باب: إِذَا وَقَفَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ
 
لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْقَفَ فَقَالَ: لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَلَمْ يَخُصَّ إِنْ وَلِيَهُ عُمَرُ أَوْ غَيْرُهُ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِأَبِي طَلْحَةَ أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَفْعَلُ فَقَسَمَهَا فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ"
قوله: "باب إذا وقف شيئا قبل أن يدفعه إلى غيره فهو جائز" أي صحيح وهو قول الجمهور، وعن مالك لا يتم الوقف إلا بالقبض، وبه قال محمد بن الحسن والشافعي في قول، واحتج الطحاوي للصحة بأن الوقف شبيه بالعتق لاشتراكهما في أنهما تمليك لله تعالى فينفذ بالقول المجرد عن القبض، ويفارق الهبة في أنها تمليك لآدمي فلا تتم إلا بقبضه، واستدل البخاري في ذلك بقصة عمر فقال: لأن عمر أوقف وقال: "لا جناح على من وليه أن يأكل" ولم يخص إن وليه عمر أو غيره، وفي وجه الدلالة منه غموض، وقد تعقب بأن غاية ما ذكر عن عمر هو أن كل من ولي الوقف أبيح له التناول، وقد تقدم ذلك في الترجمة التي قبلها، ولا يلزم من ذلك أن كل أحد يسوغ له أن يتولى الوقف المذكور، بل الوقف لا بد له من متول، فيحتمل أن يكون صاحبه ويحتمل أن يكون غيره فليس في قصة عمر ما يعين أحد الاحتمالين، والذي يظهر أن مراده أن عمر لما وقف ثم شرط لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجه عن يده فكان تقريره لذلك دالا على صحة الوقف وإن لم يقبضه الموقوف عليه، وأما ما زعمه ابن التين من أن عمر دفع الوقف لحفصة فمردود كما سأوضحه في "باب الوقف كيف يكتب" إن شاء الله تعالى. "تنبيه": قوله: "أوقف" كذا ثبت للأكثر وهي لغة نادرة، والفصيح المشهور "وقف" بغير ألف، ووهم من زعم أن أوقف لحن، قال ابن التين قد ضرب على الألف في بعض النسخ، وإسقاطها صواب، قال: ولا يقال أوقف إلا لمن فعل شيئا ثم نزع عنه. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأبي طلحة: أرى أن تجعلها في الأقربين" الحديث تقدم موصولا قريبا، وهذا لفظ إسحاق بن أبي طلحة، قال الداودي: ما استدل به البخاري على صحة الوقف قبل القبض من قصة عمر وأبي طلحة حمل الشيء على ضده وتمثيله بغير جنسه ودفع للظاهر عن وجهه، لأنه هو روى أن عمر دفع الوقف لابنته، وأن أبا طلحة دفع صدقته إلى أبي بن كعب وحسان، وأجاب ابن التين بأن البخاري إنما أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج عن أبي طلحة ملكه بمجرد قوله: "هي لله صدقة" ولهذا يقول مالك: إن الصدقة تلزم بالقول وإن كان يقول إنها لا تتم إلا بالقبض، نعم استدلاله بقصة عمر معترض وانتقاد الداودي صحيح انتهى، وقد قدمت توجيهه، وأما ابن بطال فنازع في الاستدلال بقصة أبي طلحة بأنه يحتمل أن تكون خرجت من يده ويحتمل أنها استمرت فلا دلالة فيها،
(5/384)

وأجاب ابن المنير بأن أبا طلحة أطلق صدقة أرضه وفوض إلى النبي صلى الله عليه وسلم مصرفها، فلما قال له "أرى أن تجعلها في الأقربين" ففوض له قسمتها بينهم صار كأنه أقرها في يده بعد أن مضت الصدقة. قلت: وسيأتي التصريح بأن أبا طلحة هو الذي تولى قسمتها وبذلك يتم الجواب، وقد باشر أبو طلحة تعيين مصرفها تفصيلا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان عين له جهة المصرف لكنه أجمل فاقتصر على الأقربين، فلما لم يمكن أبا طلحة أن يعم بها الأقربين لانتشارهم اقتصر على بعضهم فخص بها من اختار منهم.
(5/385)

باب إذا قال: داري لله، ولم يبين للفقراء أو غيرهم فهو جائز ويعطها للأقربين أو حيث أراد
...