النوع الثامن والسبعون في معرفة شروط المفسر وآدابه
 
قال العلماء‏:‏ من أراد تفسير الكتاب العزيز طلبه أولًا من القرآن فما أجمل منه في مكان فقد فسر في موضع آخر وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر منه‏.‏
وقد ألف ابن الجوزي كتابًا فيما اجمل في القرآن في موضع وفسر في موضع آخر منه وأشرت إلى أمثلة منه في نوع المجمل فإن أعياه ذلك طلبه من السنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له‏.‏
وقد قال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهومما فهمه من القرآن قال تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله في آيات أخر وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه‏:‏ عني السنة فإن لم يجده من السنة رجع إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال عند نزوله ولما اختصوا به من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح‏.‏
وقد روى الحاكم في المستدرك أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزل له حكم المرفوع‏.‏
وقال الإمام أبوطالب الطبري في أوائل تفسيره القول في آداب المفسر اعلم أن من شرطه صحة الاعتقاد أولا لزوم سنة الدين فإن من كان مغموصًا عليه في دينه لا يؤتمن على الدنيا فكيف على الدين ثم لا يؤتمن في الدين على الإخبار عن عالم فكيف يؤتمن في الإخبار عن أسرار الله تعالى ولأنه لا يؤمن إن كان متهمًا بالإلحاد أن يبغي الفتنة ويغر الناس بليه وخداعه كدأب الباطنية وغلاة الرافضة وإن كان متمًا بهوى لم يؤمن أن يحمله هواه كلما يوافق بدعته كدأب القدرية فإن أحدهم يصنف الكتاب في تفسيره ومقصوده منه الإيضاح الساكن ليصدهم عن أتباع السلف ولزوم طريق الهدى ويجب أن يكون اعتماده على النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ومن عاصرهم ويتجنب المحدثات وإذا تعارضت أقوالهم وأمكن الجمع بينها فعل نحوأن يتكلم على الصراط المستقيم وأقوالهم فيه ترجع إلى شيء واحد فيدخل منها ما يدخل في الجمع فلا تنافي بين القرآن وطريق الأنبياء فطريق السنة وطريق النبي صلى الله عليه وسلم وطريق أبي بكر وعمر فأيّ هذه الأقوال أفرده كان محسنًا‏.‏
وإن تعارضت رد الأمر إلى ما ثبت فيه السمع فإن لم يجد سمعًا وكان للاستدلال طريق إلى تقوية أحدهما رجح ما قوي الاستدلال فيه كاختلافهم في معنى حروف الهجاء يرجح قول من قال أنها قسم‏.‏وإن تعارضت الأدلة في المراد علم أنه قد اشتبه عليه فيؤمن بمراد الله تعالى ولا يتهجم على تعيينه وينزله منزلة المجل قبل تفصيله والمتشابه قبل تبيينه‏.‏
ومن شروط صحة المقصد فيما يقول ليلقي التسديد فقد قال تعالى والذين جاهدوا فينا لنهديتهم سبنا وإنما يخلص له القصد إذا يخلص القصد إذا زهد في الدنيا لأنه إذا رغب فيها لم يؤمن أن يتوسل به غرض يصده عن صواب قصده ويفسد عليه صحة عمله‏.‏
وتمام هذه الشرائط أن يكون ممتلئًا من عدة الإعراب لا يلتبس عليه اختلاف وجوه الكلام فإنه إذا خرج بالبيان عن وضع اللسان إما حقيقة أومجازًا فتأويله تعطيله وقد رأيت بعضهم يفسر قوله تعالى قل الله ثم ذرهم أنه ملازمة قول الله ولم يدر الغبي أن هذه جملة حذف منها الخبر والتقدير‏:‏ الله أنزله اه كلام أبي طالب‏.‏
وقال ابن تيمية في كتاب ألفه في هذا النوع‏:‏ يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه فقوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم يتناول هذا وهذا‏.‏
وقد قال أبوعبد الرحمن السلمي‏:‏ حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا‏:‏ فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة‏.‏
وقال أنس‏:‏ كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في أعيننا‏.‏
رواه أحمد في مسنده وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثمان سنين‏.‏
أخرجه في الموطأ وذلك إن الله قال كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وقال أفلا يتدبرون القرآن وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن وأيضًا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحونه فكيف بكلام الله الذي هوعصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلًا جدًا وهووإن كان بين التابعين أكثر منه بين الصحابة فهوقليل بالنسبة إلى ما بعدهم ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة وربما تكلموا في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال والخلاف بين السلف في التفسير قليل وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد وذلك صنفان‏.‏
أحدهما‏:‏ أن يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى كتفسيرهم الصراط المستقيم‏:‏ بعض بالقرآن‏:‏ أي أتباعه وبعض بالإسلام فالقولان متفقان لأن دين الإسلام هوأتباع القرآن ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر كما أن لفظ صراط يشعر بوصف ثالث وكذلك قول من قال هو السنة والجماعة وقول من قال هوطريق العبودية وقول من قال هوطاعة الله ورسوله وأمثال ذلك فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها‏.‏
