باب
 
قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يُخَوِّفُ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالْكُسُوفِ" َقَالَه أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1048- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ وَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ الْوَارِثِ وَشُعْبَةُ وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يُونُسَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ وَتَابَعَهُ أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ وَتَابَعَهُ مُوسَى عَنْ مُبَارَكٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ "
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يخوف الله عباده بالكسوف، قاله أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم" سيأتي حديثه موصولا بعد سبعة أبواب. ثم أورد المصنف حديث أبي بكرة من رواية حماد بن زيد عن يونس وفيه: "ولكن يخوف الله بهما عباده " وفي رواية الكشميهني: "ولكن الله يخوف " وقد تقدم الكلام عليه في أول الكسوف. قوله: "لم يذكر عبد الوارث وشعبة وخالد بن عبد الله وحماد بن سلمة عن يونس: يخوف الله بهما عباده" أما رواية عبد الوارث فأوردها المصنف بعد عشرة أبواب عن أبي معمر عنه وليس فيها ذلك، لكنه ثبت من رواية عبد الوارث من وجه آخر أخرجه النسائي عن عمران بن موسى عن عبد الوارث وذكر فيه يخوف الله بهما عباده. وقال البيهقي: لم يذكره أبو معمر، وذكره غيره عن عبد الوارث. وأما رواية شعبة فوصلها المصنف في الباب المذكور وليس فيها ذلك، وأما رواية خالد بن عبد الله فسبقت في أول الكسوف، وأما رواية حماد بن سلمة فوصلها الطبراني من رواية حجاج بن منهال عنه بلفظ رواية خالد ومعناه وقال فيه: "فإذا كسف واحد منهما فصلوا وادعوا" . قوله: "وتابعه أشعث" يعني ابن عبد الملك الحمراني "عن الحسن" يعني في حذف قوله: "يخوف الله بهما عباده " وقد وصل النسائي هذه الطريق وابن حبان وغيرهما من طرق عن أشعث عن الحسن وليس فيها ذلك. قوله: "وتابعه موسى عن مبارك عن الحسن قال: أخبرني أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم يخوف الله بهما عباده" في رواية غير أبي ذر " إن الله تعالى". وموسى هو ابن إسماعيل التبوذكي كما جزم به المزي. وقال الدمياطي ومن تبعه: هو ابن داود الضبي، والأول أرجح لأن ابن إسماعيل معروف في رجال البخاري دون ابن داود، ولم تقع لي هذه الرواية إلى الآن من طريق واحد منهما. وقد أخرجه الطبراني من رواية أبي الوليد وابن حبان من رواية هدبة وقاسم بن أصبغ من رواية سليمان بن حرب كلهم عن مبارك، وساق الحديث بتمامه، إلا أن رواية هدبة ليس فيها " يخوف الله بهما عباده". "تنبيه": وقع قوله: "تابعه أشعث " في رواية كريمة عقب متابعة موسى، والصواب تقديمه لما بيناه من خلو رواية أشعث من قوله: "يخوف
(2/536)

الله بهما عباده" . قوله: "يخوف" فيه رد على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادي لا يتأخر ولا يتقدم، إذ لو كان كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف ويصير بمنزلة الجزر والمد في البحر، وقد رد ذلك عليهم ابن العربي وغير واحد من أهل العلم بما في حديث أبي موسى الآتي حيث قال: "فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة " قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع، ولو كان بالحساب لم يكن للأمر بالعتق والصدقة والصلاة والذكر معنى، فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف، وأن كل ما ذكر من أنواع الطاعة يرجى أن يدفع به ما يخشى من أثر ذلك الكسوف. ومما نقص ابن العربي وغيره أنهم يزعمون أن الشمس لا تنكسف على الحقيقة، وإنما يحول القمر بينها وبين أهل الأرض عند اجتماعهما في العقدتين فقال: هم يزعمون أن الشمس أضعاف القمر في الجرم، فكيف يحجب الصغير الكبير إذا قابله، أم كيف يظلم الكثير بالقليل، ولا سيما وهو من جنسه؟ وكيف تحجب الأرض نور الشمس وهي في زاوية منها لأنهم يزعمون أن الشمس أكبر من الأرض بتسعين ضعفا. وقد وقع في حديث النعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعمه أهل الهيئة وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة وصححه ابن خزيمة والحاكم بلفظ: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله، وأن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له " وقد استشكل الغزالي هذه الزيادة وقال: إنها لم تثبت فيجب تكذيب ناقلها. قال: ولو صحت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعية لا تصادم أصلا من أصول الشريعة. قال ابن بزيزة: هذا عجب منه، كيف يسلم دعوى الفلاسفة ويزعم أنها لا تصادم الشريعة مع أنها مبنية على أن العالم كري الشكل وظاهر الشرع يعطي خلاف ذلك والثابت من قواعد الشريعة أن الكسوف أثر الإرادة القديمة وفعل الفاعل المختار، فيخلق في هذين الجرمين النور متى شاء والظلمة متى شاء من غير توقف على سبب أو ربط باقتراب. والحديث الذي رده الغزالي قد أثبته غير واحد من أهل العلم، وهو ثابت من حيث المعنى أيضا، لأن النورية والإضاءة من عالم الجمال الحسي، فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته. ويؤيده قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} " ا هـ. ويؤيد هذا الحديث ما رويناه عن طاوس أنه نظر إلى الشمس وقد انكسفت فبكى حتى كاد أن يموت وقال: هي أخوف لله منا. وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: "يخوف الله بهما عباده " وليس بشيء صلى الله عليه وسلم لأن الله أفعالا على حسب العادة، وأفعالا خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض. وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها. وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب حقا في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفا لعباد الله تعالى.
ـــــــ
(1) ماقاله ابن دقيق العيد هنا تحقيق جيد . وقد ذكر كثير من المحققين – كشيخ الاسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم – مايوافق ذلك , وأن الله سبحانه وتعالى قد أجرى العادة بخسوف الشمس والقمر لأسباب معلومة يعقلها أهل الحساب , والواقع شاهد بذلك ولكن لايلزم من ذلك أن يصيب أهل الحساب في كل ما يقولون, بل قد يخطئون في حسابهم , فلا ينبغي أن يصدقوا ولا أن يكذبوا , والتخويف بذلك حاصل على كل تقدير لمن يؤمن بالله واليوم الأخر . والله أعلم
(2/537)