باب حَرَمِ الْمَدِينَةِ
 
1867- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا وَلاَ يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"
[الحديث 1867-طرفه في 7306]
1868- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي فَقَالُوا لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ فَأَمَرَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ ثُمَّ بِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ"
1869- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حُرِّمَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْ الْمَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي قَالَ وَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي حَارِثَةَ فَقَالَ أَرَاكُمْ يَا بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنْ الْحَرَمِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ بَلْ أَنْتُمْ فِيهِ"
[الحديث 1869- طرفه في 1873]
1870- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ وَقَالَ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ وَمَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ عَدْلٌ فِدَاءٌ"
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - فضائل المدينة. باب حرم المدينة" كذا لأبي ذر عن الحموي، وسقط للباقين سوى قوله: "باب حرم المدينة" وفي رواية أبي علي الشبوي "باب ما جاء في حرم المدينة". والمدينة علم على البلدة المعروفة التي هاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم ودفن بها. قال الله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} فإذا أطلقت تبادر إلى الفهم أنها المراد، وإذا أريد غيرها بلفظة المدينة فلا بد من قيد، فهي كالنجم للثريا، وكان اسمها قبل ذلك يثرب
(4/81)

قال الله تعالى: { وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} ويثرب اسم لموضع منها سميت كلها به، قيل سميت بيثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح لأنه أول من نزلها، حكاه أبو عبيد البكري وقيل غير ذلك، ثم سماها النبي صلى الله عليه وسلم طيبة وطابة كما سيأتي في باب مفرد، وكان سكانها العماليق، ثم نزلها طائفة من بني إسرائيل قيل أرسلهم موسى عليه السلام كما أخرجه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بسند ضعيف، ثم نزلها الأوس والخزرج لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم، وسيأتي إيضاح ذلك في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى. ثم ذكر المصنف هنا أربعة أحاديث. قوله: "عن أنس" في رواية عبد الواحد عن عاصم" قلت لأنس" وسيأتي في الاعتصام، وليزيد ابن هارون عن عاصم "سألت أنسا" أخرجه مسلم. قوله: "المدينة حرم من كذا إلى كذا" هكذا جاء مبهما، وسيأتي في حديث على رابع أحاديث الباب: "ما بين عائر إلى كذا" فعين الأول وهو بمهملة وزن فاعل، وذكره في الجزية وغيرها بلفظ: "عير" بسكون التحتانية، وهو جبل بالمدينة كما سنوضحه. واتفقت روايات البخاري كلها على إبهام الثاني. ووقع عند مسلم: "إلى ثور" فقيل إن البخاري أبهمه عمدا لما وقع عنده أنه وهم. وقال صاحب "المشارق" و "المطالع" : أكثر رواة البخاري ذكروا عيرا، وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا ومنهم من ترك مكانه بياضا، والأصل في هذا التوقف قول مصعب الزبيري: ليس بالمدينة عير ولا ثور. وأثبت غيره عيرا ووافقه على إنكار ثور، قال أبو عبيد: قوله: "ما بين عير إلى ثور" هذه رواية أهل العراق، وأما أهل المدينة فلا يعرفون جبلا عندهم يقال له ثور وإنما ثور بمكة، ونرى أن أصل الحديث: "ما بين عير إلى أحد". قلت: وقد وقع ذلك في حديث عبد الله بن سلام عند أحمد والطبراني. وقال عياض: لا معنى لإنكار عير بالمدينة فإنه معروف، وقد جاء ذكره في أشعارهم، وأنشد أبو عبيد البكري في ذلك عدة شواهد، منها قول الأحوص المدني الشاعر المشهور:
