باب فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَ
 
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: من الآية155]
1248 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلاَثٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ"
[الحديث 1248 – طرفه في: 1381]
1249 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَصْبَهَانِيِّ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا فَوَعَظَهُنَّ وَقَالَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلاَثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ كَانُوا حِجَابًا مِنْ النَّارِ قَالَتْ امْرَأَةٌ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ "
1250 - وَقَالَ شَرِيكٌ عَنْ ابْنِ الأَصْبَهَانِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَبُو هُرَيْرَةَ "لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ"
1251 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلاَثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}
[الحديث 1251 – طرفه في: 6656]
قوله: "باب فضل من مات له ولد فاحتسب" قال الزين بن المنير: عبر المصنف بالفضل ليجمع بين مختلف الأحاديث الثلاثة التي أوردها، لأن في الأول دخول الجنة، وفي الثاني الحجب عن النار، وفي الثالث تقييد الولوج بتحلة القسم، وفي كل منها ثبوت الفضل لمن وقع له ذلك. ويجمع بينها بأن يقال: الدخول لا يستلزم الحجب ففي
(3/118)

ذكر الحجب فائدة زائدة لأنها تستلزم الدخول من أول وهلة، وأما الثالث فالمراد بالولوج الورود وهو المرور على النار كما سيأتي البحث فيه عند قوله: "إلا تحلة القسم" والمار عليها على أقسام: منهم من لا يسمع حسيسها وهم الذين سبقت لهم الحسنى من الله كما في القرآن، فلا تنافي مع هذا بين الولوج والحجب، وعبر بقوله: "ولد" ليتناول الواحد فصاعدا وإن كان حديث الباب قد قيد بثلاثة أو اثنتين، لكن وقع في بعض طرقه ذكر الواحد ففي حديث جابر بن سمرة مرفوعا: " من دفن ثلاثة فصبر عليهم واحتسب وجبت له الجنة، فقالت أم أيمن: أو اثنين؟ فقال: أو اثنين. فقالت: وواحد؟ فسكت ثم قال: وواحد " أخرجه الطبراني في الأوسط. وحديث ابن مسعود مرفوعا: "من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا حصينا من النار. قال أبو ذر: قدمت اثنين، قال: واثنين. قال أبي بن كعب: قدمت واحدا، قال: وواحدا" أخرجه الترمذي وقال: غريب، وعنده من حديث ابن عباس رفعه: "من كان له فرطان من أمتي أدخله الله الجنة. فقالت عائشة: فمن كان له فرط؟ قال: ومن كان له فرط" الحديث. وليس في شيء من هذه الطرق ما يصلح للاحتجاج، بل وقع في رواية شريك التي علق المصنف إسنادها كما سيأتي ولم يسأله عن الواحد، وروى النسائي وابن حبان من طريق حفص بن عبيد الله عن أنس أن المرأة التي قالت واثنان قالت بعد ذلك يا ليتني قلت وواحد. وروى أحمد من طريق محمود بن لبيد عن جابر رفعه: "من مات له ثلاث من الولد فاحتسبهم دخل الجنة. قلنا: يا رسول الله واثنان؟ قال محمود قلت لجابر أراكم لو قلتم وواحد لقال وواحد، قال: وأنا أظن ذلك" وهذه الأحاديث الثلاثة أصح من تلك الثلاثة، لكن روى المصنف من حديث أبي هريرة كما سيأتي في الرقاق مرفوعا: "يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة" وهذا يدخل فيه الواحد فما فوقه، وهو أصح ما ورد في ذلك، وقوله: "فاحتسب" أي صبر راضيا بقضاء الله راجيا فضله، ولم يقع التقييد بذلك أيضا في أحاديث الباب، وكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه أيضا كما في حديث جابر بن سمرة المذكور قبل، وكذا في حديث جابر بن عبد الله. وفي رواية ابن حبان والنسائي من طريق حفص بن عبيد الله بن أنس عن أنس رفعه: "من احتسب من صلبه ثلاثة دخل الجنة" الحديث، ولمسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبهم إلا دخلت الجنة" الحديث، ولأحمد والطبراني من حديث عقبة بن عامر رفعه: "من أعطى ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على الله وجبت له الجنة" وفي الموطأ عن أبي النضر السلمي رفعه: "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا جنة من النار" الحديث. وقد عرف من القواعد الشرعية أن الثواب لا يترتب إلا على النية، فلا بد من قيد الاحتساب، والأحاديث المطلقة محمولة على المقيدة، ولكن أشار الإسماعيلي إلى اعتراض لفظي فقال: يقال في البالغ احتسب وفي الصغير افترط انتهى. وبذلك قال الكثير من أهل اللغة، لكن لا يلزم من كون ذلك هو الأصل أن لا يستعمل هذا موضع هذا، بل ذكر ابن دريد وغيره احتسب فلان بكذا طلب أجرا عند الله، وهذا أعم من أن يكون لكبير أو صغير، وقد ثبت ذلك في الأحاديث التي ذكرناها وهي حجة في صحة هذا الاستعمال. قوله: "وقول الله عز وجل {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} " في رواية كريمة والأصيلي: "وقال الله" وأراد بذلك الآية التي في البقرة وقد وصف فيها الصابرون بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فكأن المصنف أراد تقييد ما أطلق في الحديث بهذه الآية الدالة على ترك
(3/119)

القلق والجزع، ولفظ: "المصيبة" قي الآية وإن كان عاما لكنه يتناول المصيبة بالولد فهو من أفراده. قوله: "حدثنا عبد العزيز" هو ابن صهيب وصرح به في رواية ابن ماجه والإسماعيلي من هذا الوجه، والإسناد كله بصريون. قوله: "ما من الناس من مسلم" قيده به ليخرج الكافر، ومن الأولى بيانية والثانية زائدة، وسقطت من في رواية ابن علية عن عبد العزيز كما سيأتي في أواخر الجنائز، و "مسلم" اسم ما والاستثناء وما معه الخبر، والحديث ظاهر في اختصاص ذلك بالمسلم لكن هل يحصل ذلك لمن مات له أولاد في الكفر ثم أسلم؟ فيه نظر، ويدل على عدم ذلك حديث أبي ثعلبة الأشجعي قال: " قلت يا رسول الله مات لي ولدان، قال: من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله الجنة " أخرجه أحمد والطبراني، وعن عمرو بن عبسة مرفوعا: "من مات له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا أدخله الله الجنة" أخرجه أحمد أيضا. وأخرج أيضا عن رجاء الأسلمية قالت: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع الله لي في ابن لي بالبركة فإنه قد توفي له ثلاثة، فقال: أمنذ أسلمت؟ قالت: نعم" . فذكر الحديث. قوله: "يتوفى له" بضم أوله ووقع في رواية ابن ماجه المذكورة "ما من مسلمين يتوفى لهما "والظاهر أن المراد من ولده الرجل حقيقة، ويدل عليه رواية النسائي المذكورة من طريق حفص عن أنس ففيها "ثلاثة من صلبه"، وكذا حديث عقبة بن عامر، وهل يدخل في الأولاد أولاد الأولاد؟ محل بحث، والذي يظهر أن أولاد الصلب يدخلون ولا سيما عند فقد الوسائط بينهم وبين الأب، وفي التقيد بكونهم من صلبه ما يدل على إخراج أولاد البنات. قوله: "ثلاثة" كذا للأكثر وهو الموجود في غير البخاري ووقع في رواية الأصيلي وكريمة: "ثلاث" بحذف الهاء وهو جائز لكون المميز محذوفا. قوله: "لم يبلغوا الحنث" كذا للجميع بكسر المهملة وسكون النون بعدها مثلثة، وحكى ابن قرقول عن الداودي أنه ضبطه بفتح المعجمة والموحدة وفسره بأن المراد لم يبلغوا أن يعملوا المعاصي، قال ولم يذكره كذلك غيره، والمحفوظ الأول، والمعنى لم يبلغوا الحلم فتكتب عليهم الآثام. قال الخليل: بلغ الغلام الحنث إذا جرى عليه القلم، والحنث الذنب قال الله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} وقيل المراد بلغ إلى زمان يؤاخذ بيمينه إذا حنث. وقال الراغب: عبر بالحنث عن البلوغ لما كان الإنسان يؤاخذ بما يرتكبه فيه بخلاف ما قبله، وخص الإثم بالذكر لأنه الذي يحصل بالبلوغ لأن الصبي قد يثاب، وخص الصغير بذلك لأن الشفقة عليه أعظم والحب له أشد والرحمة له أوفر، وعلى هذا فمن بلع الحنث لا يحصل لمن فقده ما ذكر من هذا الثواب وإن كان في فقد الولد أجر في الجملة، وبهذا صرح كثير من العلماء، وفرقوا بين البالغ وغيره بأنه يتصور منه العقوق المقتضى لعدم الرحمة بخلاف الصغير فإنه لا يتصور منه ذلك إذ ليس بمخاطب. وقال الزين بن المنير: بل يدخل الكبير في ذلك من طريق الفحوي لأنه إذا ثبت ذلك في الطفل الذي هو كل على أبويه فكيف لا يثبت في الكبير الذي بلغ معه السعي ووصل له منه النفع وتوجه إليه الخطاب بالحقوق؟ قال: ولعل هذا هو السر في إلغاء البخاري التقييد بذلك في الترجمة. انتهى. ويقوي الأول قوله في بقية الحديث: "بفضل رحمته إياهم "لأن الرحمة للصغار أكثر لعدم حصول الإثم منهم، وهل يلتحق بالصغار من بلغ مجنونا مثلا واستمر على ذلك فمات؟ فيه نظر لأن كونهم لا إثم عليهم يقتضي الإلحاق، وكون الامتحان بهم يخف بموتهم يقتضي عدمه، ولم يقع التقييد في طرق الحديث بشده الحب ولا عدمه، وكان القياس يقتضي ذلك لما يوجد من كراهة بعض الناس
(3/120)

لولده وتبرمه منه ولا سيما من كان ضيق الحال، لكن لما كان الولد مظنة المحبة والشفقة نيط به الحكم وإن تخلف في بعض الأفراد. قوله: "إلا أدخله الله الجنة" في حديث عتبة بن عبد الله السلمي عند ابن ماجه بإسناد حسن نحو حديث الباب لكن فيه: "إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل" وهذا زائد على مطلق دخول الجنة، ويشهد له ما رواه النسائي بإسناد صحيح من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعا في أثناء حديث: "ما يسرك أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك". قوله: "بفضل رحمته إياهم" أي بفضل رحمة الله للأولاد. وقال ابن التين: قيل إن الضمير في رحمته للأب لكونه كان يرحمهم في الدنيا فيجازى بالرحمة في الآخرة والأول أولى، ويؤيده أن في رواية ابن ماجه من هذا الوجه "بفضل رحمة الله إياهم "وللنسائي من حديث أبي ذر "إلا غفر الله لهما بفضل رحمته" وللطبراني وابن حبان من حديث الحارث بن أقيش وهو بقاف ومعجمة مصغر مرفوعا: "ما من مسلمين يموت لهما أربعة أولاد إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته" وكذا في حديث عمرو بن عبسة كما سنذكره قريبا. وقال الكرماني: الظاهر أن المراد بقوله: "إياهم" جنس المسلم الذي مات أولاده لا الأولاد، أي بفضل رحمة الله لمن مات لهم، قال وساغ الجمع لكونه نكرة في سياق النفي فتعمم انتهى. وهذا الذي زعم أنه ظاهر ليس بظاهر، بل في غير هذا الطريق ما يدل على أن الضمير للأولاد، ففي حديث عمرو بن عبسة عند الطبراني "إلا أدخله الله برحمته هو وإياهم الجنة" وفي حديث أبي ثعلبة الأشجعي المقدم ذكره "أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم" قاله