏}‏ وقال ‏{‏قل إي وربي إنه لحق‏}‏ وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله ‏{‏وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق‏}‏ صرخ وقال‏:‏ من ذا الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين ولا يكون القسم إلا باسم معظم وقد أقسم الله تعالى بنفسه في القرآن في سبعة مواضع‏:‏ الآية المذكورة بقوله ‏‏قل أي وربي قل بلى وربي لتبعثن فوربك لنحشرهم والشياطين فوربك لنسئلنهم أجمعين فال وربك لا يؤمنون فال أقسم برب المشارق والمغارب والباقي كله قسم بمخلوقاته كقوله تعالى ‏{‏والتين والزيتون‏}‏ والصافات والشمس ‏{‏والليل والضحى‏}‏ ‏{‏فلا أقسم بالخنس‏}‏ فإن قيل‏:‏ كيف أقسم بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير الله قلنا‏:‏ أجيب عنه بأوجه‏.‏
أحدها‏:‏ إنه على حذف مضاف‏:‏ أي ورب التين ورب الشمس وكذا الباقي‏.‏
الثاني‏:‏ أن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفونه الثالث‏:‏ أن الأقسام إنما تكون بما يعظمه بما يعظمه المقسم أويجله وهوفوقه والله تعالى ليس شيء فوقه فأقسم تارة بنفسه وتارة بمصنوعاته لأنها تدل على بارئ وصانع‏.‏
وقال ابن أبي الإصبع في أسرار الفواتح‏:‏ القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع لأن ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل‏.‏
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ إن الله يقسم بما شاء من خلقه وليس لأحد أن يقسم إلا بالله‏.‏
وقال العلماء‏:‏ أقسم الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم في قوله لعمرك لتعرف الناس عظمته عند الله ومكانته لديه‏.‏
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ ما خلق الله وما ذرأ ولا برأ نفسًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره قال لعمرك إنهم في سكرتهم يعمهون وقال أبو القاسم القشيري‏:‏ القسم بالشيء لا يخرج عن وجهين‏:‏ إما لفضيلة أولمنفعة‏.‏
فالفضيلة كقوله ‏{‏وطور سينين وهذا البلد الأمين‏}‏ والمنفعة نحو ‏{‏والتين والزيتون‏}‏ وقال غيره‏:‏ أقسم الله تعالى بثلاثة أشياء‏:‏ بذاته كالآيات السابقة وبفعله نحو ‏{‏والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها‏}‏ وبمفعوله نحو ‏{‏والنجم إذا هوى‏}‏ ‏{‏والطور وكتاب مسطور‏}‏ والقسم إما ظاهر كالآيات السابقة وإما مضمر وهوقسمان دلت عليه اللام نحو لتبلون في أموالكم وقسم دل عليه المعنى نحو ‏{‏وإن منكم إلا واردها‏}‏ وتقديره‏:‏ والله‏.‏
وقال أبوعلي الفارسي‏:‏ الألفاظ الجارية مجرى القسم ضربان أحدهما‏:‏ وما تكون كغيرها من الأخبار التي ليست بقسم فلا تجاب بجوابه كقوله ‏{‏وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين} { ورفعنا فوقكم الطور خذوا} فيحلفون له كما يحلفون لكم فهذا ونحوه يجوز أن يكون قسمًا وأن يكون حالًا لخلوه من الجواب‏.‏
والثاني‏:‏ ما يتلقى بجواب القسم كقوله ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس‏}‏ ‏{‏وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن‏}‏ وقال غيره‏:‏ أكثر الأقسام في القرآن المحذوفة الفعل لا تكون إلا بالواو فإذا ذكرت الباء أتى بالفعل كقوله ‏{‏يحلفون بالله} ولا تجد الباء مع حذف الفعل ومن ثم كان خطأ من جعل قسما بالله إن الشرك لظلم بما عهد عندك بحق ‏{‏إن كنت قلته فقد علمته‏}‏ وقال ابن القيم‏:‏ اعلم أن الله سبحانه وتعالى يقسم بأمور على أمور وإنما يقسم بنفسه المقدسة الموصوفة بصفاته أوبآياته المستلزمة لذاته وصفاته وأقسامه ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته فالقسم إما على جملة خبرية