الثاني‏:‏ أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه مثاله ما نقل في قوله تعالى ‏{‏ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا‏}‏ الآية فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع لواجبات والمنهك للحرمات والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات‏.‏
فالمقتصدون أصحاب اليمين والسابقون السابقون أولئك هم المقربون ثم إن كلًا منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات كقول القائل السابق الذي يصلي في أول الوقت والمقتصد الذي يصلي في أثنائه والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار‏.‏
أويقول السابق المحسن بالصدقة مع الزكاة والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة فقط والظالم مانع الزكاة‏.‏
قال‏:‏ وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير تارة لتنوع الأسماء والصفات وتارة لذكر بعض أنواع المسمى هو الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف ومن التنازع الموجود منهم ما يكون اللفظ فيه محتملًا لأمرين‏:‏ إما لكونه مشتركًا في اللغة كلفظ القسورة الذي يراد به الرامي ويراد به الأسد ولفظ عسعس الذي يراد به إقبال الليل وإدباره وإما لكونه متواطئًا في الأصل لكن المراد به أحد النوعين أوأحد الشخصين كالضمائر في قوله ‏{‏ثم دنا فتدلى‏}‏ الآية وكلفظ الفجر والشفع والوتر وليال عشر وأشباه ذلك فمثل ذلك يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف وقد لا يجوز ذلك‏.‏فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذا تارة وهذا تارة وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه‏.‏
وإما لكون اللفظ متواطئًا فيكون عامًا إذا لم يكن لمخصصه موجب فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني‏.‏
ومن الأقوال الموجودة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافًا أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة كما إذا فسر بعضهم تبسل بتحبس وبعضهم بترتهن لأن كلًا منهما قريب من الآخر‏.‏
ثم قال‏:‏ فصل‏:‏ والاختلاف في التفسير على نوعين‏:‏ منه ما مستنده النقل فقط ومنه ما يعلم بغير ذلك‏.‏
والمنقول إما عن المعصوم أوغيره‏.‏ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره‏.‏
ومنه ما لا يمكن ذلك‏.‏
وهذا القسم الذي لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه عامته مما لا فائدة فيه ولا حاجة بنا إلى معرفته وذلك كاختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف واسمه وفي البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة وفي قدر سفينة نوح وخشبها وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر ونحوذلك فهذه الأمور طريق العلم بها النقل فما كان منه منقولًا نقلًا صحيحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله صلى الله عليه وسلم إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وكذا ما نقل عن بعض التابعين‏.‏
وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض وما نقل في ذلك عن الصحابة نقلًا صحيحًا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أومن بعضه من سمعه منه أقوى ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال أنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم‏.‏
وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد وإن قال الإمام أحمد‏:‏ ثلاثة ليس لها أصل‏:‏ التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل‏.‏
وأما ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين‏.‏
حدثنا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفًا لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين مثل تفسير عبد الرزاق والفريابي ووكيع وعبد وإسحاق وأمثالهم‏.‏
أحدها‏:‏ قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها‏.‏
والثاني‏:‏ قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما يستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز أن يراد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم وسياق الكلام ثم هؤلاء كثير ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة كما يغلط في ذلك الذين قبلهم كما أن الأولين كثيرًا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن كما يغلط في ذلك الآخرون وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق‏.‏