فقلت لعمرو تلك يا عمرو ناره ... تشب قفا عير فهل أنت ناظر
وقال ابن السيد في "المثلث" : عير اسم جبل بقرب المدينة معروف. وروى الزبير في "أخبار المدينة" عن عيسى بن موسى قال: قال سعيد بن عمرو لبشر بن السائب أتدري لم سكنا العقبة؟ قال: لا. قال: لأنا قتلنا منكم قتيلا في الجاهلية فأخرجنا إليها. فقال: وددت لو أنكم قتلتم منا آخر وسكنتم وراء عير، يعني جبلا. كذا في نفس الخبر. وقد سلك العلماء في إنكار مصعب الزبيري لعير وثور مسالك: ما منها تقدم، ومنها قول ابن قدامة يحتمل أن يكون المراد مقدار ما بين عير وثور لا أنهما بعينهما في المدينة، أو سمى النبي صلى الله عليه وسلم الجبلين اللذين بطرفي المدينة عيرا وثورا ارتجالا. وحكى ابن الأثير كلام أبي عبيد مختصرا ثم قال: وقيل إن عيرا جبل بمكة، فيكون المراد أحرم من المدينة مقدار ما بين عير وثور بمكة على حذف المضاف ووصف المصدر المحذوف. وقال النووي: يحتمل أن يكون ثور كان اسم جبل هناك إما أحد وإما غيره. وقال المحب الطبري في "الأحكام" بعد حكاية كلام أبي عبيد ومن تبعه: قد أخبرني الثقة العالم أبو محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن يساره جانحا إلى ورائه جبل صغير يقال له ثور، وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه لطوائف من العرب - أي العارفين بتلك الأرض وما فيها من الجبال - فكل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور، وتواردوا على ذلك. قال فعلمنا أن ذكر ثور في الحديث صحيح، وأن عدم علم أكابر العلماء به لعدم شهرته وعدم بحثهم عنه. قال وهذه فائدة جليلة. انتهي. وقرأت بخط شيخ شيوخنا القطب الحلبي في شرحه:
(4/82)

حكى لنا شيخنا الإمام أبو محمد عبد السلام بن مزروع البصري أنه خرج رسولا إلى العراق فلما رجع إلى المدينة كان معه دليل وكان يذكر له الأماكن والجبال، قال: فلما وصلنا إلى أحد إذا بقربه جبل صغير، فسألته عنه فقال: هذا يسمى ثورا. قال فعلمت صحة الرواية. قلت: وكأن هذا كان مبدأ سؤاله عن ذلك. وذكر شيخنا أبو بكر بن حسين المراغي نزيل المدينة في مختصره لأخبار المدينة أن خلف أهل المدينة ينقلون عن سلفهم أن خلف أحد من جهة الشمال جبلا صغيرا إلى الحمرة بتدوير يسمى ثورا، قال وقد تحققته بالمشاهدة. وأما قول ابن التين أن البخاري أبهم اسم الجبل عمدا لأنه غلط فهو غلط منه، بل إبهامه من بعض رواته، فقد أخرجه في الجزية فسماه، والله أعلم. ومما يدل على أن المراد بقوله في حديث أنس من "كذا إلى كذا جبلان" ما وقع عند مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن أنس مرفوعا: "اللهم إني أحرم ما بين جبليها" لكن عند المصنف في الجهاد وغيره من طريق محمد بن جعفر ويعقوب بن عبد الرحمن ومالك كلهم عن عمرو بلفظ: "ما بين لابتيها" وكذا في حديث أبي هريرة ثالث أحاديث الباب، وسيأتي بعد أبواب من وجه آخر، وكذا في حديث رافع بن خديج وأبي سعيد وسعد وجابر وكلها عند مسلم، وكذا رواه أحمد من حديث عبادة الزرقي والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن عوف والطبراني من حديث أبي اليسر وأبي حسين وكعب ابن مالك كلهم بلفظ: "ما بين لابتيها" واللابتان جمع لابة بتخفيف الموحدة وهي الحرة وهي الحجارة السود، وقد تكرر ذكرها في الحديث. ووقع في حديث جابر عند أحمد "وأنا أحرم المدينة ما بين حرتيها" فادعى بعض الحنفية أن الحديث مضطرب لأنه وقع في رواية ما بين جبليها وفي رواية ما بين لابتيها وفي رواية مأزميها، وتعقب بأن الجمع بينهما واضح وبمثل هذا لا ترد الأحاديث الصحيحة، فإن الجمع لو تعذر أمكن الترجيح، ولا شك أن رواية: "ما بين لابتيها" أرجح لتوارد الرواة عليها، ورواية جبليها لا تنافيها فيكون عند كل لابة جبل، أو لابتيها من جهة الجنوب والشمال وجبليها من جهة الشرق والغرب، وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا تضر، وأما رواية: "مأزميها" فهي في بعض طرق حديث أبي سعيد، والمأزم بكسر الزاي المضيق بين الجبلين وقد يطلق على الجبل نفسه. واحتج الطحاوي بحديث أنس في قصة أبي عمير ما فعل النغير قال: لو كان صيدها حراما ما جاز حبس الطير، وأجيب باحتمال أن يكون من صيد الحل. قال أحمد: من صاد من الحل ثم أدخله المدينة لم يلزمه إرساله لحديث أبي عمير، وهذا قول الجمهور. لكن لا يرد ذلك على الحنفية، لأن صيد الحل عندهم إذا دخل الحرم كان له حكم الحرم، ويحتمل أن تكون قصة أبي عمير كانت قبل التحريم، واحتج بعضهم بحديث أنس في قصة قطع النخل لبناء المسجد، ولو كان قطع شجرها حراما ما فعله صلى الله عليه وسلم. وتعقب بأن ذلك كان في أول الهجرة كما سيأتي واضحا في أول المغازي، وحديث تحريم المدينة كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من خيبر كما سيأتي في حديث عمرو بن أبي عمرو عن أنس في الجهاد وفي غزوة أحد من المغازي واضحا. وقال الطحاوي: يحتمل أن يكون سبب النهي عن صيد المدينة وقطع شجرها كون الهجرة كانت إليها فكان بقاء الصيد والشجر مما يزيد في زينتها ويدعو إلى ألفتها كما روى ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هدم آطام المدينة" فإنها من زينة المدينة فلما انقطعت الهجرة زال ذلك، وما قاله ليس بواضح لأن النسخ لا يثبت إلا بدليل، وقد ثبت على الفتوى بتحريمها سعد وزيد بن ثابت وأبو سعيد وغيرهم كما أخرجه مسلم. وقال ابن قدامة: يحرم صيد المدينة وقطع شجرها وبه قال مالك والشافعي وأكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة لا يحرم، ثم من فعل مما حرم عليه فيه شيئا أثم ولا جزاء عليه في
(4/83)

رواية لأحمد، وهو قول مالك والشافعي في الجديد وأكثر أهل العلم. وفي رواية لأحمد وهو قول الشافعي في القديم وابن أبي ذئب واختاره ابن المنذر وابن نافع من أصحاب مالك. وقال القاضي عبد الوهاب أنه الأقيس واختاره جماعة بعدهم فيه الجزاء وهو كما في حرم مكة، وقيل الجزاء في حرم المدينة أخذ السلب لحديث صححه مسلم عن سعد بن أبي وقاص. وفي رواية لأبي داود "من وجد أحدا يصيد في حرم المدينة فليسلبه". قال القاضي عياض: لم يقل بهذا بعد الصحابة إلا الشافعي في القديم. قلت: واختاره جماعة معه وبعده لصحة الخبر فيه، ولمن قال به اختلاف في كيفيته ومصرفه، والذي دل عليه صنيع سعد عند مسلم وغيره أنه كسلب القتيل وأنه للسالب لكنه لا يخمس، وأغرب بعض الحنفية فادعى الإجماع على ترك الأخذ بحديث السلب، ثم استدل بذلك على نسخ أحاديث تحريم المدينة، ودعوى الإجماع مردودة فبطل ما ترتب عليها. قال ابن عبد البر: لو صح حديث سعد لم يكن في نسخ أخذ السلب ما يسقط الأحاديث الصحيحة. ويجوز أخذ العلف لحديث أبي سعيد في مسلم: "ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف" ولأبي داود من طريق أبي حسان عن علي نحوه. وقال المهلب: في حديث أنس دلالة على أن المنهي عنه في الحديث الماضي مقصور على القطع الذي يحصل به الإفساد، فأما من يقصد الإصلاح كمن يغرس بستانا مثلا فلا يمتنع عليه قطع ما كان بتلك الأرض من شجر يضر بقاؤه. قال: وقيل بل فيه دلالة على أن النهي إنما يتوجه إلى ما أنبته الله من الشجر مما لا صنع للآدمي فيه، كما حمل عليه النهي عن قطع شجر مكة. وعلى هذا يحمل قطع صلى الله عليه وسلم النخل وجعله قبلة المسجد ولا يلزم منه النسخ المذكور. قوله: "لا يقطع شجرها" في رواية يزيد بن هارون "لا يختلي خلاها" وفي حديث جابر عند مسلم: "لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها" ونحوه عنده عن سعد. قوله: "من أحدث فيها حدثا" زاد شعبة وحماد بن سلمة عن عاصم عند أبي عوانة "أو آوى محدثا" وهذه الزيادة صحيحة إلا أن عاصما لم يسمعها من أنس كما سيأتي بيان ذلك في كتاب الاعتصام قوله: "فعليه لعنة الله" فيه جواز لعن أهل المعاصي والفساد، لكن لا دلالة فيه على لعن الفاسق المعين. وفيه أن المحدث والمؤوى للمحدث في الإثم سواء. والمراد بالحدث والمحدث الظلم والظالم على ما قيل، أو ما هو أعم من ذلك. قال عياض: واستدل بهذا على أن الحدث في المدينة من الكبائر، والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغة في الإبعاد عن رحمة الله. قال: والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر، وليس هو كلعن الكافر. حديث أنس في بناء المسجد، أورد منه طرفا، وقد مضى في الصلاة، وسيأتي بتمامه في أول المغازي إن شاء الله تعالى، وقد بينت المراد بإيراده هنا في الكلام على الحديث الأول وهو أن ذلك كان قبل التحريم، والله أعلم. قوله: "حدثنا إسماعيل بن عبد الله" هو ابن أبي أويس، وأخوه اسمه عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال، وقد سمع إسماعيل منه وروى كثيرا عن أخيه عنه، والإسناد كله مدنيون. قوله: "عن سعيد المقبري عن أبي هريرة" قال الإسماعيلي: رواه جماعة عن عبيد الله هكذا. وقال عبدة بن سليمان: عن عبيد الله عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة زاد فيه: "عن أبيه". قوله: "حرم ما بين لابتي المدينة" كذا للأكثر بضم أول حرم على البناء لما لم يسم فاعله. وفي رواية المستملي: "حرم" بفتحتين على أنه خبر مقدم وما بين لابتي المدينة المبتدأ، ويؤيد الأول ما رواه أحمد عن محمد ابن عبيد عن عبيد الله بن عمر في هذا الحديث بلفظ: "إن الله عز وجل حرم على لساني ما بين لابتي المدينة" ونحوه للإسماعيلي من طريق أنس بن عياض عن عبيد الله، وقد تقدم القول في اللابتين في الحديث الأول، وزاد مسلم في بعض طرقه: "وجعل اثني عشر ميلا
(4/84)

حول المدينة حمى" وروى أبو داود من حديث عدي ابن زيد قال: "حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ناحية من المدينة بريدا بريدا، لا يخبط شجره ولا يعضد إلا ما يساق به الجمل". قوله: "وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بنى حارثة" في رواية الإسماعيلي: "ثم جاء بني حارثة وهم في سند الحرة" أي في الجانب المرتفع منها، وبنو حارثة بمهملة ومثلثة بطن مشهور من الأوس، وهو حارثة ابن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، وكان بنو حارثة في الجاهلية وبنو عبد الأشهل في