باب فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا وَقَوْلِهِ تَعَالَى [125-128 البقرة] ب
 
قوله. {وَتُبْ عَلَيْنَا} قيل طلبا الثبات على الإيمان لأنهما معصومان، وقيل أراد أن يعرف الناس أن ذلك الموقف مكان التوبة، وقيل المعني وتب على من اتبعنا. قوله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وهذا أحد الأحاديث التي أخرجها البخاري عن شيخه أبي عاصم النبيل بواسطة. قوله: "لما بنيت الكعبة" هذا من مرسل الصحابي لأن جابرا لم يدرك هذه القصة، فيحتمل أن يكون سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن حضرها من الصحابة، وقد روى الطبراني وأبو نعيم في "الدلائل" من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير قال: "سألت جابرا هل يقوم الرجل عريانا؟ فقال: أخبرني النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما انهدمت الكعبة نقل كل بطن من قريش وأن النبي صلى الله عليه وسلم نقل مع العباس، وكانوا يضعون ثيابهم على العواتق يتقوون بها - أي على حمل الحجارة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فاعتقلت رجلي فخررت وسقط ثوبي فقلت للعباس: هلم ثوبي، فلست أتعرى بعدها إلا إلى الغسل" لكن ابن لهيعة ضعيف، وقد تابعه عبد العزيز بن سليمان عن أبي الزبير ذكره أبو نعيم فإن كان محفوظا وإلا فقد حضره من الصحابة العباس كما في حديث الباب، فلعل جابرا حمله عنه. وروى الطبراني أيضا، والبيهقي في "الدلائل" من طريق عمرو بن أبي قيس، والطبري في التهذيب من طريق هارون بن المغيرة، وأبو نعيم في "المعرفة" من طريق قيس بن الربيع، وفي "الدلائل" من طريق شعيب بن خالد كلهم عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس حدثني أبي العباس بن عبد المطلب قال: "لما بنت قريش الكعبة انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة، فكنت أنا وابن أخي، جعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا، فبينما هو أمامي إذ صرع فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء قال فقلت لابن أخي: ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي عريانا قال فكتمته حتى أظهر الله نبوته" تابعه الحكم بن أبان عن عكرمة أخرجه أبو نعيم أيضا، وروى ذلك أيضا عن طريق النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس ليس فيه العباس وقال في آخره: "فكان أول شيء رأى من النبوة" والنضر ضعيف، وقد خبط في إسناده وفي متنه، فإنه جعل القصة في معالجة زمزم بأمر أبي طالب وهو غلام، وكذا روى ابن إسحاق في "السيرة" عن أبيه عمن حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إني لمع غلمان هم أسناني قد جعلنا أزرنا على أعناقنا لحجارة ننقلها إذ لكمني لاكم لكمة شديدة ثم قال: اشدد عليك إزارك" فكأن هذه قصة أخرى، واغتر بذلك الأزرقي فحكى قولا "إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بنيت الكعبة كان غلاما" ولعل عمدته في ذلك ما سيأتي عن معمر عن الزهري، ولحديث معمر شاهد من حديث أبي الطفيل أخرجه عبد الرزاق ومن طريقه الحاكم والطبراني قال: "كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدر، وكانت قدر ما يقتحمها العناق، وكانت ثيابها توضع عليها تسدل سدلا، وكانت ذات ركنين كهيئة هذه الحلقة:، فأقبلت سفينة من الروم، حتى إذا كانوا قريبا من جدة انكسرت، فخرجت قريش لتأخذ خشبها فوجدوا الرومي الذي فيها نجارا فقدموا به بالخشب ليبنوا به البيت، فكانوا كلما أرادوا القرب منه لهدمه بدت لهم حية فاتحة فاها، فبعث الله طيرا أعظم من النسر فغرز مخالبه فيها فألقاها نحو أجياد، فهدمت قريش الكعبة وبنوها بحجارة الوادي، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا. فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته من صغرها، فنودي: يا محمد خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد ذلك، وكان بين ذلك وبين المبعث خمس سنين" قال معمر: وأما الزهري فقال: "لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت، فتشاورت قريش في هدمها وهابوه، فقال الوليد: إن