والأولون صنفان‏:‏ تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به وفي كلا الأمرين قد يكونوا ما قصدوا نفيه أوإثباته من المعنى باطلًا فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول وقد يكون حقًا فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول فالذين أخطئوا فيهما مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذاهب باطلة وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على رأيهم وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم مثل تفسير عبد الرحمن ابن كيسان الأصم والجبائي وعبد الجبار والرماني والزمخشري وأمثالهم ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة يدس البدع في كلامه وأكثر الناس لا يعلمون كصاحب الكشاف ونحوه حتى أنه يروج على خلق كثير من أهل السنة كثير من تفاسيرهم الباطلة وتفسير ابن عطية وأمثاله اتبع السنة وأسلم من البدعة ولوذكر كلام السلف المأثور عنهم على وجه لكان أحسن فإنه كثيرًا ما ينقل من تفاسير ابن جرير الطبري وهومن أجلّ التفاسير وأعظمها قدرًا ثم إنه يدع ما ينقله ابن جرير عن السلف ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين وإنما يعنى بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة لكن ينبغي أن يعطي كل ذي حق حقه فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في الآية تفسير وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين صار مشاركًا للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا‏.‏
وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئًا في ذلك بل مبتدعًا لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به الرسول‏.‏وأما الذين أخطئوا في الدليل لا في المدلول كمثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء يفسرون القرآن بمعان صحيحة في نفسها لكن القرآن لا يدل عليها مثل كثير مما ذكره السلمي في الحقائق فإن كان فيما ذكروه معان باطلة دخل في القسم الأول أه كلام ابن تيمية ملخصًا وهونفيس جدًا‏.‏
وقال الزركشي في البرهان‏:‏ للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة‏:‏ أمهاتها أربعة‏.‏
الأول‏:‏ النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه هو الطراز المعلم لكن يجب الحذر من الضعيف منه والموضوع فإنه كثير ولهذا قال أحمد‏:‏ ثلاث كتب لا أصل لها‏:‏ المغازي والملاحم والتفسير‏.‏
قال المحققون من أصحابه‏:‏ مراده أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متصلة وإلا فقد صح في ذلك كثير كتفسير الظلم بالشرك في آية الأنعام والحساب اليسير بالعرض والقوة بالرمي في قوله ‏{‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة‏}‏ قلت‏:‏ الذي صح في ذلك قليل جدًا بل أصل المرفوع منه في غاية القلة وسأسردها كلها آخر الكتاب إن شاء الله تعالى‏.‏
الثاني‏:‏ الأخذ بقول الصحابي فإن تفسيره عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما قاله الحاكم في مستدركه‏.‏
وقال أبو الخطاب من الحنابلة‏:‏ يحتكل أن لا يرجع إليه إذا قلنا أن قوله ليس بحجة والصواب الأول لأنه من باب الرواية لا الرأي‏.‏
قلت‏:‏ ما قاله الحاكم نازعه فيه ابن الصلاح وغيره من المتأخرين لأن ذلك مخصوص بما فيه سبب النزول أونحوه مما لا مدخل للرأي فيه‏.‏
ثم رأيت الحاكم نفسه صرح به في علوم الحديث فقال‏:‏ ومن الموقوفات تفسير الصحابة‏.‏
وأما من يقول أن تفسير الصحابة مسند فإنما يقوله فيما فيه سبب النزول فقد خصص هنا وعمم في المستدرك فاعتمد الأول والله أعلم‏.‏
ثم قال الزركشي‏:‏ وفي الرجوع إلى قول التابعي روايتان عن أحمد واختار ابن عقيل المنع وحكوه عن شعبه لكن عمل المفسرين على خلافه فقد حكوا في كتبهم أقوالهم لأن غالبها تلقوها من الصحابة وربما يحكى عنهم عبارات مختلفة الألفاظ فيظن من لا فهم عنده أن ذلك اختلاف محقق فيحكيه أقوالًا وليس كذلك بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى من الآية لكونه أظهر عنده أوأليق بحال السائل وقد يكون بعضهم يخبر عن الشيء بلازمه ونظيره والآخر بمقصوده وثمرته والكل يؤول إلى معنى واحد غالبًا فإن لم يكن الجمع فالمتأخر من القولين عن الشخص الواحد مقدم إن استويا في الصحة عنه وإلا فالصحيح المقدم‏.‏
الثالث‏:‏ الأخذ بمطلق اللغة فإن القرآن نزل بلسان عربي وهذا قد ذكره جماعة ونص عليه أحمد في مواضع لكن نقل الفضل بن زياد عنه أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر فقال‏:‏ ما يعجبني فقيل ظاهره المنع‏.‏
ولهذا قال بعضهم في جواز تفسير القرآن بمقتضى اللغة روايتان عن أحمد‏.‏
وقيل الكراهة تحمل على من صرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة يدل عليها القليل من كلام العرب ولا يوجد غالبًا إلا في الشعر ونحوه ويكون المتبادر خلافها‏.‏
وروى البيهقي في الشعب عن مالك قال‏:‏ لا أوتي برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالًا‏.‏
الرابع‏:‏ التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع وهذا هو الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس حيث قال‏:‏ الهم فقهه في الدين وعلمه التأويل والذي عناه علي بقوله‏:‏ إلا فهمًا يؤتاه الرجل في القرآن‏.‏
ومن هنا اختلف الصحابة في معنى الآية فأخذ كل برأيه على منتهى نظره‏.‏
ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل قال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وقال وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وقال لتبين للناس ما نزل إليهم أضاف البيان إليه‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ أخرجه أبوداود والترمذي والنسائي وقال من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار أخرجه أبوداود‏.‏