وهوالغالب كقوله ‏{‏فورب السماء والأرض إنه لحق} وإما على جملة طلبية كقوله ‏{‏فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعلمون} مع أن هذا القسم قد يراد به تحقيق المقسم عليه فيكون من باب الخبر وقد يراد به تحقيق القسم فالمقسم عليه يراد بالقسم توكيده وتحقيقه فلا بد أن يكون مما يحسن فيه وذلك كالأمور الغائبة والخفية إذا أقسم على ثبوتها فأما الأمور المشهورة الظاهرة كالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض فهذه يقسم بها ولا يقسم عليها وما أقسم عليه الرب فهومن آياته فيجوز أن يكون مقسمًا به ولا ينعكس وهوسبحانه وتعالى بذكر جواب القسم تارة وهوالغالب ويحذفه أخرى كما يحذف جواب لوكثير للعلم به‏.‏
والقسم لما كان يكثر في الكلام اختصر فصار فعل القسم يحذف ويكتفي بالباء ثم عوض من الباء الواوفي الأسماء الظاهرة والتاء في أسم الله تعالى كقوله ‏{‏وتالله لأكيدن أصنامكم‏}‏ قال‏:‏ ثم هوسبحانه وتعالى يقسم على أصول الإيمان التي تجب على الخلق معرفتها وتارة يقسم على التوحيد وتارة يقسم على أن القرآن حق وتارة على أ الرسول حق وتارة على الجزاء والوعد والوعيد وتارة يقسم على حال الإنسان فالأولى كقوله ‏{‏والصافات صفا‏}‏ إلى قوله ‏{‏إن إلهكم لواحد‏}‏ والثاني كوله ‏{‏فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم‏}‏ والثالث‏:‏ كقوله ‏{‏يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين‏}‏ ‏{‏والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى‏}‏ الآيات‏.‏
والرابع‏:‏ كقوله والذاريات إلى قوله ‏{‏إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع‏}‏ والمرسلات إلى قوله ‏{‏إنما توعدون لواقع} والخامس‏:‏ كقوله ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ إلى قوله ‏{‏إن سعيكم لشتى‏}‏ الآيات‏.‏
والعاديات إلى قوله ‏{‏إن الإنسان لربه لكنود‏}‏ ‏{‏والعصر إن الإنسان لفي خسر‏}‏ إلخ‏.‏
والتين إلى قوله ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم‏}‏ الآيات ‏{‏لا أقسم بهذا البلد‏}‏ إلى قوله ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في كبد‏}‏ قال‏:‏ وأكثر ما يحذف الجواب إذا كان في نفس المقسم به دلالة على المقسم عليه فإن المقصود يحصل بذكره فيكون حذف المقسم عليه أبلغ وأوجز كقوله ‏{‏ص والقرآن ذي الذكر‏}‏ فإن في المقسم به من تعظيم القرآن ووصفه بأنه ذوالذكر المتضمن لتذكير العباد وما يحتاجون إليه والشرف والقدر ما يدل على المقسم عليه وهوكونه حقًا من عند الله غير مفتري كما يقوله الكافرون ولهذا قال كثيرون‏:‏ إن تقدير الجواب‏:‏ إن القرآن لحق وهذا يطرد في كل ما شابه ذلك كقوله ‏{‏ق والقرآن المجيد} وقوله ‏{‏لا أقسم بيوم القيامة‏}‏ فإنه يتضمن إثبات المعاد‏.‏
وقوله والفجر الآيات فإنها أزمان تتضمن أفعالًا معظمة من المناسك وشعائر الحج التي هي عبودية محضة الله تعالى وذل وخضوع لعظمته وفي ذلك تعظيم ما جاء به محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام‏.‏
قال‏:‏ ومن لطائف القسم قوله ‏{‏والضحى والليل إذا سجى‏}‏ الآيات أقسم تعالى على أنعامه على رسوله وإكرامه له وذلك متضمن لتصديقه له فهوقسم على صحة نبوته وعلى جزائه في الآخرة فهوقسم على النبوة والمعاد وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته وتأمل مطابقة هذا القسم وهونور الضحى الذي يوافي بعد ظلام الليل المقسم عليه وهونور الوحي الذي وافاه بعد احتباسه عنه حتى قال أعداؤه‏:‏ ودع محمد ربه فأقسم بضوء النهار بعد الليل على ضوء الوحي ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه‏.‏
*******************