(3/441)

الله لا يهلك من يريد الإصلاح، فارتقى على ظاهر البيت ومعه العباس فقال اللهم لا نريد إلا الإصلاح، ثم هدم. فلما رأوه سالما تابعوه" قال عبد الرزاق وأخبرنا ابن جريج قال: قال مجاهد "كان ذلك قبل المبعث بخمس عشرة سنة" وكذا رواه ابن عبد البر من طريق محمد بن جبير بن مطعم بإسناد له، وبه جزم موسى بن عقبة في مغازيه والأول أشهر، وبه جزم ابن إسحاق. ويمكن الجمع بينهما بأن يكون الحريق تقدم وقته على الشروع في البناء، وذكر ابن إسحاق "أن السيل كان يأتي فيصيب الكعبة فيتساقط من بنائها، وكان رضما فوق القامة، فأرادت قريش رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة" فذكر القصة مطولا في بنائهم الكعبة وفي اختلافهم فيمن يضع الحجر الأسود حتى رضوا بأول داخل، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحكموه في ذلك فوضعه بيده. قال: "وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعا" ووقع عند الطبراني من طريق أخرى عن ابن خثيم عن أبي الطفيل أن اسم النجار المذكور باقوم، وللفاكهي من طريق ابن جريج مثله، قال: "وكان يتجر إلى بندر وراء ساحل عدن، فانكسرت سفينته بالشعيبة، فقال لقريش: إن أجريتم عيري مع عيركم إلى الشام أعطيتكم الخشب، ففعلوا" وروى سفيان بن عيينة في جامعه عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول: "اسم الذي بنى الكعبة لقريش باقوم، وكان روميا" وقال الأزرقي "كان طولها سبعة وعشرين ذراعا، فاقتصرت قريش منها على ثمانية عشر، ونقصوا من عرضها أذرعا أدخلوها في الحجر". قوله: "فخر إلى الأرض" في رواية زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار الماضية في "باب كراهية التعري" من أوائل الصلاة "فجعله على منكبه فسقط مغشيا عليه". قوله: "فطمحت عيناه" بفتح المهملة والميم أي ارتفعتا، والمعنى أنه صار ينظر إلى فوق. وفي رواية عبد الرزاق عن ابن جريج في أوائل السيرة النبوية "ثم أفاق فقال". قوله: "أرني إزاري" أي أعطني، وحكى ابن التين كسر الراء وسكونها وقد قرئ بهما. وفي رواية عبد الرزاق الآتية "إزاري إزاري" بالتكرير. قوله: "فشده عليه" زاد زكريا بن إسحاق "فما رئي بعد ذلك عريانا" وقد تقدم شاهدها من حديث أبي الطفيل. قوله: "عن سالم بن عبد الله" أي ابن عمر. قوله: "أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر" أي الصديق، ووقع في رواية مسلم: "أبي بكر بن أبي قحافة" وعبد الله هذا هو أخو القاسم بن محمد. قوله: "أخبر عبد الله بن عمر" بنصب عبد الله على المفعولية، وظاهره أن سالما كان حاضرا لذلك فيكون من روايته عن عبد الله بن محمد، وقد صرح بذلك أبو أويس عن ابن شهاب، لكنه سماه عبد الرحمن بن محمد فوهم أخرجه أحمد، وأغرب إبراهيم بن طهمان فرواه عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أخرجه الدارقطني في "غرائب مالك" والمحفوظ الأول. وقد رواه معمر عن ابن شهاب عن سالم لكنه اختصره، وأخرجه مسلم من طريق نافع عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر عن عائشة فتابع سالما فيه وزاد في المتن "ولأنفقت كنز الكعبة" ولم أر هذه الزيادة إلا من هذا الوجه، ومن طريق أخرى أخرجها أبو عوانة من طريق القاسم بن محمد عن عبد الله بن الزبير عن عائشة وسيأتي البحث فيها في "باب كسوة الكعبة". قوله: "قومك" أي قريش. قوله: "اقتصروا عن قواعد إبراهيم" سيأتي بيان ذلك في الطريق التي تلي هذه. قوله: "لولا حدثان" بكسر المهملة وسكون الدال بعدها مثلثة بمعني الحدوث، أي قرب عهدهم. قوله: "لفعلت" أي لرددتها على قواعد إبراهيم. قوله: "فقال عبد الله" أي ابن عمر بالإسناد المذكور، وقد رواه معمر عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه بهذه القصة مجردة. قوله: "لئن كانت" ليس هذا شكا من ابن عمر في صدق