قال البيهقي في الحديث الأول‏:‏ إن صح أراد والله أعلم الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه وأما الذي يشده برهان فالقول به جائز‏.‏
وقال في المدخل‏:‏ في هذا الحديث نظر وإن صح فإنما من قال به والله أعلم فقد أخطأ الطريق فسبيله أن يرجع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة وفي معرفة ناسخه ومنسوخه وسبب نزوله وما يحتاج فيه إلى بيانه إلى أخبار الصحابة الذين شاهدوا تنزيله وأدوا إلينا من السنن ما يكون بيانًا لكتاب الله تعالى قال تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون فما ورد بيانه من صاحب الشرع ففيه كفاية عن فكرة من بعده وما لم يرد عنه بيانه ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده ليستدلوا بما ورد بيانه على ما لم يرد‏.‏
قال‏:‏ وقد يكون المراد به من قال فيه برأيه ن غير معرفة منه بأصول العلم وفروعه فيكون موافقته للصواب إن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة‏.‏
وقال الماوردي‏:‏ قد حمل بعض المتورعة هذا الحديث على ظاهره وامتنع أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده ولوصحبها الشواهد ولم يعارض شواهدها نص صريح وهذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من النظر في القرآن واستنباط الأحكام كما قال تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولوصح ما ذهب إليه لم يعلم شيء بالاستنباط ولما فهم الأكثر من كتاب الله شيئًا وإن صح الحديث فتأويله أن من تكلم في القرآن بمجرد رأيه ولم يعرج على سوى لفظه وأصاب الحق فقد أخطأ الطريق وإصابته اتفاق إذا الغرض أنه مجرد رأى لا شاهد له‏.‏
وفي الحديث القرآن ذلول ذووجوه فاحملوه على أحسن وجوهه أخرجه أبونعيم وغيره من حديث ابن عباس فقوله ذلول يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما أنه مطيع لحامليه تنطق به ألسنتهم‏.‏
والثاني أنه موضح لمعانيه حتى لا يقصر عنه أفهام المجتهدين‏.‏
وقوله ذووجوه يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما أن من ألفاظه ما يحتمل وجوهًا في التأويل‏.‏
والثاني أنه قد جمع وجوهًا ن الأوامر والنواهي والترغيب والترهيب والتحريم‏.‏وقوله فاحملوه على احسن وجوهه يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما الحمل على أحسن معانيه‏.‏
والثاني أحسن ما فيه من العزائم دون الرخص والعفودون الانتقام وفيه دلالة ظاهرة على جواز الاستنباط والاجتهاد في كتاب الله تعالى أه‏.‏
وقال أبو الليث‏:‏ النهي إنما صرف إلى المتشابه منه لا إلى جميعه كما قال تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه لأن القرآن إنما نزل حجة على الخلق فلولم يجب التفسير لم تكن الحجة بالغة فإذا كان كذلك لجاز لمن عرف لغات العرب وأسباب النزول أن يفسره‏.‏وأما من لم يعرف وجوه اللغة فلا يجوز أن يفسره إلا بمقدار ما سمع فيكون ذلك على وجه الحكاية لا على وجه التفسير ولوأنه يعلم التفسير وأراد أن يستخرج من الآية حكمًا أودليل الحكم فلا بأس‏.‏
ولوقال المراد كذا من غير ا يسمع فيه شيئًا فلا يحل هو الذي نهى عنه‏.‏
وقال ابن الأنباري‏:‏ في الحديث الأول حمله بعض أهل العلم على أن الرأي معني به الهوى‏.‏
فمن قال في القرآن قولًا يوافق هواه فلم يأخذه عن أئمة السلف وأصاب فقد أخطأ لحكمه على القرآن بما لا يعرف أصله ولا يقف على مذاهب أهل الأثر والنقل فيه‏.‏
وقال في الحديث الثاني‏:‏ له معنيان‏:‏ أحدهما من قال في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذاهب الأوائل من الصحابة والتابعين فهومتعرض لسخط الله تعالى‏.‏
والآخر وهوالأصح‏:‏ من قال في القرآن قولًا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده من النار‏.‏
وقال البغوي والكواشي وغيرهما‏:‏ التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وبعدها تحتمله الآية غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط غير محظور على العلماء بالتفسير كقوله تعالى انفروا خفافًا وثقالًا قيل شبابًا وشيوخًا وقيل أغنياء وفقراء وقيل عزابًا ومتأهلين وقيل نشاطًا وغير نشاط وقيل أصحاء ومرضى وكل ذلك سائغ والآية تحتمله‏.‏
وأما التأويل المخالف للآية والشرع فمحظور لأنه تأويل الجاهلين مثل تأويل الروافض قوله تعالى مرج البحرين يلتقيان إنهما عليّ وفاطمة يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان يعني الحسن والحسين‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ اختلف الناس في تفسير القرآن هل يجوز لكل أحد الخوض فيه فقال قوم‏:‏ لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن وإن كان عالمًا أديبًا متسعًا في معرفة الأدلة والفقه والنحووالأخبار والآثار وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك‏.‏
ومنهم من قال‏:‏ يجوز تفسيره لمن كان جامعًا للعلوم التي يحتاج المفسر إليها وهي خمسة عشر علمًا‏.‏
أحدها‏:‏ اللغة لأن بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع‏.‏
قال مجاهد‏:‏ لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالمًا بلغات العرب‏.‏