بعد قوله: "من مات له ولدان" فوضح بذلك أن الضمير في قوله: "إياهم" للأولاد لا للآباء والله أعلم. قوله: "حدثنا عبد الرحمن ابن الأصبهاني" في رواية الأصيلي: "أخبرنا" واسم والد عبد الرحمن المذكور عبد الله، قال البخاري في التاريخ: إن أصله من أصبهان لما فتحها أبو موسى. وقال غيره كان عبد الله يتجر إلى أصبهان فقيل له الأصبهاني، ولا منافاة بين القولين فيما يظهر لي. قوله: "عن ذكوان" هو أبو صالح السمان المذكور في الإسناد المعلق الذي يليه، وقد تقدم في العلم من رواية ابن الأصبهاني أيضا عن أبي حازم عن أبي هريرة، فتحصل له روايته عن شيخين، ولشيخه أبي صالح روايته عن شيخين. قوله: "اجعل لنا يوما" تقدم في العلم بأتم من هذا السياق مع الكلام منه على ما لا يتكرر هنا إن شاء الله تعالى. قوله: "أيما امرأة" إنما خص المرأة بالذكر لأن الخطاب حينئذ كان للنساء وليس له مفهوم لما في بقية الطرق. قوله: "ثلاثة" في رواية أبي ذر "ثلاث" وقد تقدم توجيهه. قوله: "من الولد" بفتحتين وهو يشمل الذكر والأنثى والمفرد والجمع. قوله: "كانوا" في رواية المستملي والحموي "كن" بضم الكاف وتشديد النون، وكأنه أنث باعتبار النفس أو النسمة. وفي رواية أبي الوقت "إلا كانوا لها حجابا". قوله: "قالت امرأة" هي أم سليم الأنصارية والدة أنس بن مالك كما رواه الطبراني بإسناد جيد عنها قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده: ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة لم يبلغوا الحلم إلا أدخله الجنة بفضل رحمته إياهم، فقلت: واثنان؟ قال: واثنان" وأخرجه أحمد لكن الحديث دون القصة، ووقع لأم مبشر الأنصارية أيضا السؤال عن ذلك، فروى الطبراني أيضا من طريق ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم مبشر فقال: يا أم مبشر، من مات له ثلاثة من الولد دخل الجنة. فقلت: يا رسول الله واثنان؟ فسكت ثم قال: نعم واثنان" وقد تقدم من حديث جابر بن سمرة أن أم أيمن ممن سأل عن ذلك ومن حديث ابن عباس أن عائشة أيضا منهن، وحكى ابن بشكوال أن أم
(3/121)

هانئ أيضا سألت عن ذلك، ويحتمل أن يكون كل منهن سأل عن ذلك في ذلك المجلس، وأما تعدد القصة ففيه بعد لأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الاثنين بعد ذكر الثلاثة وأجاب بأن الاثنين كذلك فالظاهر أنه كان أوحي إليه ذلك في الحال، وبذلك جزم ابن بطال وغيره، وإذا كان كذلك كان الاقتصار على الثلاثة بعد ذلك مستبعدا جدا لأن مفهومه يخرج الاثنين اللذين ثبت لهما ذلك الحكم بالوحي بناء على القول بمفهوم العدد وهو معتبر هنا كما سيأتي البحث فيه، نعم قد تقدم في حديث جابر بن عبد الله أنه ممن سأل عن ذلك، وروى الحاكم والبزار من حديث بريدة أن عمر سأل عن ذلك أيضا ولفظه: " ما من امرئ ولا امرأة يموت له ثلاثة أولاد إلا أدخله الله الجنة. فقال عمر: يا رسول الله واثنان؟ قال: واثنان" . قال الحاكم صحيح الإسناد، وهذا لا بعد في تعدده لأن خطاب النساء بذلك لا يستلزم علم الرجال به. قوله: "واثنان" قال ابن التين تبعا لعياض: هذا يدل على أن مفهوم العدد ليس بحجة لأن الصحابية من أهل اللسان ولم تعتبره إذ لو اعتبرته لانتفى الحكم عندها عما عدا الثلاثة لكنها جوزت لك فسألته، كذا قال والظاهر أنها اعتبرت مفهوم العدد إذ لو لم تعتبره لم تسأل، والتحقيق أن دلالة مفهوم العدد ليست يقينية إنما هي محتملة ومن ثم وقع السؤال عن ذلك. قال القرطبي: وإنما خصمت الثلاثة بالذكر لأنها أول مراتب الكثرة فبعظم المصيبة يكثر الأجر، فأما إذا زاد عليها فقد يخف أمر المصيبة لأنها تصير كالعادة كما قيل:
