باب: قَوْلِ اللَّهِ عز وجل [22 النساء]: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
 
وَيُذْكَرُ أَنَّ شُرَيْحًا وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَطَاوُسًا وَعَطَاءً وَابْنَ أُذَيْنَةَ أَجَازُوا إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَحَقُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ الرَّجُلُ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ الْآخِرَةِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَكَمُ: إِذَا أَبْرَأَ الْوَارِثَ مِنْ الدَّيْنِ بَرِئَ. وَأَوْصَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنْ لاَ تُكْشَفَ امْرَأَتُهُ الْفَزَارِيَّةُ عَمَّا أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ إِذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: كُنْتُ أَعْتَقْتُكَ جَازَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَ مَوْتِهَا: إِنَّ زَوْجِي
(5/374)

قَضَانِي وَقَبَضْتُ مِنْهُ جَازَ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لاَ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لِسُوءِ الظَّنِّ بِهِ لِلْوَرَثَةِ ثُمَّ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْوَدِيعَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَقَدْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ يَحِلُّ مَالُ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "آيَةُ الْمُنَافِقِ إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى [58 النساء]: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فَلَمْ يَخُصَّ وَارِثًا وَلاَ غَيْرَهُ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
2749- حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع حدثنا إسماعيل بن جعفر حدثنا نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان وإذا وعد أخلف"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أراد المصنف - والله أعلم - بهذه الترجمة الاحتجاج بما اختاره من جواز إقرار المريض بالدين مطلقا، سواء كان المقر له وارثا أو أجنبيا. ووجه الدلالة أنه سبحانه وتعالى سوى بين الوصية والدين في تقديمهما على الميراث ولم يفصل، فخرجت الوصية للوارث بالدليل الذي تقدم، وبقي الإقرار بالدين على حاله، وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} متعلق بما تقدم من المواريث كلها إلا بما يليه وحده، وكأنه قيل قسمة هذه الأشياء تقع من بعد وصية والوصية هنا المال الموصى به، وقوله: {يُوصِي بِهَا} هذه الصفة تقيد الموصوف، وفائدته أن يعلم أن للميت أن يوصي، قاله السهيلي، قال: وأفاد تنكير الوصية أنها مندوبة، إذ لو كانت واجبة لقال من بعد الوصية، كذا قال. قوله: "ويذكر أن شريحا وعمر بن عبد العزيز وطاوسا وعطاء وابن أذينة أجازوا إقرار المريض بدين" كأنه لم يجزم بالنقل عنهم لضعف الإسناد إلى بعضهم، فأما أثر شريح فوصله ابن أبي شيبة عنه بلفظ: "إذا أقر في مرض الموت لوارث بدين لم يجز إلا ببينة، وإذا أقر لغير وارث جاز" وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف، وأخرجه من طريق آخر أضعف من هذه، ولكن سيأتي له إسناد أصح من هذا بعد. وأما عمر بن عبد العزيز فلم أقف على من وصله عنه، وأما طاوس فوصله ابن أبي شيبة أيضا عنه بلفظ: "إذا أقر لوارث جاز" وفي الإسناد ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. وأما قول عطاء فوصله ابن أبي شيبة عنه بمثله ورجال إسناده ثقات، وأما ابن أذينة واسمه عبد الرحمن وكان قاضي البصرة وأبوه بالمهملة مصغر وهو تابعي ثقة مات سنة خمس وتسعين من الهجرة ووهم من ذكره في الصحابة وأثره هذا وصله ابن أبي شيبة أيضا من طريق قتادة عنه "في الرجل يقر لوارث بدين قال: يجوز" ورجال إسناده ثقات. قوله: "وقال الحسن: أحق ما تصدق به الرجل آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة" هذا أثر صحيح رويناه بعلو في مسند الدارمي من طريق قتادة قال: "قال ابن سيرين عن شريح: لا يجوز إقرار لوارث، قال وقال الحسن: أحق ما جاز عليه عند موته أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا". قوله: "وقال إبراهيم والحكم: إذا أبرأ الوارث من الدين بريء" وصله ابن أبي شيبة من طريق الثوري عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن إبراهيم "في المريض إذا أبرأ الوارث برئ" وعن مطرف عن الحكم مثله. قوله: "وأوصى رافع بن خديج أن لا تكشف امرأته الفزارية عما أغلق عليه بابها" في رواية المستملي والسرخسي "عن مال أغلق عليه بابها" ولم أقف على هذا الأثر موصولا بعد. قوله: "وقال
(5/375)