وتقدم قول الإمام مالك في ذلك ولا يكفي في حقه معرفة اليسير منها فقد يكون اللفظ مشتركًا وهويعلم أحد المعنيين والمراد الآخر‏.‏الثاني‏:‏ النحو لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب فلا بد من اعتباره‏.‏
أخرج أبوعبيد عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن النطق ويقيم بها قراءته فقال‏:‏ حسن فتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية فيعيي بوجهها فيهلك فيها‏.‏
الثالث‏:‏ التصريف لأن به تعرف الأبنية والصيغ‏.‏
قال ابن فارس‏:‏ ومن فاته علمه فاته المعظم لأن وجد مثلًا كلمة مبهمة فإذا صرفناها اتضحت بمصادرها‏.‏
وقال الزمخشري‏:‏ من بدع التفاسير قول من قال‏:‏ إن الإمام في قوله تعالى يوم ندعوا كل أناس بإمامهم جمع أم وإن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم قال‏:‏ وهذا غلط أوجبه جهله بالتصريف فإن أمًا لا تجمع على إمام‏.‏
الرابع‏:‏ الاشتقاق لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف باختلافهما كالمسيح هل هومن السياحة أوالمسح‏.‏
الخامس والسادس والسابع‏:‏ المعاني والبيان والبديع لأنه يعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى وبالثاني خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها وبالثالث وجوه تحسين الكلام وهذه العلوم الثلاثة هي علوم البلاغة وهي من أعظم أركان المفسر لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز وإنما يدرك بهذه العلوم‏.‏
وقال السكاكي‏:‏ اعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها وكالملاحة ولا طريق إلى تحصيله لغير ذوي الفطرة السليمة إلا التمرن على علمي المعاني والبيان‏.‏
وقال ابن الحديد‏:‏ اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح والرشيق والأرشق من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق ولا يمكن إقامة الدلالة عليه وهوبمنزلة جاريتين إحداهما بيضاء مشربة بحمرة دقيقة الشفتين نقية الثغر كحلاء العين أسيلة الخد دقيقة الأنف معتدلة القامة والأخرى دونها في هذه الصفات والمحاسن لكنها أحلى في العيون والقلوب منها ولا يدري سبب ذلك ولكنه يعرف بالذوق والمشاهدة ولا يمكن تعليله وهكذا الكلام‏.‏
نعم يبقى الفرق بين الوصفين أن حسن الوجوه وملاحتها وتفضيل بعضها على بعض يدركه كل من له عين صحيحة‏.‏
واما الكلام فلا يدرك إلا بالذوق وليس كل من اشتغل بالنحوواللغة والفقه يكون من أهل الذوق وممن يصلح لانتقاد الكلام وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر وصارت لهم بذلك دراية وملكة تامة فإلى أولئك ينبغي أن يرجع في معرفة الكلام وفضل بعضه على بعض‏.‏
وقال الزمخشري‏:‏ من حق مفسر كتاب اله الباهر وكلامه المعجز أن يتعاهد بلقاء النظم على حسنه والبالغة على كمالها وما وقع به التحدي سليمًا من القادح‏.‏
وقال غيره‏:‏ معرفة هذه الصناعة بأوضاعها هي عمدة التفسير المطلع على عجائب كلام الله تعالى وهي قاعدة الفصاحة وواسطة عقد البلاغة‏.‏
الثامن‏:‏ علم القراءات لأنه به يعرف كيفية النطق بالقرآن وبالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض‏.‏
التاسع‏:‏ أصول الدين بما في القرآن من الآية الدالة بظاهرها على ما لا يجوز على الله تعالى فالأصولي يؤول ذلك ويستدل على ما يستحيل وما يجب وما يجوز العاشر‏:‏ أصول الفقه إذ به يعرف وجه الاستدلال على الأحكام والاستنباط‏.‏
الحادي عشر‏:‏ أسباب النزول والقصص إذ بسبب النزول يعرف معنى الآية المنزلة فيه بحسب ما أنزلت فيه‏.‏
الثاني عشر‏:‏ الناسخ والمنسوخ ليعلم المحكم من غيره الثالث عشر‏:‏ الفقه‏.‏
الرابع عشر‏:‏ الأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم‏.‏
الخامس عشر‏:‏ علم الموهبة وهوعلم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم وإليه الإشارة بحديث من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم قال ابن أبي الدنيا‏:‏ وعلوم القرآن وما يستنبطه منه بحر لا ساحل له‏.‏
قال‏:‏ فهذه العلوم التي هي كالآلة للمفسر لا يكون مفسرًا إلا بتحصيلها فمن فسر بدونها كان مفسرًا بالرأي المنهي عنه وإذا فسر مع حصولها لم يكن مفسرًا بالرأي المنهي عنه‏.‏
قال‏:‏ والصحابة والتابعون كان عندهم علوم العربية بالطبع لا بالاكتساب واستفادوا العلوم الأخرى من النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
قلت‏:‏ ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول‏:‏ هذا شيء ليس في قدرة الإنسان وليس كما ظننت من الإشكال والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد‏.‏
قال في البرهان‏:‏ اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي ولا يظهر له أسراره وفي قلبه بدعة أوكبر أوهوى أوحب الدنيا أووهومصر على ذنب أوغير متحقق بالإيمان أوضعيف التحقيق أويعتمد على قول مفسر ليس عنده علم أوراجع إلى معقوله وهذه كلها حجب وموانع بعضها آكد من بعض‏.‏
قلت‏:‏ وفي هذا المعنى قوله تعالى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق قال سفيان بن عيينة‏:‏ يقول أنزع عنهم فهم القرآن‏.‏
أخرجه ابن أبي حاتم‏.‏