روعت بالبين حتى ما أراع له. انتهى. وهذا مصير منه إلى انحصار الأجر المذكور في الثلاثة ثم في الاثنين بخلاف الأربعة والخمسة، وهو جمود شديد، فإن من مات له أربعة فقد مات له ثلاثة ضرورة لأنهم إن ماتوا دفعة واحدة فقد مات له ثلاثة وزيادة، ولا خفاء بأن المصيبة بذلك أشد، وإن ماتوا واحدا بعد واحد فإن الأجر يحصل له عند موت الثالث بمقتضى وعد الصادق، فيلزم على قول القرطبي أنه إن مات له الرابع أن يرتفع عنه ذلك الأجر مع تجدد المصيبة وكفى بهذا فسادا، والحق أن تناول الخبر الأربعة فما فوقها من باب أولى وأحرى، ويؤيد ذلك أنهم لم يسألوا عن الأربعة ولا ما فوقها لأنه كالمعلوم عندهم إذ المصيبة إذا كثرت كان الأجر أعظم والله أعلم. وقال القرطبي أيضا: يحتمل أن يفترق الحال في ذلك بافتراق حال المصاب من زيادة رقة القلب وشدة الحب ونحو ذلك، وقد قدمنا الجواب عن ذلك.
" تنبيه ": قوله: "واثنان" أي وإذا مات اثنان ما الحكم؟ فقال: "واثنان "أي وإذا مات اثنان فالحكم كذلك. ووقع في رواية مسلم من هذا الوجه "واثنين بالنصب" أي وما حكم اثنين. وفي رواية سهل المتقدم ذكرها أو اثنان، وهو ظاهر في التسوية بين حكم الثلاثة والاثنين، وقد تقدم النقل عن ابن بطال أنه محمول على أنه أوحى إليه بذلك في الحال، ولا بعد أن ينزل عليه الوحي في أسرع من طرفة عين، ويحتمل أن يكون كان العلم عنده بذلك حاصلا لكنه أشفق عليهم أن يتكلوا لأن موت الاثنين غالبا أكثر من موت الثلاثة ما وقع في حديث معاذ وغيره في الشهادة بالتوحيد، ثم لما سئل عن ذلك لم يكن بد من الجواب والله أعلم. قوله: "وقال شريك إلخ" وصله ابن أبي شيبة عنه بلفظ: "حدثنا عبد الرحمن ابن الأصبهاني قال: أتاني أبو صالح يعزيني عن ابن لي فأخذ يحدث عن أبي سعيد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من امرأة تدفن ثلاثة أفراط إلا كانوا لها حجابا من النار. فقالت امرأة: يا رسول الله قدمت اثنين، قال: واثنين " ولم تسأله عن الواحد. قال أبو هريرة "من لم يبلغ الحنث" وهذا السياق ظاهره أن هذه الزيادة عن أبي هريرة موقوفة، ويحتمل أن يكون المراد أن أبا هريرة وأبا سعيد اتفقا على السياق المرفوع، وزاد أبو هريرة في حديثه هذا القيد وهو مرفوع أيضا، وقد تقدم في العلم
(3/122)

من طريق أخرى عن شعبة بالإسناد الأول وقال في آخره: "وعن ابن الأصبهاني سمعت أبا حازم عن أبي هريرة وقال: ثلاثة لم يبلغوا الحنث" وهذه الزيادة في حديث أبي سعيد من رواية شريك وفي حفظه نطر، لكنها ثابتة عند مسلم من رواية شعبة عن ابن الأصبهاني. وقوله: "ولم تسأله عن الواحد" تقدم ما يتعلق به في أول الباب ويأتي مزيد لذلك في "باب ثناء الناس على الميت" في أواخر كتاب الجنائز، ويأتي زيادة على ذلك في كتاب الرقاق في الكلام على الحديث الذي فيه موت الصبي وأن الصبي يتناول الولد الواحد. قوله: "حدثنا علي" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة. قوله: "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد " وقع في "الأطراف" للمزي هنا "لم يبلغوا الحنث" وليست في رواية ابن عينة عند البخاري ولا مسلم وإنما هي في متن الطريق الآخر، وفائدة إيراد هذه الطريق الأخيرة عن أبي هريرة أيضا ما في سياقها من العموم في قوله: "لا يموت لمسلم إلخ" لشموله النساء والرجال، بخلاف روايته الماضية فإنها مقيدة بالنساء. قوله: "فيلج النار" بالنصب لأن الفعل