باب لاَ صَدَقَةَ إِلاَّ عَنْ ظَهْرِ غِنًى. وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ أَوْ أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَ النَّاسِ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ" إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَكَذَلِكَ آثَرَ الأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ "
 
1426 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ"
[الحديث 1426 – أطرافه في: 1428, 5355, 5356]
1427 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ"
1428 - وَعَنْ وُهَيْبٍ قَالَ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا
1429 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ وَالْمَسْأَلَةَ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى فَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ"
قوله: "باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى" أورد في الباب حديث أبي هريرة بلفظ: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وهو مشعر بأن النفي في اللفظ الأول للكمال لا للحقيقة، فالحقيقة لا صدقة كاملة إلا عن ظهر غنى، وقد أورده أحمد من طريق أبي صالح بلفظ: "إنما الصدقة ما كان عن ظهر غنى "وهو أقرب إلى لفظ الترجمة.
وأخرجه أيضا من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة بلفظ الترجمة قال: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" الحديث.
(3/294)

وكذا ذكره المصنف تعليقا في الوصايا، وساقه مغلطا بإسناد له إلى أبي هريرة بلفظه، وليس هو باللفظ المذكور في الكتاب الذي ساقه منه، فلا يغتر به ولا بمن تبعه على ذلك. قوله: "ومن تصدق وهو محتاج إلى آخر الترجمة" كأنه أراد تفسير الحديث المذكور بأن شرط المتصدق أن لا يكون محتاجا لنفسه أو لمن تلزمه نفقته. ويلتحق بالتصدق سائر التبرعات. وأما قوله: "فهو رد عليه" فمقتضاه أن ذا الدين المستغرق لا يصح منه التبرع، لكن محل هذا عند الفقهاء إذا حجر عليه الحاكم بالفلس، وقد نقل فيه صاحب "المغني" وغيره الإجماع، فيحمل إطلاق المصنف عليه. واستدل له المصنف بالأحاديث التي علقها. وأما قوله: "إلا أن يكون معروفا بالصبر" فهو من كلام المصنف، وكلام ابن التين يوهم أنه بقية الحديث فلا يغتر به، وكأن المصنف أراد أن يخص به عموم الحديث الأول. والظاهر أنه يختص بالمحتاج، ويحتمل أن يكون عاما ويكون التقدير إلا أن يكون كل من المحتاج أو من تلزمه النفقة أو صاحب الدين معروفا بالصبر. ويقوي الأول التمثيل الذي مثل به من فعل أبي بكر والأنصار، قال ابن بطال: أجمعوا على أن المديان لا يجوز له أن يتصدق بماله ويترك قضاء الدين، فتعين حمل ذلك على المحتاج. وحكى ابن رشيد عن بعضهم أنه يتصور في المديان فيما إذا عامله الغرماء على أن يأكل من المال فلو آثر بقوته وكان صبورا جاز له ذلك وإلا كان إيثاره سببا في أن يرجع لاحتياجه فيأكل فيتلف أموالهم فيمنع. وإذا تقرر ذلك فقد اشتملت الترجمة على خمسة أحاديث معلقة، وفي الباب أربعة أحاديث موصولة. فأما المعلقة فأولها قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أخذ أموال الناس" وهو طرف من حديث لأبي هريرة موصول عنده في الاستقراض. ثانيها قوله: "كفعل أبي بكر حين تصدق بماله" هذا مشهور في السير، وورد في حديث مرفوع أخرجه أبو داود وصححه الترمذي والحاكم من طريق زيد بن أسلم عن أبيه سمعت عمر يقول: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي، وأتى أبو بكر بكل ما عنده. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله" الحديث تفرد به هشام بن سعد عن زيد، وهشام صدوق فيه مقال من جهة حفظه. قال الطبري وغيره: قال الجمهور من تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله حيث لا دين عليه وكان صبورا على الإضاقة ولا عيال له أو له عيال يصبرون أيضا فهو جائز، فإن فقد شيء من هذه الشروط كره. وقال بعضهم: هو مردود. وروي عن عمر حيث رد على غيلان الثقفي قسمة ماله. ويمكن أن يحتج له بقصة المدبر الآتي ذكره، فإنه صلى الله عليه وسلم باعه وأرسل ثمنه إلى الذي دبره لكونه كان محتاجا. وقال آخرون: يجوز من الثلث ويرد عليه الثلثان، وهو قول الأوزاعي ومكحول. وعن مكحول أيضا يرد ما زاد على النصف. قال الطبري: والصواب عندنا