وقد أخرج ابن جرير وغيره من طرق ابن عباس قال‏:‏ التفسير أربعة أوجه‏:‏ وجه تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تعرفه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى‏.‏
ثم رواه مرفوعًا بسند ضعيف بلفظ أنزل القرآن على أربعة أحرف‏:‏ حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تفسره العرب وتفسير تفسره العلماء ومتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهوكاذب قال الزركشي في البرهان في قول ابن عباس‏:‏ هذا تقسيم صحيح فأما الذي تعرفه العرب فهوالذي يرجع فيه إلى لسانهم وذلك اللغة والإعراب فأما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها ومسميات أسمائها ولا يلزم ذلك القارئ ثم إن كان ما يتضمنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم كفى فيه خبر الواحد والاثنين والاستشهاد بالبيت والبيتين‏.‏وإن كان يوجب العلم لم يكف ذلك بل لا بد أن يستفيض ذلك اللفظ وتكثر شواهده من الشعر‏.‏
وأما الإعراب فما كان اختلافه محيلًا للمعنى وجب على المفسر والقارئ تعلمه ليوصل المفسر إلى معرفة الحكم ويسلم القارئ من اللحن وإن لم يكن محيلًا للمعنى وجب تعلمه على القارئ ليسلم نم اللحن ولا يجب على المفسر لوصوله إلى المقصود بدونه‏.‏وأما ما لا يعذر أحد بجهله فهوما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد وكل لفظ أفاد معنى واحدًا جليًا يعلم أنه مراد الله تعالى فهذا القسم لا يلتبس تأويله إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله وأنه لا شريك له في الإلهية وإن لم يعلم لا موضوعة في اللغة للنفي وإلا للإثبات وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ونحوه طلب إيجاب المأمور به وإن لم يعلم أن صيغة أفعل بوجوب فما كان من هذا القسم لا يعذر أحد يدعي الجهل بمعاني ألفاظه لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة‏.‏وأما ما لا يعلمه إلا الله تعالى فهوما يجري مجرى الغيوب نحوالآي المتضمنة لقيام الساعة وتفسير الروح والحروف المقطعة وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق فلا مساغ لاجتهاد في تفسيره ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف بنص من القرآن أوالحديث أوإجماع الأمة على تأويله‏.‏وأما ما يعلمه العلماء ويرجع إلى اجتهادهم فهوالذي يغلب عليه إطلاق التأويل وذلك استنباط الأحكام وبيان المجمل وتخصيص العموم وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدًا فهوالذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأي فإن كان أحد المعنيين أظهر وجب الحمل عليه إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي وإن استويا والاستعمال فيهما حقيقة لكن في أحدهما حقيقة لغوية أوعرفية وفي الآخر شرعية فالحمل على الشرعية أولى إلا أن يدل دليل على إرادة اللغوية كما في وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم ولوكان في أحدهما عرفية والآخر لغوية فالحمل على العرفية أولى وإن اتفقا في ذلك أيضًا فإن تنافي اجتماعهما ولم يمكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء للحيض والطهر اجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه فما ظنه فهومراد الله تعالى في حقه وإن لم يظهر له شيء فهل يتحير في الحمل على أيهما شاء ويأخذ بالأغلظ حكمًا أوبالأخف أقوال وإن لم يتنافيا وجب الحمل عليهما عند المحققين ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة إلا أن دل دليل على إرادة أحدهما إذا عرف ذلك فينزل حديث من تكلم بالقرآن برأيه على قسمين من هذه الأربعة‏:‏ أحدهما تفسير اللفظ لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب‏.‏
والثاني حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم التبحر في العربية واللغة‏.‏
ومن الأصول ما يدرك به حدود الأشياء وصيغ الأمر والنهي والخبر والمجمل والمبين والعموم والخصوص والمطلق والمقيد والمحكم والمتشابه والظاهر والمؤول والحقيقة والمجاز والصريح والكناية‏.‏
ون الفروع ما يدرك به الاستنباط وهذا أقل ما يحتاج إليه ومع ذلك فهوعلى خطر فعليه أن يقول يحتمل كذا ولا يجزم إلا في حكم اضطر إلى الفتوى به فأدى اجتهاده إليه فيجزم مع تجويز خلافه اه‏.‏وقال ابن النقيب‏:‏ جملة ما تحصل في معنى حديث التفسير بالرأي خمسة أقوال‏.‏
أحدهما‏:‏ التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير‏.‏
الثاني‏:‏ تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله‏.‏
والثالث‏:‏ التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلًا والتفسير تابعًا فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفًا‏.‏
الرابع‏:‏ التفسير أن مراد الله كذا على القطع من غير دليل‏.‏
الخامس‏:‏ التفسير بالاستحسان والهوى‏.‏
ثم قال‏:‏ واعلم أن علوم القرآن ثلاثة أقسام‏.‏
الأول‏:‏ علم لم يطلع اله عليه أحدًا من خلقه وهوما استأثر به من علوم أسرار كتابه من معرفة كنه ذاته وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه بوجه من الوجوه إجماعًا‏.‏
