باب الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ
 
3031- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ
(6/158)

عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّ هَذَا يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَنَّانَا وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ قَالَ وَأَيْضًا وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ قَالَ فَإِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاهُ فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ قَالَ فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ".
قوله: "باب الكذب في الحرب" ذكر فيه حديث جابر في قصة قتل كعب بن الأشرف. حديث جابر في قصة قتل كعب بن الأشرف وسيأتي مطولا مع شرحه في كتاب المغازي. قال ابن المنير: الترجمة غير مطابقة، لأن الذي وقع منهم في قتل كعب ابن الأشرف يمكن أن يكون تعريضا، لأن قولهم "عنانا" أي كلفنا بالأوامر والنواهي، وقولهم "سألنا الصدقة" أي طلبها منا ليضعها مواضعها، وقولهم "فنكره أن ندعه إلخ" معناه نكره فراقه، ولا شك أنهم كانوا يحبون الكون معه أبدا انتهى. والذي يظهر أنه لم يقع منهم فيما قالوه بشيء من الكذب أصلا، وجميع ما صدر منهم تلويح كما سبق، لكن ترجم بذلك لقول محمد بن مسلمة للنبي صلى الله عليه وسلم أولا "ائذن لي أن أقول، قال قل" فإنه يدخل فيه الإذن في الكذب تصريحا وتلويحا وهذه الزيادة وإن لم تذكر في سياق حديث الباب فهي ثابتة فيه كما في الباب الذي بعده، على أنه لو لم يرد ذلك لما كانت الترجمة منافرة للحديث، لأن معناها حينئذ باب الكذب في الحرب هل يسوغ مطلقا أو يجوز منه الإيماء دون التصريح، وقد جاء من ذلك صريحا ما أخرجه الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعا: "لا يحل الكذب إلا في ثلاث: تحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس" وقد تقدم في كتاب الصلح ما في حديث أم كلثوم بنت عقبة لهذا المعنى من ذلك، ونقل الخلاف في جواز الكذب مطلقا أو تقييده بالتلويح، قال النووي: الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة، لكن التعريض أولى. وقال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص وفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه وليس للعقل فيه مجال، ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالا انتهى. ويقويه ما أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أنس في قصة الحجاج ابن علاط الذي أخرجه النسائي وصححه الحاكم في استئذانه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عنه ما شاء لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة وأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، وإخباره لأهل مكة أن أهل خبير هزموا المسلمين وغير ذلك مما هو مشهور فيه، ولا يعارض ذلك ما أخرجه النسائي من طريق مصعب بن سعد عن أبيه في قصة عبد الله بن أبي سرح، وقول الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم لما كف عن بيعته "هلا أومأت إلينا بعينك، قال: ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" لأن طريق الجمع بينهما أن المأذون فيه بالخداع والكذب في الحرب حالة الحرب خاصة، وأما حال المبايعة فليست بحال حرب، كذا قال، وفيه نظر لأن قصة الحجاج بن علاط أيضا لم تكن في حال حرب. والجواب المستقيم أن تقول: المنع مطلقا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتعاطى شيئا من ذلك وإن كان مباحا لغيره، ولا يعارض ذلك ما تقدم من أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها، فإن المراد أنه كان يريد أمرا فلا يظهره كأن يريد أن يغزو وجهة الشرق فيسأل عن أمر في جهة الغرب، ويتجهز للسفر فيظن من يراه ويسمعه أنه يريد جهة الغرب، وأما أن يصرح بإرادته الغرب وإنما مراده الشرق فلا، والله أعلم. وقال ابن بطال: سألت بعض شيوخي عن معنى هذا الحديث فقال:
(6/159)

الكذب المباح في الحرب ما يكون من المعاريض لا التصريح بالتأمين مثلا، قال وقال المهلب: موضع الشاهد للترجمة من حديث الباب قول محمد بن مسلمة "قد عنانا، فإنه سألنا الصدقة" لأن هذا الكلام يحتمل أن يفهم أن اتباعهم له إنما هو للدنيا فيكون كذبا محضا، ويحتمل أن يريد أنه أتعبنا بما يقع لنا من محاربة العرب. فهو من معاريض الكلام، وليس فيه شيء من الكذب الحقيقي الذي هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه. ثم قال: ولا يجوز الكذب الحقيقي في شيء من الدين أصلا. قال: ومحال أن يأمر بالكذب من يقول: "من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" انتهى، وقد تقدم جواب ذلك بما يغني عن إعادته.
(6/160)