الأول من حيث الجواز، والمختار من حيث الاستحباب أن يجعل ذلك من الثلث جمعا بين قصة أبي بكر وحديث كعب والله أعلم. ثالثها قوله: "وكذلك آثر الأنصار المهاجرين" هو مشهور أيضا في السير، وفيه أحاديث مرفوعة: منها حديث أنس "قدم المهاجرون المدينة وليس بأيديهم شيء، فقاسمهم الأنصار". وسيأتي موصولا في الهبة. وحديث أبي هريرة في قصة الأنصاري الذي آثر ضيفه بعشائه وعشاء أهله، وسيأتي موصولا في تفسير سورة الحشر. رابعها قوله: "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال" هو طرف من حديث المغيرة، وقد تقدم بتمامه في آخر صفة الصلاة. خامسها قوله: "وقال كعب" يعني ابن مالك إلخ، وهو طرف من حديثه الطويل في قصة توبته وسيأتي بتمامه في تفسير سورة التوبة. حديث أبي هريرة "خير
(3/295)

الصدقة ما كان عن ظهر غنى" فعبد الله المذكور في الإسناد هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. ومعنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه أو لمن تلزمه نفقته. قال الخطابي: لفظ الظهر يرد في مثل هذا إشباعا للكلام، والمعنى أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية، ولذلك قال بعده وابدأ بمن تعول. وقال البغوي: المراد غني يستظهر به على النوائب التي تنوبه. ونحوه قولهم ركب متن السلامة. والتنكير في قوله: "غنى" للتعظيم، هذا هو المعتمد في معنى الحديث. وقيل: المراد خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة، وقيل "عن" للسببية والظهر زائد، أي خير الصدقة ما كان سببها غنى في المتصدق. وقال النووي: مذهبنا أن التصدق بجميع المال مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال لا يصبرون، ويكون هو ممن يصبر على الإضاقة والفقر، فإن لم يجمع هذه الشروط فهو مكروه. وقال القرطبي في "المفهم" : يرد على تأويل الخطابي بالآيات والأحاديث الواردة في فضل المؤثرين على أنفسهم، ومنها حديث أبي ذر "فضل الصدقة جهد من مقل" والمختار أن معنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال بحيث لا يصير المتصدق محتاجا بعد صدقته إلى أحد، فمعنى الغنى في هذا الحديث حصول ما تدفع به الحاجة الضرورية كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه، وستر العورة، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله فلا يجوز الإيثار به بل يحرم، وذلك أنه إذا آثر غيره به أدى إلى إهلاك نفسه أو الإضرار بها أو كشف عورته، فمراعاة حقه أولى على كل حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار وكانت صدقته هي الأفضل لأجل ما يتحمل من مضض الفقر وشدة مشقته، فبهذا يندفع التعارض بين الأدلة إن شاء الله. قوله: "وابدأ بمن تعول" فيه تقديم نفقة نفسه وعياله لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم، وسيأتي شرحه في النفقات إن شاء الله تعالى. حديث حكيم بن حزام " اليد العليا خير من اليد السفلى" الحديث، وشاهد الترجمة منه قوله فيه: "وخير الصدقة عن ظهر غنى" وهشام المذكور في الإسناد هو ابن عروة بن الزبير، وقوله فيه: "ومن يستعف يعفه الله" يأتي الكلام عليه في حديث أبي سعيد بعد أبواب. ثالثها حديث أبي هريرة قال: "بهذا "أي بحديث حكيم، أورده معطوفا على إسناد حديث حكيم بلفظ: "وعن وهيب" والظاهر أنه حمله عن موسى بن إسماعيل عنه بالطريقين معا، وكأن هشاما حدث به وهيبا تارة عن أبيه عن حكيم وتارة عن أبيه عن أبي هريرة، أو حدثه به عنهما مجموعا ففرقه وهيب أو الراوي عنه. وقد وصل حديث أبي هريرة من طريق وهيب الإسماعيلي قال: "أخبرني ابن ياسين حدثنا محمد بن سفيان حدثنا حبان - هو ابن هلال - حدثنا وهيب حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة قال" مثل حديث حكيم. حديث ابن عمر من وجهين في ذكر اليد العليا، وإنما أورده ليفسر به ما أجمل في حديث حكيم، قال ابن رشيد: والذي يظهر أن حديث حكيم بن حزام لما اشتمل على شيئين: حديث: "اليد العليا" وحديث: " لا صدقة إلا عن ظهر غنى" ذكر معه حديث ابن عمر المشتمل على الشيء الأول تكثيرا لطرقه. ويحتمل أن يكون مناسبة حديث: "اليد العليا" للترجمة من جهة أن إطلاق كون اليد العليا هي المنفقة، محله ما إذا كان الإنفاق لا يمنع منه بالشرع كالمديان المحجور عليه، فعمومه مخصوص بقوله: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" والله أعلم.