الثاني‏:‏ ما اطلع الله عليه نبيه من أسرار الكتاب واختصه به وهذا اليجوز الكلام فيه إلا له صلى الله عليه وسلم أولمن أذن له‏.‏
قال‏:‏ وأوائل السور من هذا القسم وقيل من القسم الأول‏.‏
الثالث‏:‏ علوم علمها اله نبيه مما أودع كتابه من المعاني الجلية والخفية وأمره بتعليمها وهذا ينقسم إلى قسمين‏:‏ منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع وهوأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقراءات واللغات وقصص الأمم الماضية وأخبار ما هوكائن من الحوادث وأمور الحشر والمعاد‏.‏
ومنه ما يؤخذ بطريق النظر والاستدلال والاستنباط والاستخراج من الألفاظ وهوقسمان‏:‏ قسم اختلفوا في جوازه وهوتأويل الآيات المتشابهات في الصفات‏.‏
وقسم اتفقوا عليه وهواستنباط الأحكام الأصلية والفرعية والإعرابية لأن مبناها على الأقيسة وكذلك فنون البالغة وضروب المواعظ والحكم والإرشادات لا يمتنع استنباطها منه واستخراجها لمن له أهلية انتهى ملخصًا‏.‏
وقال أبوحيان‏:‏ ذهب بعض من عاصرناه إلى أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني تركيبه بالإسناد إلى مجاهد وطاوس وعكرمة وأضرابهم وإن فهم الآيات يتوقف على ذلك‏.‏
قال‏:‏ وليس كذلك‏.‏
وقال الزركشي بعد حكاية ذلك‏:‏ الحق أن علم التفسير منه ما يتوقف على النقل كسبب النزول والنسخ وتعيين المبهم وتبيين المجمل ومنه ما ال يتوقف ويكفي في تحصيله الثقة على الوجه المعتبر‏.‏
قال‏:‏ وكان السبب في اصطلاح كثير على التفرقة بين التفسير والتأويل التمييز بين المنقول والمستنبط ليحيل على الاعتماد في المنقول وعلى النظر في المستنبط‏.‏
قال‏:‏ واعلم أ القرآن قسمان‏:‏ قسم ورد تفسيره بالنقل وقسم لم يرد‏.‏
والأول إما أن يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أوالصحابة أورؤوس التابعين‏.‏
فالأول يبحث فيه عن صحة السند والثاني ينظر في تفسير الصحابي فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتماده أوبما شاهده من الأسباب والقرائن فلا شك فيه وحينئذ إن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة‏:‏ فإن أمكن الجمع فذاك وإن تعذر قدم ابن عباس لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بذلك حيث قال‏:‏ اللهم علمه التأويل‏.‏
وقد رجح الشافعي قول زيد في الفرائض لحديث أفرضكم زيد وأما ما ورد عن التابعين فحيث جاز الاعتماد فيما سبق فكذلك وإلا وجب الاجتهاد‏.‏
وأما ما لم يرد فيه نقل فهوقليل وطريق التوصل إلى فهمه النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها واستعمالها بحسب السياق وهذا يعتني به الراغب كثيرًا في كتاب المفردات فيذكر قيدًا زائدًا على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ لأنه اقتضاه السياق أه‏.‏
قلت‏:‏ وقد جمعت كتابًا مسندًا فيه تفاسير النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة فيه بضعة عشر ألف حديث ما بين مرفوع وموقوف وقد تم ولله الحمد في أربع مجلدات وسميته ترجمان القرآن ورأيت وأنا في أثناء تصنيفه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام في قصة طويلة تحتوي على بشارة حسنة‏.‏
تنبيه من المهم معرفة التفاسير الواردة عن الصحابة بحسب قراءة مخصوصة وذلك أنه قد يرد عنهم تفسيران في الآية الواحدة مختلفان فيظن اختلافًا وليس باختلاف وإنما كل تفسير على قراءة وقد تعرض السلف لذلك‏.‏
فأخرج ابن جرير في قوله تعالى لقالوا إنما سكرت أبصارنا من طرق عن ابن عباس وغيره ا سكرت بمعنى سدت ومن طرق أنها بمعنى أخذت‏.‏
ثم أخرج عن قتادة قال‏:‏ من قرأ سكرت مشددة فإنما يعني سدت ومن قرأ سكرت مخففة فإنه يعني سحرت وهذا الجمع من قتادة نفيس بديع ومثله قوله تعالى سرابيلهم من قطران أخرج ابن جرير عن الحسن أنه الذي تهنأ به الإبل‏.‏
واخرج من طرق عنه وعن غيره أنه النحاس المذاب وليسا بقولين وإنما الثاني تفسير لقراءة من قطرآن بتنوين قطر وهوالنحاس وآن شديد الحر كما أخرجه ابن أبي حاتم هكذا عن سعيد بن جبير‏.‏
وأمثلة هذا النوع كثيرة والكافل ببيانها كتابنا أسرار التنزيل وقد خرجت على هذا قديمًا الاختلاف الوارد عن ابن عباس وغيره في تفسير آية أولا مستم هل هو الجماع أوالجس باليد‏.‏
فالأول تفسير لقراءة لامستم‏.‏
والثاني لقراءة لمستم ولا اختلاف‏.‏
فائدة قال الشافعي رضي الله عنه في مختصر البويطي‏:‏ لا يحل تفسير المتشابه إلا بسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوخبر عن أحد من أصحابه أوإجماع العلماء هذا نصه‏.‏
فصل وأما في كلام الصوفية في القرآن فليس بتفسير‏.‏
قال ابن الصلاح في فتاويه‏:‏ وجدت عن الغمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه قال‏:‏ صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر‏.‏
قال ابن الصلاح‏:‏ وأنا أقول‏:‏ الظن بمن يوثق به منهم إذا قال شيئًا من ذلك أنه لم يذكره تفسير أولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة فإنه لوكان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية وإنما ذلك منهم لنظير ما ورد به القرآن فإن النظير يذكر بالنظير ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك لما فيه من الإيهام والإلباس‏.‏