دار واحدة، ثم وقعت بينهم الحرب فانهزمت بنو حارثة إلى خيبر فسكنوها، ثم اصطلحوا فرجع بنو حارثة فلم ينزلوا في دار بني عبد الأشهل وسكنوا في دارهم هذه وهي غربي مشهد حمزة. قوله: "بل أنتم فيه" زاد الإسماعيلي: "بل أنتم فيه:" أعادها تأكيدا. وفي هذا الحديث جواز الجزم بما يغلب على الظن، وإذا تبين أن اليقين على خلافه رجع عنه. قوله: "حدثنا عبد الرحمن" هو ابن مهدي، وسفيان هو الثوري. قوله: "عن أبيه" هو يزيد بن شريك بن طارق التيمي، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين كوفيون في نسق، وهذه رواية أكثر أصحاب الأعمش عنه، وخالفهم شعبة فرواه عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن علي، أخرجه أحمد والنسائي. قال الدار قطني في "العلل" : والصواب رواية الثوري ومن تبعه. قوله: "ما عندنا شيء" أي مكتوب، وإلا فكان عندهم أشياء من السنة سوى الكتاب، أو المنفي شيء اختصوا به عن الناس. وسبب قول على هذا يظهر مما أخرجه أحمد من طريق قيادة عن أبي حسان الأعرج "أن عليا كان يأمر بالأمر فيقال له: قد فعلناه. فيقول: صدق الله ورسوله. فقال له الأشتر: إن هذا الذي تقول أهو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما عهد إلي شيئا خاصة دون الناس، إلا شيئا سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفي، فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة فإذا فيها" فذكر الحديث وزاد فيه: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" وقال فيه: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين حرتيها وحماها كله، لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، ولا يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره، ولا يحمل فيها السلاح لقتال" والباقي نحوه. وأخرجه الدار قطني من وجه آخر عن قتادة عن أبي حسان عن الأشتر عن علي، ولأحمد وأبي داود والنسائي من طريق سعيد بن أبي عروبة "عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عباد قال: انطلقت أنا والأشتر إلى علي فقلنا: هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما في كتابي هذا. قال وكتاب في قراب سيفه، فإذا فيه: المؤمنون تتكافأ دماؤهم" فذكر مثل ما تقدم إلى قوله في عهده "من أحدث حدثا - إلى قوله - أجمعين". ولم يذكر بقية الحديث. ولمسلم من طريق أبي الطفيل "كنت عند علي فأتاه رجل فقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليك؟ فغضب ثم قال: ما كان يسر إلي شيئا يكتمه عن الناس، غير أنه حدثني بكلمات أربع" وفي رواية له "ما خصنا بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا، فأخرج صحيفة مكتوبا فيها: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثا" وقد تقدم في كتاب العلم من طريق أبي جحفية "قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر". والجمع بين هذه الأخبار أن الصحيفة المذكورة كانت مشتملة على مجموع ما ذكر، فنقل كل راو بعضها، وأتمها سياقا طريق أبي حسان كما ترى، والله أعلم. قوله: "المدينة حرم"
(4/85)