الحسن إذا قال لمملوكه عند الموت: كنت أعتقتك جاز" لم أقف على من وصله وهو على طريقة الحسن في تنفيذ إقرار المريض مطلقا. قوله: "وقال الشعبي: إذا قالت المرأة عند موتها إن زوجي قضاني وقبضت منه جاز"، قال ابن التين: وجهه أنها لا تتهم بالميل إلى زوجها في تلك الحال، ولا سيما إذا كان لها ولد من غيره. قوله: "وقال بعض الناس لا يجوز إقراره" أي المريض "لسوء الظن به للورثة" وفي رواية المستملي: "بسوء الظن" بالموحدة بدل اللام. قوله: "ثم استحسن فقال: يجوز إقراره بالوديعة والبضاعة والمضاربة" قالا ابن التين: إن أراد هذا القائل ما إذا أقر بالمضاربة مثلا للوارث لزمه التناقض وإلا فلا، وفرق بعض الحنفية بألا ربح المال في المضاربة مشترك بين العامل والمالك فلم يكن كالدين المحض. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن إقرار المريض لغير الوارث جائز، لكن إن كان عليه دين في الصحة فقد قالت طائفة منهم النخعي وأهل الكوفة: يبدأ بدين الصحة ويتحاص أصحاب الإقرار في المرض، واختلفوا في إقرار المريض للوارث فأجازه مطلقا الأوزاعي وإسحاق وأبو ثور، وهو المرجح عند الشافعية، وبه قال مالك إلا أنه استثنى ما إذا أقر لبنته ومعها من يشاركها من غير الولد كابن العم مثلا، قال: لأنه يتهم في أن يزيد بنته وينقص ابن عمه من غير عكس، واستثني ما إذا أقر لزوجته التي يعرف بمحبتها والميل إليها وكان بينه وبين ولده من غيرها تباعد ولا سيما إن كان له منها في تلك الحالة ولد، وحاصل المنقول عن المالكية مدار الأمر على التهمة وعدمها فإن فقدت جاز وإلا فلا؛ وهو اختيار الروياني من الشافعية. وعن شريح والحسن بن صالح لا يجوز إقراره لوارث إلا لزوجته بصداقها، وعن القاسم وسالم والثوري والشافعي في قول زعم ابن المنذر أن الشافعي رجع عن الأول إليه، وبه قال أحمد لا يجوز إقرار المريض لوارثه مطلقا لأنه منع الوصية له فلا يأمن أن يزيد الوصية له فيجعلها إقرارا، واحتج من أجاز مطلقا بما تقدم عن الحسن أن التهمة في حق المحتضر بعيدة، وبالفرق بين الوصية والدين لأنهم اتفقوا على أنه لو أوصى في صحته لوارثه بوصية وأقر له بدين ثم رجع أن رجوعه عن الإقرار لا يصح، خلاف الوصية فيصح رجوعه عنها، واتفقوا على أن المريض إذا أقر بوارث صح إقراره مع أنه يتضمن الإقرار له بالمال، وبأن مدار الأحكام على الظاهر فلا يترك إقراره للظن المحتمل، فإن أمره فيه إلى الله تعالى. قوله: "وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" هو طرف من حديث وصله المصنف في الأدب من وجهين عن أبي هريرة، وقصد بذكره هنا الرد على من أساء الظن بالمريض فمنع تصرفه ومعني قوله: "أكذب الحديث" أي أكذب في الحديث من غيره لأن الصدق والكذب يوصف بهما القول لا الظن. قوله: "ولا يحل مال المسلمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: آية المنافق إذا ائتمن خان" هو طرف من حديث تقدم شرحه في كتاب الإيمان، ووجهه تعلقه بالرد على من منع إجازة إقرار المريض من جهة أنه دال على ذم الخيانة، فلو ترك ذكر ما عليه من الحق وكتمه لكان خائنا للمستحق فلزم من وجوب ترك الخيانة وجوب الإقرار لأنه إذا كتم صار خائنا، ومن لم يعتبر إقراره كان حمله على الكتمان. قوله: "وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فلم يخصن وارثا ولا غيره" أي لم يفرق بين الوارث وغيره في الأمر بأداء الأمانة، فيصح الإقرار سواء كان لوارث أو غيره. قوله: "فيه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني حديث آية المنافق الذي علقه مختصرا، وقد تقدم موصولا بتمامه في كتاب الإيمان ولفظه: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا. وفيه وإذا ائتمن خان" وحديث أبي هريرة الذي أورده في هذا الباب بلفظ: "آية المنافق ثلاث" تقدم هناك أيضا بإسناده
(5/376)

ومتنه، وتقدم شرحه أيضا والله المستعان".
(5/377)