" تنبيه ": لم يسق البخاري متن طريق حماد عن أيوب، وعطف عليه طريق مالك، فربما أوهم أنهما سواء، وليس كذلك لما سنذكره عن أبي داود. وقال ابن عبد البر في "التمهيد": لم تختلف الرواة عن مالك أي في سياقه، كذا قال وفيه
(3/296)

نظر كما سيأتي. وقال القرطبي: وقع تفسير اليد العليا والسفلى في حديث ابن عمر هذا، وهو نص يرفع الخلاف ويدفع تعسف من تعسف في تأويله ذلك انتهى. لكن ادعى أبو العباس الداني في "أطراف الموطأ "أن التفسير المذكور مدرج في الحديث، ولم يذكر مستندا لذلك. ثم وجدت في "كتاب العسكري في الصحابة" بإسناد له فيه انقطاع عن ابن عمر أنه كتب إلى بشر بن مروان "إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " اليد العليا خير من اليد السفلى" ، ولا أحسب اليد السفلى إلا السائلة، ولا العليا إلا المعطية "فهذا يشعر بأن التفسير من كلام ابن عمر، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "كنا نتحدث أن العليا هي المنفقة". قوله: "وذكر الصدقة والتعفف والمسألة" كذا للبخاري بالواو قبل المسألة. وفي رواية مسلم عن قتيبة عن مالك "والتعفف عن المسألة" ولأبي داود "والتعفف منها" أي من أخذ الصدقة، والمعنى أنه كان يحض الغني على الصدقة والفقير على التعفف عن المسألة أو يحضه على التعفف ويذم المسألة. قوله: "فاليد العليا هي المنفقة" قال أبو داود قال الأكثر عن حماد بن زيد: المنفقة. وقال واحد عنه: المتعففة، وكذا قال عبد الوارث عن أيوب انتهى. فأما الذي قال عن حماد المتعففة بالعين وفاءين فهو مسدد، كذلك رويناه عنه في مسنده رواية معاذ بن المثنى عنه، ومن طريقه أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"، وقد تابعه على ذلك أبو الربيع الزهراني كما رويناه في "كتاب الزكاة ليوسف بن يعقوب القاضي "حدثنا أبو الربيع. وأما رواية عبد الوارث فلم أقف عليها موصولة. وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق سليمان بن حرب عن حماد بلفظ: "واليد العليا يد المعطي" وهذا يدل على أن من رواه عن نافع بلفظ: "المتعففة" فقد صحف. قال ابن عبد البر: ورواه موسى بن عقبة عن نافع فاختلف عليه أيضا، فقال حفص بن ميسرة عنه "المنفقة" كما قال مالك. قلت: وكذلك قال فضيل بن سليمان عنه أخرجه ابن حبان من طريقه قال: ورواه إبراهيم بن طهمان عن موسى فقال: "المنفقة" قال ابن عبد البر: رواية مالك أولى وأشبه بالأصول. ويؤيده حديث طارق المحاربي عند النسائي قال: "قدمنا المدينة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: " يد المعطي العليا" انتهى. ولابن أبي شيبة والبزار من طريق ثعلبة بن زهدم مثله، وللطبراني بإسناد صحيح عن حكيم بن حزام مرفوعا: "يد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد المعطى، ويد المعطى أسفل الأيدي" وللطبراني من حديث عدي الجذامي مرفوعا مثله، ولأبي داود وابن خزيمة من حديث أبي الأحوص عوف بن مالك عن أبيه مرفوعا: "الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى" ولأحمد والبزار من حديث عطية السعدي "اليد المعطية هي العليا، والسائلة هي السفلى" فهذه الأحاديث متضافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية وأن السفلى هي السائلة، وهذا هو المعتمد وهو قول الجمهور. وقيل اليد السفلى الآخذة سواء كان بسؤال أم بغير سؤال، وهذا أباه قوم واستندوا إلى أن الصدقة تقع في يد الله قبل يد المتصدق عليه. قال ابن العربي: التحقيق أن السفلى يد السائل، وأما يد الآخذ فلا، لأن يد الله هي المعطية ويد الله هي الآخذة وكلتاهما عليا وكلتاهما يمين انتهى. وفيه نظر لأن البحث إنما هو في أيدي الآدميين، وأما يد الله تعالى فباعتبار كونه مالك كل شيء نسبت يده إلى الإعطاء، وباعتبار قبوله للصدقة ورضاه بها نسبت يده إلى الأخذ ويده العليا على كل حال، وأما يد الآدمي فهي أربعة: يد المعطي، وقد تضافرت الأخبار بأنها عليا. ثانيها يد السائل، وقد تضافرت بأنها سفلى سواء أخذت أم لا، وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالبا وللمقابلة بين العلو والسفل المشتق منهما. ثالثها يد