كذا أورده مختصرا، وسيأتي في الجزية بزيادة في أوله قال فيها "الجراحات وأسنان الإبل". قوله: "من أحدث فيها حدثا" يقيد به مطلق ما تقدم في رواية قيس بن عباد، وأن ذلك يختص بالمدينة لفضلها وشرفها. قوله: "لا يقبل منه صرف ولا عدل" بفتح أولهما، واختلف في تفسيرهما فعند الجمهور الصرف الفريضة والعدل النافلة، ورواه ابن خزيمة بإسناد صحيح عن الثوري، وعن الحسن البصري بالعكس، وعن الأصمعي الصرف التوبة والعدل الفدية، وعن يونس مثله لكن قال: الصرف الاكتساب، وعن أبي عبيدة مثله لكن قال: العدل الحيلة وقيل المثل، وقيل الصرف الدية والعدل الزيادة عليها، وقيل بالعكس، وحكى صاحب "المحكم" الصرف الوزن والعدل الكيل، وقيل الصرف القيمة والعدل الاستقامة، وقيل الصرف الدية والعدل البديل، وقيل الصرف الشفاعة والعدل الفدية لأنها تعادل الدية وبهذا الأخير جزم البيضاوي، وقيل الصرف الرشوة والعدل الكفيل، قاله أبان بن ثعلب وأنشد: لا نقبل الصرف وهاتوا عدلا فحصلنا على أكثر من عشرة أقوال، وقد وقع في آخر الحديث في رواية المستملى "قال أبو عبد الله: عدل فداء" وهذا موافق لتفسير الأصمعي، والله أعلم. قال عياض: معناه لا يقبل قبول رضا وإن قبل قبول جزاء، وقيل يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بهما، وقد يكون معنى الفدية أنه لا يجد يوم القيامة فدى يفتدى به بخلاف غيره من المذنبين بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري. وفي الحديث رد لما تدعيه الشيعة بأنه كان عند علي وآل بيته من النبي صلى الله عليه وسلم أمور كثيرة أعلمه بها سرا تشتمل على كثير من قواعد الدين وأمور الإمارة. وفيه جواز كتابة العلم. قوله: "ذمة المسلمين واحدة" أي أمانهم صحيح فإذا أمن الكافر واحد منهم حرم على غيره التعرض له. وللأمان شروط معروفة. وقال البيضاوي: الذمة العهد، سمي بها لأنه يذم متعاطيها على إضاعتها. وقوله يسعى 1بها أي يتولاها ويذهب ويجئ، والمعنى أن ذمة المسلمين سواء صدرت من واحد أو أكثر شريف أو وضيع، فإذا أمن أحد من المسلمين كافرا وأعطاه ذمة لم يكن لأحد نقضه، فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد، لأن المسلمين كنفس واحدة، وسيأتي البحث في ذلك في كتاب الجزية والموادعة. وقوله: "فمن أخفر" بالخاء المعجمة والفاء أي نقض العهد، يقال خفرته بغير ألف: أمنته، وأخفرته: نقضت عهده. قوله: "ومن يتولى قوما بغير إذن مواليه" لم يجعل الأذن شرطا لجواز الادعاء، وإنما هو لتأكيد التحريم، لأنه إذا استأذنهم في ذلك منعوه وحالوا بينه وبين ذلك، قاله الخطابي وغيره، ويحتمل أن يكون كنى بذلك عن بيعه، فإذا وقع بيعه جاز له الانتماء إلى مولاه الثاني وهو غير مولاه الأول، أو المراد موالاة الحلف فإذا أراد الانتقال عنه لا ينتقل إلا بإذن. وقال البيضاوي: الظاهر أنه أراد به ولاء العتق لعطفه على قوله: "من ادعى إلى غير أبيه" والجمع بينهما بالوعيد، فإن العتق من حيث أنه لحمة كلحمة النسب، فإذا نسب إلى غير من هو له كان كالدعي الذي تبرأ عمن هو منه وألحق نفسه بغيره فيستحق به الدعاء عليه بالطرد والإبعاد عن الرحمة. ثم أجاب عن الإذن بنحو ما تقدم وقال: ليس هو للتقييد، وإنما هو للتنبيه على ما هو المانع، وهو إبطال حق مواليه. فأورد الكلام على ما هو الغالب. وسيأتي البحث في ذلك في كتب الفرائض إن شاء الله تعالى. "تنبيه": رتب المصنف أحاديث الباب ترتيبا حسنا، ففي حديث أنس التصريح بكون المدينة حرما، وفي حديثه الثاني تخصيص النهي
ـــــــ
1 في هامش طبعة بولاق: وقوله يسعى الخ لعل وقعت له نسخة نصها ذمة المسلمين واحدة يسعى أدناهم فمن أخفر الخ .
(4/86)

عن قطع الشجر بما لا ينبته الآدميون، وفي حديث أبي هريرة بيان ما أجمل من حد حرمها في حديث أنس حيث قال كذا وكذا، فبين في هذا أنه ما بين الحرتين، وفي حديث على زيادة تأكيد التحريم وبيان حد الحرم أيضا.
(4/87)

باب فضل المدينة و النها تنفى الناس
...