(3/442)

عائشة، لكن يقع في كلام العرب كثيرا صورة التشكيك والمراد التقرير واليقين. قوله: "ما أرى" بضم الهمزة أي أظن، وهي رواية معمر، وزاد في آخر الحديث: "ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك" ونحوه في رواية أبى أويس المذكورة. قوله: "استلام" افتعال من السلام، والمراد هنا لمس الركن بالقبلة أو اليد. قوله: "يليان" أي يقربان من "الحجر" بكسر المهملة وسكون الجيم وهو معروف على صفة نصف الدائرة وقدرها تسع وثلاثون ذراعا، والقدر الذي أخرج من الكعبة سيأتي قريبا. قوله: "حدثنا الأشعث" هو ابن أبي الشعثاء المحاربي، وقد تقدم في العلم من وجه آخر عن الأسود بزيادة نبهنا على ما فيها هناك. قوله: "عن الجدر" بفتح الجيم وسكون المهملة كذا للأكثر وكذا هو في مسند مسدد شيخ البخاري فيه. وفي رواية المستملي: "الجدار" قال الخليل: الجدر لغة في الجدار انتهى. ووهم من ضبطه بضمها لأن المراد الحجر، ولأبي داود الطيالسي في مسنده عن أبي الأحوص شيخ مسدد فيه: "الجدر أو الحجر" بالشك، ولأبي عوانة من طريق شيبان عن الأشعث "الحجر" بغير شك. قوله: "أمن البيت هو؟ قال نعم" هذا ظاهره أن الحجر كله من البيت، وكذا قوله في الطريق الثانية "أن أدخل الجدر في البيت" وبذلك كان يفتي ابن عباس كما رواه عبد الرزاق عن أبيه عن مرثد بن شرحبيل قال: "سمعت ابن عباس يقول: لو وليت من البيت ما ولي ابن الزبير لأدخلت الحجر كله في البيت، فلم يطاف به إن لم يكن من البيت "؟ وروى الترمذي والنسائي من طريق علقمة عن أمه عن عائشة قالت: "كنت أحب أن أصلي في البيت، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأدخلني الحجر فقال: صلي فيه فإنما هو قطعة من البيت، ولكن قومك استقصروه حتى بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت" ونحوه لأبي داود من طريق صفية بنت شيبة عن عائشة، ولأبي عوانة من طريق قتادة عن عروة عن عائشة، ولأحمد من طريق سعيد بن جبير عن عائشة وفيه: "أنها أرسلت إلى شيبة الحجبي ليفتح لها البيت بالليل فقال: ما فتحناه في جاهلية ولا إسلام بليل" وهذه الروايات كلها مطلقة، وقد جاءت روايات أصح منها مقيدة، منها لمسلم من طريق أبي قزعة عن الحارث بن عبد الله عن عائشة في حديث الباب: "حتى أزيد فيه من الحجر"، وله من وجه آخر عن الحارث عنها "فإن بدا لقومك أن يبنوه بعدي فهلمي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريبا من سبعة أذرع" وله من طريق سعيد بن ميناء عن عبد الله بن الزبير عن عائشة في هذا الحديث: "وزدت فيها من الحجر ستة أذرع" وسيأتي في آخر الطريق الرابعة قول يزيد بن رومان الذي رواه عن عروة أنه أراه لجرير بن حازم فحزره ستة أذرع أو نحوها، ولسفيان بن عيينة في جامعه عن داود بن شابور عن مجاهد "أن ابن الزبير زاد فيها ستة أذرع مما يلي الحجر" وله عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن الزبير "ستة أذرع وشبر" وهكذا ذكر الشافعي عن عدد لقيهم من أهل العلم من قريش كما أخرجه البيهقي في "المعرفة" عنه، وهذه الروايات كلها تجتمع على أنها فوق الستة ودون السبعة، وأما رواية عطاء عند مسلم عن عائشة مرفوعا: "لكنت أدخل فيها من الحجر خمسة أذرع" فهي شاذة، والرواية السابقة أرجح لما فيها من الزيادة عن الثقات الحفاظ، ثم ظهر لي لرواية عطاء وجه وهو أنه أريد بها ما عدا الفرجة التي بين الركن والحجر فتجتمع مع الروايات الأخرى، فإن الذي عدا الفرجة أربعة أذرع وشيء، ولهذا وقع عند الفاكهي من حديث أبي عمرو بن عدي بن الحمراء "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة في هذه القصة: ولأدخلت فيها من الحجر أربعه أذرع" فيحمل هذا على إلغاء الكسر، ورواية عطاء على جبره، ويجمع بين الروايات كلها بذلك ولم أر من سبقني إلى ذلك، وسأذكر ثمرة هذا البحث في آخر
(3/443)