(3/297)

المتعفف عن الأخذ ولو بعد أن تمد إليه يد المعطي مثلا، وهذه توصف بكونها عليا علوا معنويا. رابعها يد الآخذ بغير سؤال، وهذه قد اختلف فيها فذهب جمع إلى أنها سفلى، وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، وأما المعنوي فلا يطرد فقد تكون عليا في بعض الصور، وعليه يحمل كلام من أطلق كونها عليا. قال ابن حبان: اليد المتصدقة أفضل من السائلة لا الآخذة بغير سؤال، إذ محال أن تكون اليد التي أبيح لها استعمال فعل باستعماله، دون من فرض عليه إتيان شيء فأتى به أو تقرب إلى ربه متنفلا، فربما كان الآخذ لما أبيح له أفضل وأورع من الذي يعطي انتهى. وعن الحسن البصري: اليد العليا المعطية والسفلى المانعة ولم يوافق عليه. وأطلق آخرون من المتصوفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقا، وقد حكى ابن قتيبة في "غريب الحديث": ذلك عن قوم ثم قال: وما أرى هؤلاء إلا قوما استطابوا السؤال فهم يحتجون للدناءة، ولو جاز هذا لكان المولى من فوق هو الذي كان رقيقا فأعتق والمولى من أسفل هو السيد الذي أعتقه انتهى. وقرأت في "مطلع الفوائد" للعلامة جمال الدين بن نباتة في تأويل الحديث المذكور معنى آخر فقال: اليد هنا هي النعمة، وكأن المعنى أن العطية الجزيلة خير من العطية القليلة. قال: وهذا حث على المكارم بأوجز لفظ، ويشهد له أحد التأويلين في قوله: "ما أبقت غنى" أي ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله كمن أراد أن يتصدق بألف فلو أعطاها لمائة إنسان لم يظهر عليهم الغنى، بخلاف ما لو أعطاها لرجل واحد. قال: وهو أولى من حمل اليد على الجارحة، لأن ذلك لا يستمر إذ فيمن يأخذ من هو خير عند الله ممن يعطي. قلت: التفاضل هنا يرجع إلى الإعطاء والأخذ، ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الآخذ على الإطلاق. وقد روى إسحاق في مسنده من طريق عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير "أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله، ما اليد العليا؟ قال: التي تعطي ولا تأخذ" فقوله: "ولا تأخذ" صريح في أن الآخذة ليست بعليا والله أعلم. وكل هذه التأويلات المتعسفة تضمحل عند الأحاديث المتقدمة المصرحة بالمراد، فأولى ما فسر الحديث بالحديث، ومحصل ما في الآثار المتقدمة أن أعلى الأيدي المنفقة، ثم المتعففة عن الآخذ، ثم الآخذة بغير سؤال. وأسفل الأيدي السائلة والمانعة والله أعلم. قال ابن عبد البر: وفي الحديث إباحة الكلام للخطيب بكل ما يصلح من موعظة وعلم وقربة. وفيه الحث على الإنفاق في وجوه الطاعة. وفيه تفضيل الغنى مع القيام بحقوقه على الفقر، لأن العطاء إنما يكون مع الغنى، وقد تقدم الخلاف في ذلك في حديث: "ذهب أهل الدثور" في أواخر صفة الصلاة. وفيه كراهة السؤال والتنفير عنه، ومحله إذا لم تدع إليه ضرورة من خوف هلاك ونحوه. وقد روى الطبراني من حديث ابن عمر بإسناد فيه مقال مرفوعا: "ما المعطي من سعة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجا" وسيأتي حديث حكيم مطولا في "باب الاستعفاف عن المسألة" وفيه بيان سببه إن شاء الله تعالى.
(3/298)