وقال النسفي في عقائده‏:‏ النصوص على ظاهرها والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحاد‏.‏
قال التفتازاني في شرحه‏:‏ سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها بل لها معان باطنية لا يعرفها إلا المعلم وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية‏.‏
قال‏:‏ وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهومن كمال الإيمان ومحض العرفان‏.‏
وسئل شيخ الإسلام سراج الدين البقيني عن رجل قال في قوله تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه أن معناه‏:‏ من ذل‏:‏ أي من الذل ذي إشارة إلى النفس يشف من الشفاء جواب من ع أمر من الوعي فأفتى بأنه ملحد وقد قال تعالى إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا قال ابن عباس‏:‏ هوا يضع الكلام على غير موضعه‏.‏
أخرجه ابن أبي حاتم‏.‏فإن قلت‏:‏ فقد قال الفرياني‏:‏ حدثنا سفيان عن يونس بن عبيد عن الحسن قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع‏.‏
وأخرج الديلمي من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعًا القرآن تحت العرش له ظهر وبطن يحاج العباد‏.‏
وأخرج الطبراني وأبويعلي والبزار وغيرهم عن ابن مسعود موقوفًا‏.‏إن هذا القرآن ليس منه حرف إلا له حد ولكل حد مطلع‏.‏
قلت‏:‏ أما الظهر والبطن ففي معناه أوجه‏.‏أحدها‏:‏ أنك إذا بحثت عن باطنها وقسته على ظاهرها وقفت على معناها‏.‏
والثاني‏:‏ أن ما من آية إلا عمل بها قوم ولها قوم سيعملون بها كما قاله ابن مسعود فيما أخرجه ابن أبي حاتم‏.‏
الثالث‏:‏ أن ظاهرها لفظها وباطنها تأويلها‏.‏
الرابع‏:‏ قال أبوعبيد‏:‏ وهوأشبهها بالصواب أن القصص التي قصها الله تعالى عن الأمم الماضية وما عاقبهم به ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين إنما هوحديث حدث به عن قوم وباطنها وعظ الآخرين وتحذيرهم أن يفعلوا كفعلهم فيحل بهم مثل ما حل بهم‏.‏وحكى ابن النقيب قولًا خامسًا‏:‏ أن ظهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر وبطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله عليها أرباب الحقائق‏.‏
ومعنى قوله ولكل حرف حد أي منتهى فيما أراد الله من معناه‏.‏
وقيل لكل حكم مقدار من الثواب والعقاب‏.‏
ومعنى قوله ولكل حد مطلع لكل غامض من المعاني والأحكام مطلع يتوصل به إلا معرفته ويوقف على المراد به‏.‏
وقيل كل ما يستحقه من الثواب والعقاب يطلع عليه في الآخرة عند المجازاة‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ الظاهر التلاوة والباطن الفهم والحد أحكام الحلال والحرام والمطلع الإشراف على الوعد والوعيد‏.‏
قلت‏:‏ يؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ إن القرآن ذوشجون وفنون وظهور وبطون لا تنقضي عجائبه ولا تبلغ غايته فمن أوغل فيه برفق نجا ومن أوغل فيه بعنف هوى‏:‏ أخبار وأمثال وحلال وحرام وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وظهر وبطن فظهره التلاوة وبطنه التأويل فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء‏.‏
وقال ابن سبع في شفاء الصدور‏:‏ ورد عن أبي الدرداء انه قال‏:‏ لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يجعل للقرآن وجوهًا‏.‏
وقال ابن مسعود‏:‏ من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن وهذا الذي قالاه لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر‏.‏
وقال بعض العلماء‏:‏ لكل آية ستون ألف فهم فهذا يدل على أن فهم معاني القرآن مجالًا رحبًا ومتسعًا بالغًا وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير لينتفي به موضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط ولا يجوز التهاون في حفظ التفسير الظاهر بل لا بد منه أولًا إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل أحكام الظاهر ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهوكمن ادعى البلوغ إلى صدر اليت قبل أن يجاوز الباب أه‏.‏
وقال الشيخ تاج الدين ابن عطاء الله في كتابه لطائف المنن‏:‏ اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام اله وكلام رسوله بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان وثم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه وقد جاء في الحديث لكل آية ظهر وبطن فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم وأن يقول لك ذوجدل معارضة هذا إحالة لكلام الله وكلام رسوله فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لوقالوا لا معنى للآية إلا هذا وهم لم يقولوا ذلك بل يقرءون الظواهر على ظواهرها مرادًا بها موضوعاتها ويفهمون عن الله تعالى ما أفهمهم‏.‏
فصل قال العلماء‏:‏ يجب على المفسر أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر وأن يتحرز في ذلك من نقص لما يحتاج غليه في إيضاح المعنى أوزيادة لا تليق بالغرض ومن كون المفسر فيه زيغ عن المعنى وعدول عن طريقه وعليه بمراعاة المعنى الحقيقي والمجازي ومراعاة التأليف والغرض الذي سيق له الكلام وأن يؤاخي بين المفردات ويجب عليه البداءة بالعلوم اللفظية وأول ما يجب ا