المضارع ينصب بعد النفي بتقدير أن، لكن حكى الطيبي أن شرطه أن يكون بين ما قبل الفاء وما بعدها سببية ولا سببية هنا إذ لا يجوز أن يكون موت الأولاد ولا عدمه سببا لولوج من ولدهم النار، قال: وإنما الفاء بمعنى الواو التي للجمع وتقريره لا يجتمع لمسلم موت ثلاثة من ولده وولوجه النار، لا محيد عن ذلك إن كانت الرواية بالنصب، وهذا قد تلقاه جماعة عن الطيبي وأقروه عليه، وفيه نظر لأن السببية حاصلة بالنظر إلى الإسناء لأن الاستثناء بعد النفي إثبات، فكأن المعنى أن تخفيف الولوج مسبب عن موت الأولاد، وهو ظاهر لأن الولوج عام وتخفيفه يقع بأمور منها موت الأولاد بشرطه، وما ادعاه من أن الفاء بمعنى الواو التي للجمع فيه نظر، ووجدت في شرح المشارق للشيخ أكمل الدين المعنى أن الفعل الثاني لم يحصل عقب الأول فكأنه نفي وقوعهما بصفة أن يكون الثاني عقب الأول لأن المقصود نفي الولوج عقب الموت، قال الطيبي: وإن كانت الرواية بالرفع فمعناه لا يوجد ولوج النار عقب موت الأولاد إلا مقدارا يسيرا انتهى. ووقع في رواية مالك عن الزهري كما سيأتي في الأيمان والنذور بلفظ: " لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلا تحلة القسم" وقوله تمسه بالرفع جزما والله أعلم. قوله: "إلا تحلة القسم" بفتح المثناة وكسر المهملة وتشديد اللام أي ما ينحل به القسم وهو اليمين وهو مصدر حلل اليمين أي كفرها يقال حلل تحليلا وتحلة وتحلا بغير هاء والثالث شاذ. وقال أهل اللغة يقال فعلته تحلة القسم أي قدر ما حللت به يميني ولم أبالغ. وقال الخطابي: حللت القسم تحلة أي أبررتها. وقال القرطبي: اختلف في المراد بهذا القسم فقيل هو معين وقيل غير معين. فالجمهور على الأول، وقيل لم يعن به قسم بعينه وإنما معناه التقليل لأمر ورودها وهذا اللفظ يستعمل في هذا تقول: لا ينام هذا إلا لتحليل الألية، وتقول ما ضربته إلا تحليلا إذا لم تبالغ في الضرب أي قدرا يصيبه منه مكروه. وقيل: الاستثناء بمعنى الواو أي لا تمسه النار قليلا ولا كثيرا ولا تحلة القسم، وقد جوز الفراء والأخفش مجيء إلا بمعنى الواو وجعلوا منه قوله تعالى: {لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ} والأول قول الجمهور وبه جزم أبو عبيد وغيره, وقالوا: المراد به قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قال الخطابي: معناه لا يدخل النار ليعاقب بها ولكنه يدخلها مجتازا ولا يكون ذلك الجواز إلا قدر ما يحلل به الرجل يمينه، ويدل على ذلك ما وقع عند عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في آخر هذا الحديث: "إلا تحلة القسم " يعني الورود. وفي سنن سعيد بن منصور عن سفيان بن عيينة في آخره: ثم قرأ سفيان {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} ومن
(3/123)

طريق زمعة بن صالح عن الزهري في آخره: قيل وما تحلة القسم؟ قال: قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} وكذا وقع في رواية كريمة في الأصل، قال أبو عبد الله {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} وكذا حكاه عبد الملك بن حبيب عن مالك في تفسير هذا الحديث، وورد نحوه من طريق أخرى في هذا الحديث رواه الطبراني من حديث عبد الرحمن بن بشر الأنصاري مرفوعا: " من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم يرد النار إلا عابر سبيل" يعني الجواز على الصراط، وجاء مثله من حديث آخر أخرجه الطبراني من حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه مرفوعا: " من حرس وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فإن الله عز وجل قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} , واختلف في موضع القسم من الآية فقيل هو مقدر أي والله إن منكم، وقيل معطوف على القسم الماضي في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} أي وربك إن منكم، وقيل هو مستفاد من قوله تعالى: {حَتْماً مَقْضِيّاً} أي قسما واجبا كذا رواه الطبراني وغيره من طريق مرة عن ابن مسعود ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد ومن طريق سعيد عن قتادة في تفسير هذه الآية. وقال الطيبي يحتمل أن يكون المراد بالقسم ما دل على القطع والبت من السياق، فإن قوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ} تذييل وتقرير لقوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ} فهذا بمنزلة القسم بل أبلغ لمجيء الاستثناء بالنفي والإثبات، واختلف السلف في المراد بالورود في الآية، فقيل هو الدخول روى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار أخبرني من سمع من ابن عباس فذكره، وروى أحمد والنسائي والحاكم من حديث جابر مرفوعا: "الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما"، وروى الترمذي وابن أبي حاتم من طريق السدي سمعت مرة يحدث عن عبد الله بن مسعود قال يردونها أو يلجونها ثم يصدرون عنها بأعمالهم، قال عبد الرحمن ابن مهدي قلت لشعبة: إن إسرائيل يرفعه، قال: صدق وعمدا أدعه. ثم رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل مرفوعا، وقيل المراد بالورود الممر عليها رواه الطبري وغيره من طريق بشر بن سعيد عن أبي هريرة، ومن طريق أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود، ومن طريق معمر وسعيد عن قتادة، ومن طريق كعب الأحبار وزاد: "يستوون كلهم على متنها، ثم ينادي مناد أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، فيخرج المؤمنون ندية أبدانهم"، وهذان القولان أصح ما ورد في ذلك ولا تنافي بينهما، لأن من عبر بالدخول تجوز به عن المرور، ووجهه أن المار عليها فوق الصراط في معنى من دخلها، لكن تختلف أحوال المارة باختلاف أعمالهم فأعلاهم درجة من يمر كلمع البرق كما سيأتي تفصيل ذلك عند شرح حديث الشفاعة في الرقاق إن شاء الله تعالى، ويؤيد صحة هذا التأويل ما رواه مسلم من حديث أم مبشر "إن حفصة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: لا يدخل أحد شهد الحديبية النار: أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فقال لها: أليس الله تعالى يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية" وفي هذا بيان ضعف قول من قال الورود مختص بالكفار ومن قال معنى الورود الدنو منها ومن قال معناه الإشراف عليها ومن قال معنى ورودها ما يصيب المؤمن في الدنيا من الحمى، على أن هذا الأخير ليس ببعيد ولا ينافيه بقية الأحاديث والله أعلم. وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم أن أولاد المسلمين في الجنة لأنه يبعد أن الله يغفر للآباء بفضل رحمته للأبناء ولا يرحم الأبناء قاله المهلب. وكون أولاد المسلمين في الجنة قاله الجمهور ووقفت طائفة قليلة وسيأتي البحث في ذلك في أواخر كتاب
(3/124)

الجنائز إن شاء الله تعالى، وفيه أن من حلف أن لا يفعل1 كذا ثم فعل منه شيئا ولو قل برت يمينه خلافا لمالك قاله عياض وغيره.
ـــــــ
1 كذا في النسخ, والصواب "أن يفعل" باسقاط حرف النفي, وبذلك يستقيم الكلام. والله أعلم
(3/125)